كان المسكين يقول مفتخرًا: قراري قطعيٌّ في هذه المسألة..  كلمتي واحدةٌ لا تُثَنّى.. أنا رأيي لا يتغير أبدًا..أفكاري لا تتبدل مهما حاولتم،ونماذج حازمة من هذه العبارات الشجاعة، يُرددها في كل موقف حياتي يواجهه، ويكررها لكل من يراجِعه ويحاوره ويُسائله، حتى لو كان الموقف حول شراء بعض أنواع الفواكه والخُضار، ولو كان المُحاوِر ناصحًا له بأنْ يخلد إلى النوم في وقتٍ لم يعتد على النوم فيه، وربما قضايا وتفاصيل أتفه من هذه الاحتكاكات الحياتية العابرة، التي لا تحتاج عادةً إلى جهد في المدافعة والمعاندة، لكنَّ حَزمَهُ وعُنفهُ وثَباتهُ لا يتجزَّأ مهما اختلفتْ الموضوعات، ومهما تباينتْ التفاصيل الحياتية المتكررة، فقد اعتاد على هذا النحو من الإصرار والمفاصلة.

سبحان الله! يظنُّ البعض أنَّ مجرد الإصرار على الرأي والقرار فضيلة ومكرمة يستحق عليها التبجيل والثناء، يشعر بنشوة الانتصار وزهو الإنجاز بمجرد أنه لم يراجع الرأي وينظر في صلاحيته للتبني والصمود، يمتلئ صدره رِفعةً وتعاليًا لأنه لم يتوقف لحظة لإعادة النظر في قراره، إنها مجرد مشاعر خائبة، مُوهِمَة للنفس بشموخها، تكتشف تفاهتها العقولُ متى ما حاولتْ الرجوع خطوة إلى الخلف، لتكتمل الصورة، وتتضح الحقائق بشكل أوسع.

أنا وأنت... قد نجد أنفسنا في أحيانٍ كثيرة وفي محطات مختلفة، نُدافع ونُصارع، وربما نُحارب بشراسة مفرطة لمصلحة أفكارٍ نتبناها وهي عديمة القيمة تمامًا، أو قابلة للتنازل على أقل تقدير، وربما لو حاولنا مراجعتها مرةً أو مرات لاكتشفنا هذا القصور في الرؤية، وتبين خطأ الطريق الذي نَازلنا الآخرين لأجل الصمود على سكته.

أعمقُ الناس جهلًا في هذه الحياة أقدرهم إصرارًا على التمسك بالرأي التافه والأفكار البالية، وأكثرهم صمودًا ومقاومة للتغيير والتحول عن الخطأ، وهم الأجدر بعدم الخضوع للصواب الذي يخالف ما اعتادوه من آراء وقرارات في مسيرة حياتهم؛ لأن العقول كلما كانت أقل معرفةً ووعيًا كانت عَصِيَّةً أكثر على المراجعة والتدقيق والتمحيص والبحث عن السداد والرشد في الرأي، وهي قاصرة دائمًا عن استيعاب الأفكار من زواياها المختلفة، وبالتالي لن تتمكن من تحديد محل الصواب بالضبط، والمشكلة الأكبر لن تحاول التأني في اتخاذ القرار ومراجعته بعد العزم عليه.

ثم إن هذا النوع من العقول يصعب عليه التمييز بين المُسَلَّمات القطعية وبين الآراء القابلة للنظر، وعلى هذه القاعدة نجد عنفهم دائم، وإقناعهم مرير، وصمودهم صلد مثل الصخور فيما يعرفون وفيما لا يعرفون، في المعتقدات والثقافات وفي الحياة العامة، كلها تتمثل عندهم في نموذج يتيم واحد، كلمتي لا تكون اثنين.

الذين يمارسون هذه الأدوار هم في الحقيقة لا يجهلون الطريق السوي في تبني الأفكار وتصنيفها في الخارج فحسب، وإنما يجهلون أنفسهم وقدرات عقولهم أيضًا، يجهلون حجم إمكاناتهم الفكرية ومحدوديتها في ميدان الوعي والفهم والعمق، لذلك يظنون أنهم الأصلح دائمًا لاختيار القرار السليم وتبنيه، ويعتقدون بأنهم الأكثر وعيًا في فهم الأحداث وتحليل المواقف والتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حياتهم؛ لذلك تسهل عليهم المجازفة والمغامرة في تفاصيل كثيرة.

عقولنا وأفكارنا ليس من جنس المتحجرات الصخرية التي تقاوم الرِأيَّ والنمو والتصدع وقبول الجديد، عقولنا خلقها الله لتتمتع بطاقةٍ هائلةٍ من المرونة واللياقة والقدرة على النمو المتواصل؛ من أجل أن تكون مستعدة دائمًا لقبول الحق الذي تجهله، والسعي الجاد إلى حُسن الفهم الذي تعجز عن إدراكه، والوصول إلى ما هو أفضل دائمًا في مجال الفكر والتفكير والأفهام والقناعات، في مختلف مجالات الحياة.

إنَّ معتقداتنا وقيمنا المبنية على الدليل القاطع والبرهان الواضح والحجة الدامغة، هي بكل تأكيد غير قابلة للمساومة والتنازل، لكنَّ مساحة وجودها في تفاعلات حياتنا اليومية العامة وعلاقاتنا مع الأشياء والأشخاص من حولنا ضيقة جدًّا، ومن اللازم المحافظة عليها وتجديد إيماننا بأهميتها وحمايتها من التفتت والذوبان في صراع المناهج والأفكار.

 لكن المساحة الأكبر هي للأفكار والآراء التي تكون عادةً محل نظر وتأمل وقبول ورد، وهي تتطلب كثيرًا من المراجعة وفي أوقات مختلفة ومتكررة؛ لأنَّ تبنيها بقوة ومن غير تمحيص يجعلها صامدة حتى مع عدم أهليتها للوقوف بين الأفكار ذات القيمة، وبذلك نكون قد ألزمنا عقولنا بنمط غير سليم من التفكير، وأجبرنا الذاكرة على الاحتفاظ ببيانات ونتائج غير مبنية على حُجَّة منطقية متينة، وسيترتب على ذلك كثير من النشاطات والانفعالات والسلوكيات غير الرشيدة، لأنها مستمدة من هذا السياق الرخو، ومنشطرة عن هذه الكتلة الهشة.

إننا نحتاج -في هذا الوقت من مسيرة الحياة بالذات- جيلًا لا يفكر بطريقة آلية صارمة، غير مُزَوّد ببرمجة عقلية مُسبقة، لأنها ستعيِق عملية الفهم والاتصال والتحديث دائمًا، العقول المبرمجة تفقد قيمتها في مواقف كثيرة، خصوصًا مع عالم متغير متجدد يحتاج التعديل وحُسن الفهم وإعادة التركيب والترتيب كل يوم، بل لا نكون مبالغين إن قلنا كل لحظة.

وليس دائمًا يكون المستوى التعليمي المتقدم هو الحد الفاصل في إحداث هذا النوع من الوعي وهذا الشكل من المرونة، فقد تجد بعض الذين لم يحصلوا على التعليم المتقدم بل ولا حتى المتوسط يحملون من الوعي والقدرة على تقبل المراجعة ومعاودة النظر في الأفكار أكثر من حاملي شهادات عُليا، وذلك لأن منظومة التعليم التي نعتاش على برامجها ومناهجها في أغلب مجتمعاتنا لا تسعى للنهوض بمستوى التفكير عند الفرد، ولا تراعي هذا النوع من قواعد إدارة الحياة، وبالتالي فإنَّ التقدم المعرفي المحض لا يساعد دائمًا على إنتاج آلية سليمة في التفكير.

إنَّ فرصتنا المتاحة لتنظيم هذه الزاوية من حياتنا هو محاولة فقه الحياة بطريقة أفضل، واكتشاف حجم قدراتنا العقلية ومستواها في تقييم الأفكار وتمييز الجيد من الرديء؛ لنمارس بعد ذلك مهمة الاستشارة وطلب النصيحة في الوقت الذي تعجز فيه عقولنا عن إدراك الرأي السديد والطريق الرشيد في حياتنا الخاصة والعامة.

 وما لم نُساعد أنفسنا على التقدم خطوات في هذه المسيرة، والترقي عتبات في هذا المجال، سنبقى نُعاني من كَمٍّ  هائلٍ من المتحجرات الفكرية والنماذج اليتيمة في عقولنا، تتضخم وتزداد صلابةً وتأثيرًا على مجريات حياتنا وتفاعلاتنا مع مَن حولنا وما حولنا عبر الأيام، ولن يكون حالنا أفضل بتقدم العمر ودوران السنين. 

ختامًا أقول لا أدري إن كنتُ قد ساعدتُ نفسي - بعد هذا المقال- على مراجعة جُملة من الأفكار والآراء والقرارات التي رصفتُها على رفوف الذاكرة عبر الزمن، وأتمنى أن أكون قد أوقدتُ شُعلة عند القارئ، تُبَدِّدُ بعض كُتل الظُلمة التي تُحيطنا، ولعلِّي أحدثتُ صَدعًا ولو كان غير مرئي في ذلك الرُكام الأليم من المتحجرات والنماذج اليتيمة المستقرة في مساحة اللاوعي عندنا، تعاني منها العقول والمجتمعات والأوطان على حَدٍّ سواء.