لا نكاد نعرف أمَّة من الأمم تعيش بلا رموزٍ مضيئةٍ تنير طريقها، وهيئاتٍ تعطيها قوةً ورسوخاً وامتداداً وتطوراً واتساعاً، حسب زعم كلِّ أمَّةٍ وظروفِها، والواقع يصدِّق ذلك أو يكذِّبه. حيث لا يمكن لأيِّ تجمُّعٍ بشريٍّ، أن ينطلق بدون قياداتٍ في سلَّم مجدها وتستمر في رقيِّها وصعودها.

نشهد اليوم عملية طمس الهوية يأتي ويدخل بيوتنا بدون استئذان! من خلال غزوٍ ثقافيٍّ، استهدف فكرَ الأمَّة وتراثَها وعقيدتَها وثوابَتها، وذلك من خلال التشكيك في دينها، وفي الرموز من علمائها.

كما يتخلَّل هذه المرحلة الراهنة التي نعيشها الآن، والتي تغلب عليها ملامح ضعف الأمَّة، وواقع المظالم الواقعة عليها من خصومها، هبوطٌ ملحوظٌ في أسهم كثيرٍ من الرموز الدعوية، التي كان لأسمائها رنينٌ وحضورٌ مميَّزٌ، بعد سلسلةٍ متصلةٍ من معارك فكريةٍ رخيصةٍ، ومباريات تصفية الآخرين معنوياً!. وهنا أستثني الساقطين بسبب نفاقهم للحكام، فهؤلاء لا يُلتفت إليهم، ولا وزن لهم عند أهل البصيرة والنزاهة.

يريد خصومنا أن يشكِّكوا الأمَّة في دينها، حينما يشكِّكون في الذين حملوا لنا هذا الدين بصدق من الصحابة الأطهار، والعلماء الأبرار، والدعاة الصادقين!.

ونظراً لأثر الرموز والقادة على مجتمعهم ومن حولهم، فقد أكَّد المتخصِّصون في الدراسات النفسية على أهمية أثر النموذج على الشباب والشابَّات والصغار على وجه الخصوص، ويظهر ذلك بتقليد بعض المشاهير، كلاماً وسلوكاً وحركةً وسكوناً.

إن أقصر طريق للتربية هو القدوة والرمز؛ إذ يجذب الآخرين إليه بالمحاكاة والتأسِّي والتقليد!. قال تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذكر بعض النماذج الرائعة من إخوانه السالفين عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، [الأنعام: 90].

هؤلاء الرجال المصطفَوْن من عامَّة الخلق، يرتقون صُعُداً في مدارج الكمال، وتُرشَّح أفئدتهم الكبيرة لاستقبال ما يفِدُ به الملأ الأعلى من الله تبارك في علاه، فإذا بالحكمة تسيل من ألسنتهم، والأسوة الحسنة تفيض من أعمالهم، والنزاهة تقترن بأحوالهم، وليست وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بذل المعرفة والكشف عن حقائق الكون والإنسان والوجود فحسب!. بل أن يكونوا موضع القدوة لأبناء الفئة المؤمنة، هم ومن سار على منوالهم على مدار القرون والأجيال.

وحين تقع المنكرات العامة، يكون للقيادات دورٌ مهمٌّ في إنكار هذه المنكرات والاحتساب عليها، وقد عاب الله على طائفة من أحبار أهل الكتاب ورهبانهم، كان يُنتَظرُ منهم أن يبيِّنوا الحق للناس، وينهوهم عمَّا يأتون من منكر، قال الله تباركت أسماؤه: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، [المائدة: 63]. قال الحسن: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}. هم الحكماء العلماء.

وإنكار هؤلاء ليس كإنكار غيرهم؛ فأصحاب المنكر إما أن يستجيبوا لهم ثقة في علمهم ورأيهم، أو مجاملةً وخشيةً، وحين يتجرؤون على مخالفتهم، فهم أجرأ على مخالفة غيرهم.

كما أن للقيادات العلمية الدعوية، أثراً في إنكار المنكر والنهي عنه قبل وقوعه، فوجودهم يردع كثيراً من أهل الفساد أن يغالوا في غيِّهم وفسادهم. وهذا إنما يتحقَّق حين تعرف هذه القيادات منزلتها ومكانتها، وحين تأخذ على عاتقها أن تصدع بالحق. ومن مهام هذه القيادات أيضاً اتخاذ المواقف العملية وقيادة الناس. قال الله تقدَّست صفاته:

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، [النساء: 83]. 

ها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجمع بين الأمرين في موقفه من التتار؛ فقد تردَّد الناس في حالهم، فأفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وقال:" وقتال هذا الضرب واجبٌ بإجماع المسلمين، وما يشكُّ في ذلك من عرف دين الإسلام، وعرف حقيقة أمرهم ". وقام في قتالهم وقال للناس:" إذا رأيتموني في ذلك الجانب، وعلى رأسي مصحف فاقتلوني".

وعامَّة الناس عندما تيَّقنوا أن أهل العلم أعلم الناس بالفتن وأكثرهم إدراكاً لها؛ أخذوا يلجؤون إليهم، حين تنزل فيهم الخطوب وتحلُّ في دارهم الملمَّات، وها هم أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتجهون لأبي بكر رضي الله عنه، وينصتون له حين خاض الناس في أمر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما أن سمعوا كلامه، حتى انصرفوا والسكينة تغمر قلوبهم والإيمان يعمر نفوسهم. 

وبما أن القيادات من أهل العلم لهم منزلة بين الناس، ويصدر الناس عن رأيهم؛ كان من آثارهم الإصلاح بين المتخاصمين من المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:" اذهبوا بنا نصلح بينهم".

ثمَّة محاولاتٌ جادَّة، تهدف إلى استمرار غياب الدور القياديِّ للعلماء العاملين، في أكثر بقاع العالم الإسلامي، وانسحابهم من الساحة لصالح علماء غير عاملين، أو عاملين غير علماء، لكن لهم دورٌ وظيفيٌّ!. والساحة الفكرية أنتجت مشاريعَ ودراساتٍ فكريةٍ تحليليةٍ مختلفةٍ من مشارب شتَّى، خاصَّة بعد أن أضحى العالم قريةً صغيرةً، فيها الغثُّ والسمين!

ثم إن هناك أشخاصاً اعتباريين لهم حضورٌ في أوساطهم، يقفون خلف ثوابتنا يحمونها ويذودون عن حياضها، هم في مجموعهم من الرموز والعاملين والدعاة المخلصين في مختلف بلدان العالم الإسلامي. والناس تمرُّ بهم مواطن كثيرة يلتبس فيها الحق بالباطل، وتسُود فيها الأهواء والفتن؛ وحينئذٍ يبرز دور القيادات العلمية والدعوية، لتبيِّن الحق للناس وتجلِّيه لهم. 

هذه القيادات وحدها، هي القادرة على الفهم الواعي للأفكار التي تطرَح، والكشف عن مدى مخالفتها للمنهج الربانيِّ، ومدى تأثيرها سلباً أم إيجاباً على الجيل الصاعد؛ مما قد يطرح عدداً من التساؤلات، من مثل: ما قيمة هذه الأفكار؟ وما وزنها؟ وما انعكاساتها على الشباب الناشئ؟.

أولئك رضيتهم الأمة الواعية والْتفَّت حولهم الشعوب المدركة، وحازوا احترامها فصاروا رموزاً عندها، فهؤلاء لا ينبغي أن نسقط كل يوم منهم واحداً من أعين الناس لصواب تخطَّاه بضعفه البشريِّ، وليس سمتاً لازماً أو سلوكاً ثابتاً، فالخطأ من العالِم أو الداعية لا ينبغي أن يصير خطيئة، يستباح من أجلها عرضه، ذلك أن من تركنا رأيه اليوم في مسألة سنحتاج إلى رأيه غداً في مسائل، فنحن إذا هدمنا هذا الرمز تلو أخيه، فمن يبقى لقضايا الأمة المصيرية والمفصلية؛ ينافح عنها بصدقٍ وإخلاصٍ؟!. 

من أجل ذلك كلِّه، فقد كانوا مستهدَفين من أعداء الأمة، لأن كثيراً من الدعوات الإصلاحية كان وراءها قيادات ورموز، سار الناس وراءها وتأثروا بها. 

إذن هناك مخططٌ مشبوهٌ، يهدف إلى استمرار غياب الدور القياديِّ للعلماء العاملين في أكثر بقاع العالم الإسلامي، وانسحابهم من الميدان لصالح زعاماتٍ من علماء مزيَّفين، ما لهم في العلم من خلاق!. 

هذا الإقصاء وهذا التشويه لبعض الرموز العربية والإسلامية المعاصرة، من قادة ومصلحين ودعاة، ينشط الآن في هذه المرحلة الصعبة من حياة الأمَّة، بغية أن يفقد أبناء الأمَّة الثقة في ماضيهم وحاضرهم، ويجد اليأس مكاناً في نفوسهم، فلا أمل في تغيير الواقع، وتنصرف الجهود عن التخطيط للمستقبل، فتقع الأمة في نهاية المطاف لقمةً سائغةً في فِيِ أعدائها!.

لو ضاع توقير العلماء من نفوس الناس ضعُف الدين في نفوس أهله، من الذي سيقود الأمة في سلمها وحربها، في حاضرها ومستقبلها، ويحمي بيضة الإسلام والمسلمين؟ من الذي يوجِّه الحكام ويربط على قلوب العباد؟ فإذا تضعضعت مكانة العلماء الربانيين، في قلوب آحاد الأمَّة فهي في خطرٍ عظيمٍ. 

ومن أهداف هذا التوجُّه المشبوه في إسقاط الرموز وحربها المستعرة، الفصل بين الأتباع والقيادة، الذي يهدف إلى تشرذم الأمَّة، لتصبح الأمَّة ذليلةً مبعثرةً كالغنم الشاردة في الليلة الشاتية الممطرة!.

وهل لرجل هزيل الشرف، ساقط الخلق، زائغ العقيدة، مريض القلب، مشوب الفكر، أن ينال من رجال سارت أسماؤهم مسيرة الشمس؟! ومَنْ للأقزام يقنعهم أنهم ليسوا بَعْدُ إلا أقزاماً؟!. يتطاولون على عمالقةٍ من حملة النور!.

عمد أعداء الإسلام، إلى تشويه صورة رجل العلم والدعوة، وإبراز حياته للناس على أنه رجل لا يعرف شيئاً، وتشكيل وسطٍ متمرِّسٍ في عملية الافتراء عليه بالسخرية والاستهزاء في مختلف وسائل الإعلام. ويهدف الأعداء من وراء ذلك إلى تهميش دور الشخصيات الدينية في المجتمع، ومحاولة عزل هذا الرمز وهذه القدوة، ومن ثم عزل اللون الفكريِّ الذي يمثله، وخلق قدوةٍ أخرى، من أهل الفنِّ الهابطين ومن مشاهير نجوم الرياضة غير الآبهين بالقيم عند الآخرين، ونماذج أخرى، لتكون هي المثل الأعلى!. ومع اشتداد الغزو الثقافي، ونشاط العولمة، والهيمنة الإعلامية الغربية، تصاعدت هذه الظاهرة وانتشرت انتشار النار في الهشيم.

ومن التطبيقات المسلكية التي تبنَّوها، عزل الدعاة عن الحياة العامَّة، ومنعهم من تولي المناصب القيادية، وتضييق الحياة المعيشية عليهم، وهذا بلا شكٍّ عامل تضييق مؤثِّر في الدعاة كما في دعوتهم أيضاً، فمن الطبيعيِّ أن يكون الشغل الشاغل للدعاة في مثل هذه الظروف، السعي الحثيث وراء توفير لقمة العيش لهم ولأسرهم، مما أدى ذلك إلى ضعف تأثير الدعاة في المجتمع، وإلى نقص فعالية الرؤية الثقافية، في عملية فرز الأفكار الوافدة علينا من الغرب.

وأعود للتأكيد من جديدٍ، أنه في كل زمانٍ ومكانٍ، ينشط أعداء الإسلام وأجراؤهم ووكلاؤهم، في بثِّ السموم الفكرية وإشاعة الإشاعات، لإيجاد فجوة بين ينظَر إليهم في المجتمع على أنهم في موضع التأسِّي والقدوة، وبين الأتباع.

وهذا الصفُّ النفاقيُّ، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول لا يألو جهداً في إسقاط مكانة الرسول ، وذلك باتهام عرض أمّنا عائشة رضي الله عنها، وقد خابوا وخسروا في هذه المحاولة الدنيئة البائسة اليائسة.

وعادة أساطين النفاق وأعمدته من أحفاد ابن سلول، أن يقودهم الغيظ، حينما يرون أن لمثل هذه الرموز واجهة فعلية لهذا المجتمع، مما يدعوهم ذلك إلى إثارة الشقاق في الصفِّ الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسلمين، وذلك من خلال الانسياق في بحر الفتن والأزمات، وتوليد حالةٍ من عدم الثقة بين المسلمين؛ فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدِّق، ولا يخفى أن من مآلات هذه الظاهرة زيادة الفرقة في الأمَّة، مما يسهل تسلُّط الأعداء، والابتعاد عن القيادة الدعوية، فتأتي الضريبة في صورة إحباطٍ نفسيٍّ بين الصفوف، وضعفٍ واستكانةٍ أمام العدو.

واللافت أن أهل النفاق، يعملون جاهدين على ضرب الرموز المجتمعية وإسقاط القدوات، ويضربون على هذا الوتر؛ لكي تنصرف اهتمامات القيادة الدعوية، من إرساء دعائم المجتمع المسلم إلى إشغالها بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها.

حتى تاريخنا العربي والإسلامي لم يسلم من التشويه والتحريف على أيدي أعدائه. صوَّروا قادته على أنهم لم يكونوا إلا أصحاب نزواتٍ ومطامعَ لا أصحاب مبادئ ورسالة، من هؤلاء هارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهما، وزعموا أن الحضارة الإسلامية ما هي إلا حضارة زائفة عاشت عالةً على غيرها من الحضارات التي سبقتها! كالحضارة اليونانية والرومانية والهندية!. 

وليس من نافلة القول أن أشير إلى أن اجتماع أسماء حظيت بالنزاهة والقبول عند آحاد الأمة ومجاميعها، إلى جانب أسماء أخرى سقطت على طريق الفتن سقوطاً مريعاً، ووضعهم في سلَّةٍ واحدةٍ عليه إشارة استفهام، ولا يستقيم بحالٍ ففيه خلطٌ للأوراق وتزييفٌ للوعي مدانٌ.

نعوذ بالله أن نقع في غيبة أناسٍ لهم مكانتهم، ولا ندري فلعلَّ بعضهم قد حطَّ رحاله في الجنة. وآمل أن تصحوَ الأمَّة من غفوتها، وتدرك ما يُحاك لها في كواليس المكر ودهاليز الكيد بالإسلام وأهله.