في عصور مضت، كان من معالم المدن أن تسور بأسوار حماية لأهلها من الأعداء، وعلى قدر صلابة تلك الأسوار وحسن تشييدها، تكون قوة المدينة وهيبتها. وسور الصين على ذلك من الشاهدين.

لكن في زماننا، زمان الطائرات دون طيار، والصواريخ العابرة للقارات لا للمدن، صارت تلك الأسوار رموز سيادة ومَحلات سياحة.

هذا خبر المدن وأسوارها، فما شأن العلم؟ هل للعلم أسوار؟ وإن كانت فهل لا زالت؟ أم طالها ما طال أسوار المدن في زمن انفتاح تكنولوجي صارخ وفتاوى علمية عابرة للقارات؟

ولنلتمس قبسا من مشكاة النبوة نستشف منها جوابا لن نعدمه. يقول الناطق عن غير هوى صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» رواه البخاري.

وهذا حديث يذكر أحد أسوار العلم، ألا وهم العلماء، وهذا السور إن هدم احتمى الناس بأشباهٍ أدعياءٍ، فكان لهم منهم الهلاك من حيث ظنوا النجاة.

ومعلوم أن السور جماع حجار وكثرة كاثرة منها، وكذلك سور العلم، فهو لا يقوم بعالم ولا قلة قليلة من العلماء بل بجيش علمي كأنه بنيان مرصوص. ولا تحسبن هذا السور للدفاع فقط، بل هو علامة على هيبة العلم، وتخويف لمن ابتغى التسور بغير إذن أو أهلية. 

وللأسف هذا ما يلاحظ في هذا الزمان، فلا تكاد تخلو بلاد من بلاد الإسلام من رهط تشبعوا بما لم يعطوا، وانتسبوا للعلم وهو البريء منهم براءة الذئب من دم يوسف.

واحر قلباه كيف تغير الزمان، تظهر على الساحة قضية، وبدل أن ينبري لها علماء أكفاء يتصدى لها هؤلاء المجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فتنصب لهم المنابر وتعقد لآرائهم الندوات وهي والله مثيلة دار ندوة قريش حيث كانت تحاك المكائد حقدا وحسدا. وإن دحضها أحد وبين عورها وزللها اتهم واستبيح عرضه ولم لا يتم سجنه وتعذيبه، ويقال له: لم تحجرون واسعا، وتحتكرون العلم لكم...

وهذا ذل كان قدرنا أن نعيشه، فهل نرضى أن يكون قدر الأبناء والأحفاد؟

نعم تخلت المؤسسات الرسمية عن دورها في الذود عن حياض العلم وتشييد أسواره إلا ما يخدم مصالحها، فبقي على عموم الناس شرف هذا الذود، فينذرون أبناء للعلم وللعلم فقط، لا لنيل الشهادات بحثا عن الوظائف، أوطمعا في الهجرة إلى بلدان صنعت لسرقة عقول الأمة لا لاستثمار علمها ولكن لطمسها وشغلها مقابل لعاعة يزينها فقر وذل أوطان.

 وهذا الدكتور محمد عمارة رحمة الله عليه يضرب لنا مثلا لهذا النذر فيقول: "نذرني أبي للعلم جنينًا، وكان الوفاء واجبي منذ ولدت". وهذا يحتاج منا تربية فكرية للجيل، نغرس بها فيهم مسؤولية العلم لا حب العلم فقط.

وأما عنا نحن فواجبنا تمحيص الخبيث من الطيب وذلك أمر يسير قاعدته: أن لا نقبل كلام متكلم في غير فنه من عنديته بغير حجة. ومتى التزمنا هذه القاعدة كفينا المتخصصين وأهل العلم الاشتغال بالردود عن تلك التشغيبات التي يراد منها تأخير أمة تأخرت، وإفساد فكر العامة الذين غلب على أكثرهم معيار الشهرة في قبول الآراء.

ألا وليُعْلم أن لكل علم أصولا، من لم يحصلها فلا ثقة بعلمه، وإن كنت تجهل تلك الأصول ، فأدنى درجات مسؤوليتك العلمية ألا تقبل في علم كلام غير أهله. وهذا واجبك الذي لا ينوب عنك فيه أحد ولا يسعك فيه تقليد أحد.