حاوره أ. شمس الدين حميود
في حلقة جديدة من حلقات برنامج ساعة فكر، نظّمت مدونات عمران يوم الخميس 3 نوفمبر 2020م / الموافق 17 ربيع الأول 1442هـ في صفحتها على فيسبوك بثًا مباشرًا مع أ.ياسين إعمران.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم يبعثون، وبعد، فإن مستهل الأمر هو صراع العلمانية مع المنظومات العقدية الغيبية والواقع المعاش طيلة قرنين من الزمان وإن كان الأمر قد استقر في الغرب للمنظومة العلمانية، فإن الأمر مخالف ومغاير في العالم الإسلامي فلا تزال محاولة المنظومة العلمانية قائمة لإرساء هيمنتها وطرحها الشمولي على واقعنا مع محاولات لدفع الإنسان ليستغني عن وحي الإله ويقتصر مصدر معرفته للحقيقة والقيم على العالم حصراً، في الحقيقة هذا الصراع يتمظهر بتمظهرات عدة مثل الدعاوي العلمانية والحروب الصليبية، وأيضاً النفس الاستعمارية والمطامع الاقتصادية وغيرها، وفي أحايين كثيرة تكون الحمولة متضمنة لكل هذه الخلفيات.
اليوم بإذن الله نحاول أن يكون مدار حديثنا تفكيكاً لهذه الممارسات وحديثاً عن التطاول على أغلى المقدسات وكذا واجب الوقت وسبل المواجهة والرد، وذلك مع ضيف كريم تفضل علينا بقبول الدعوة والجلوس معنا.
ومن جميل الأقدار أن هذا الضيف يختص أيضاً بما اختص به هذا اليوم في إطار سياقات المولد النبوي والجانب الثاني المتعلق بهذه الأفعال والممارسات من قبل الغرب، فمن الجانب الأول يمكن أن نسمي الضيف بالشيخ المُقرِئ المؤذن الشيخ ياسين إعمران، ويمكن أيضاً في الجانب الثاني أن نسميه الأستاذ والباحث والناشط والملم بخبايا وأنساق أفكار المنظومة الغربية، الأستاذ ياسين إعمران أهلا وسهلاً ومرحباً بك معنا.
قبل أن نعرج على محور حديث اليوم لا يفوتني أن أبارك لكم كونكم أول من أذن في جامع الجزائر الأعظم أستاذ ياسين، كيف كان الشعور أولاً؟ وماذا يعني هذا الجامع للجزائريين ثانياً؟ (مع ملاحظة للأخوة المتابعين في الأقطار العربية الأخرى أن هذا المسجد بني على أنقاض مكان كان منطلقاً للحملات التبشيرية)..
هذا من كرم الله سبحانه وتعالى ومنّه وفضله علينا أن وفقنا لأن نرفع أول أذان في هذا المسجد، ما كنت أتخيل يوماً ما أنني سأكون من مؤذنيه ولكن كرم الله سبحانه وتعالى أكبر من أحلامنا وأمنياتنا كما يقال، هذا المسجد أعتبره منارة مهمة جداً بالنسبة للعالم الإسلامي، أتمنى طبعاً أن يكون منارة حق تهتدي بها الأمة الإسلامية في هذه الظلمات التي تتخبط فيها.
رمزية افتتاح جامع الجزائر أتت مع ذكرى مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك قرب ذكرى الثورة التحريرية الجزائرية التي كذلك حرص مفجروها على أن تكون في شهر ربيع الأول أو شهر ربيع الأنوار كما يسمى تيمناً بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، وحرصاً منهم على تعزيز الفصل الحضاري بين الجزائريين وبين المستعمر الصليبي. ولذلك كان مالك بن نبي -رحمه الله- دائماً يسلط الضوء على أن الثورة كانت عبارة عن صدام حضاري، صدام بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الغربي.
هذه من النقاط التي نتجاهلها كثيراً في دراستنا لتاريخ الجزائر الحديث، وكثير منا يُعطي قراءة علمانية حتى للثورة ويعتبرها صورة من صور التمرد ورفض الضيم اليساري من طرف قلة إقطاعية كانت تسيطر على خيرات البلاد وهذا تقزيم لهذه الثورة وعلمنة لها فوجب التنبيه له، فأعتبر أن يرفع الأذان من أرض كانت تسمى تيمناً بالكاردينال لافيجري أمرا عظيما، هذا الكاردينال الذي كان رأس التنصير في الجزائر والذي كان يحمل الخبز بيمينه والإنجيل بشماله، وكان يسير إلى القرى التي كان يجوعها الاستعمار ويقايضها بدينها على قطعة خبز طبعا، حيث أسس لافيجري أكبر مركز للتنصير ولتنشئة الرهبان والراهبات، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن تعود هذه الأرض إلى الإسلام وأن تسمى المحمدية بعد أن كانت تسمى لافيجري وأن يبنى فيها أحد أكبر المعالم الإسلامية التي نفتخر بها وأن يرفع منها كلمة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
الحمد لله أن منَّ علينا برؤية هذا الصرح العظيم، لو انتقلنا الآن لمحور حديث اليوم وعلى غير العادة سأذكر جمهورنا المتابع بالمحاور الثلاثة:
المحور الأول: سنتناول فيه الغرب العلماني اللاديني وأزمته الحضارية.
المحور الثاني: سنتحدث فيه عن هذا التطاول والاعتداء على جانب النبي -صلى الله عليه و سلم- ورأس حربة هذا الاعتداء التي هي فرنسا.
المحور الثالث: سنحاول أن نسلط الضوء على بعض أوجه الرد والمواجهة في خضم هذه الأحداث.
كبداية، التجربة العلمانية في الغرب قد أفصحت عن حقيقة ثمرتها إن جاز لي التعبير، إذ لم تكتف بعيش أزمةٍ بل أبرزت سيلاً من الأزمات، أزمة الحضارة الحديثة أزمة الإنسان في العصر الحديث، ثمن التقدم، هيمنة النماذج المادية والكمية، الاغتراب، أزمة المعنى، أمور الحس الخلقي، القيم النفعية، غياب المركز، تفشي النسبية المعرفية الأخلاقية، اللامعيارية ما بعد الأيديولوجيا، سيادة العلاقات التعاقدية على العلاقات التراحمية كما نبه إلى ذلك المسيري رحمه الله كثيرا، تآكل الأسرة، العدمية والعدمية الفلسفية، ظهور الحتميات والجبريات المختلفة، التسلع، التشيع، موت الإله، موت الإنسان، وعديد من الأزمات أعجز عن عدها، أمعقول كل من يعيش هذا يتهم الإسلام أنه يعيش أزمة، أستاذ ياسين أعطيتك مجموعة خيارات ولك أن تختار غيرها، نريد منك أن تحدثنا قليلا عن الغرب وأزمته الحضارية.
بالنسبة للأزمات التي يعيشها الغرب يعترف بها مفكروهم وفلاسفتهم بالدرجة الأولى، هم يعترفون بأنهم يعيشون ضمورا إنسانيا وأخلاقيا وكل ما يذكرهم بهذا النقص هو في الحقيقة يستهدف هذا النسق الذي يعيشونه، فالإشكال الذي يعرفه الغرب هو حتى إن حاول أن يصلح هذه العلمانية فهو يفكر بأدوات علمانية مثلما يقول المسيري رحمه الله، ولا يستطيع أن يخرج عن النسق الذي فُرِض عليه منذ بداية تمدرسه إلى غاية بلوغه، وبالتالي الغرب اليوم على المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الأخلاقي وعلى المستوى السياسي أيضاً يعيش أزمات ويعيش تخبطاً كبيراً.
ولكن بالنسبة لما يُنشر في الصحافة الأوروبية من رسوم مُسيئة للإسلام والمسلمين لا ينبغي أن نعتبره مجرد حديث عرضي أو أنه مجرد موضوع تُصدر إليه أزمات الغرب حتى لا يلتفت الناس إلى وضعهم المُعاش، وإن كان في هذا الكلام نصيب مهم من الصحة، ولكن لا ينبغي أن نعزل هذه الإساءات عن السياق التاريخي لموقف الأوروبيين الفكري والسياسي من الإسلام والمسلمين عموماً والقرآن الكريم والرسول -صلى الله عليه وسلم- تحديداً، لأنه من خلال استعراض كتابات المستشرقين نجد أن معظمهم قد أنكروا الوحي الذي أُنزٍل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بل تطاولوا عليه في كتبهم وشوهوه وشتموه وأنكروا أي دور حضاري للمسلمين واعتبروا أن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، فشكلت كتاباتهم تصوراً عاماً لدى الغربيين تجاه العقيدة الإسلامية، وبالتالي هناك تصور صنع على مدار مئات السنين ربما جعل هذا الإنسان الغربي ينظر تجاه الديانة الإسلامية نظرة مختلفة عن نظرته إلى ما سواها من الديانات، وهذا ما لاحظناه حتى في نقاشات الفرنسيين، حيث قالوا: لماذا نحن عندما نسخر من المسيحية لا نجد أي رد، وعندما نسخر من اليهودية لا نجد أي رد، لماذا لا يحدث لنا هذا الصداع مثلما قالوا إلا عندما نتطرق للإسلام.
هنالك عدة عوامل جديدة ومتشابكة ظلت تمثل بالأساس هاجساً للغربيين تجاه المسلمين تحديداً:
أولاً: بحكم العامل التاريخي وهو الاستعمار، لأن الاستعمار الغربي استعمر مجمل الدول الإسلامية فنجد أن هناك علاقة تاريخية مشحونة بين المسلمين والغربيين.
ثانياً: على المدار العام نجد أن هنالك خطابا إعلاميا مهاجما للمسلمين ويحاول دائماً أن يهمشهم أو أن يلصق بهم أي نقيصة، حيث أن المسلمين هناك يعيشون بذهنية وعقلية المواطنين من الدرجة الثانية وبالتالي هم من خلقوا بداخلهم عقدة النقص هذه، ثم يأتي ماكرون بعد ذلك ليسمي ما تعيشه فرنسا نزعات انفصالية إسلامية، ولكن في الحقيقة هم من عززوا هذه الروح في المسلمين وأن كل مسلم متهم حتى تثبت تهمته وليست براءته، أنت متهم وأنت مجرم حتى ولو لم تفعل شيئاً فقط لكونك مسلما.
بعض العلمانيين يقولون أن العلمانية تضمن حرية القضاء العام والخاص، وهذا غير صحيح لأنه إذا رأينا واقع المجتمعات الأوروبية نجد أن الفضاء العام مُعلمن، ومُعلمن بالقوة وهناك نموذج واحد فقط في الفضاء العام، يعني في الشوارع والمؤسسات لا تجد نموذجاً مُختلفاً عن الآخر لأن الحرية تفترض الاختلاف، فإذا لم نكن مختلفين فهناك إشكال طبعاً. فالإسلام يتميز في هذا الجانب، فالمسلمة تتميز بحجابها والمسلم يتميز في أخلاقه وفي سلوكياته وفي متطلباته الأخلاقية، وهذا يُشكل نوعاً ما نشازاً عن القولبة التي تُريد أن تفرضها العلمانية في الفضاء العام، طبعا مع التحفظ في القول أن الفضاء العام الأوروبي عموماً مُعلمن.
صحيح لأني ذهبت إلى أوروبا كثيراً وزُرت عدة دول أوروبية، فهناك دول حكم تاريخها مُعلمن أكثر من دول أخرى وهناك دول مثلاً نجد في ساحاتها تماثيل للمسيح وكنائس تقرع أجراسها، وهناك بُلدان لا نجد فيها هذا الأمر، فهناك شعوب متدينة مثل الشعب الإسباني والشعب الإيطالي وهناك شعوب غير متدينة تماماً مثل الشعوب الاسكندنافية وهذا الذي رأيته هناك أن الكنائس شبه مهجورة وكثير منها يشتريها المسلمون ويحولونه إلى مساجد وكذلك نوعاً ما في أمريكا، لكن في فرنسا على سبيل المثال يوجد صراع كبير بين العلمانية وبين الديانة الكاثوليكية، هذا الصراع خلف أحقاداً تجاه كل الأديان لا نزال نراه إلى اليوم حتى في أبسط مظاهر المجتمع الفرنسي خلال حساسيته المبالغة جداً من كل ما يتميز بدين عن نمطه العلماني.
إذا أستاذ ياسين هل يمكننا القول أن المحركات والدوافع التي تقف خلف استراتيجيات وسياسات الغرب هي دوافع تتضمن كثيراً من الجوانب والسياقات، يعني دوافع استعمارية أو علمانية أو نفعية وأخرى يُمكن أن تكون مسيحية، كل هذا هو الذي يُشكل رؤية الغرب وسياسته تجاه العالم الإسلامي مع العلم أن هذه الفوقية في النظر هي فلسفة متجذرة لها بُعد فلسفي يرى بأن الحضارة الغربية هي نهاية التاريخ وأنها أفضل ما أنجبت البشرية من هيغل إلى فوغوياما.
العداء الغربي أو الأوروبي عموماً للإسلام هو فضلاً على أن يكون عداء فكريا وأيديولوجيا هو عداء كذلك استراتيجي، وهي حرب استباق لحفظ الغرب لوجوده لأنه منذ نهاية سقوط الاتحاد السوفيتي وسقوط الحركة الإشتراكية كحركة ومنظومة سياسية توقعت النُخب الغربية أن يواجه الغرب بشكل عام والولايات المتحدة الأمريكية مثلاً بشكل خاص مارداً آخر وهو الإسلام، ولذلك كانوا يقولون انتهينا من العدو الأحمر ويقصدون الشيوعية والآن سنواجه العدو الأخضر ويقصدون به الإسلام، وهذا ما توقعه مثلاً الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون في كتابيه نصر بلا حرب وانتهزوا الفرصة، قال بأنه ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعمل وبسرعة على الإمساك بما أسماه بالريادة الروحية في العالم وعدم السماح لنماذج بين مزدوجتي التشدد الإسلامي أن تشدد فرصتها في هذا المجال، وذلك فضلاً عن الدراسات الاستراتيجية التي كانت تتخوف من التسلح الإسلامي كنشاط العراق وباكستان في المجال النووي خلال الثمانينات وأكثر ما عزز القلق الغربي تجاه الإسلام والمسلمين ذلك التهديد الذي اندلع في الغرب للفكرة التي أطلقها عام 93 عالم السياسة الأمريكي الشهير "صامويل هنتنجتون" حول صدام الحضارات.
وبالتالي هم وصلوا إلى قناعة أن الحضارات لا تتحاور وإنما تتصادم وأن إعادة تشكيل نظام عالمي من جديد على اعتبارات أن الصدامات فيه لن تكون اقتصادية ولا سياسية إنما ستكون سياسية بالدرجة الأولى، وعدل في كتابه 7 حضارات أساسية في العالم خلُص إلى القول أن الصدام الحقيقي سيكون بين الإسلام والغرب عامة فلماذا الإسلام والغرب عامة؟
لأن الإسلام يحمل رؤية وجودية والعلمانية هي كذلك رؤية وجودية، وبالتالي قيم الإسلام ورؤيته مثلاً في الاقتصاد وفي السياسة وفي البيئة وفي الأخلاق والمرأة لا تتوافق أبداً مع القيم التي ينشرها أو يبشر بها الغرب، وهي القيم التي تصنع مواطن العالم كما سماه مؤخراً ماكرون عندما قال: "لن نتراجع عن قيم مُواطن العالم"، مواطن العالم هذا هو عبارة العولمة يعني بتعبير آخر عن قيمة واحدة تُنشر في العالم كله لتصنع عقلية واحدة وذهنية واحدة، والعجيب أن هذه القولبة وهذه النمذجة تكون باسم الحرية.
فالدوافع التي يعيشها الغرب اليوم هي دوافع تتعلق خاصة بخوفه الوجودي لأن المُسلمين لا ينبغي أن نُخفي أن أعدادهم تتزايد وأن ثقافته الاجتماعية والأسرية مختلفة تماماً عن الثقافة الغربية، فهناك العوائل المسلمة متماسكة، مثلاً أنا حين زرت إسبانيا والتقيت بالعوائل المسلمة وجدتهم كلهم يعيشون كأنهم أسرة واحدة يلتقون كل جمعة بعد صلاة الجمعة ويتناولون الطعام سوياً وهذه الأجواء الحميمية وهذه العلاقة التراحمية بينهم خلقت نوعاً كأنه مجتمع جديد، مجتمع يحمل قيماً جديدة وهو غير المجتمع الذي يمثل الأكثرية.
هذا الأمر يُخِيف النُخب الأوروبية لأنها تخشى على خصوصيتها الحضارية وتخشى على خصوصيتها الثقافية وهويتها من أن تضمحل أمام تقدم الإسلام الذي نراه بشكل واضح جداً في السنوات الأخيرة، الأرقام التي تتعلق بالنمو الديموغرافي كذلك هناك تخوف كبير من شيخوخة المجتمعات الأوروبية، الحقيقة أنهم لم يتمكنوا من توقيف الإسلام بأي طريقة، حاولوا مثلاً صناعة إسلام مُعلمن إسلام يتوافق والقيم الغربية، إسلام يُرِيدك أن لا تكون مُسلماً حتى تكون مُسلماً بمعاييرهم فلم ينجح هذا الإسلام العلماني، أرادوا مصادمة الإسلام فجاءت النتائج عكسية، الآن هم أمام تحدي حقيقي إن لم يتعاملوا معه بعقلانية وإن لم يستوعبوه سيؤدي بهم إما لاحتراب واقتتال داخلي حقيقي ولا أقول الأمر هذا من باب التهويل إنما نقول دولة أوروبية مثل فرنسا تعيش حرباً أهلية فعلياً، واليوم هناك جو حرب أهلية وهناك تخوف. فالذي يعيش في فرنسا اليوم قلق من أنه قد يتعرض لأي عملية اعتداء في أي لحظة من اللحظات من طرفين من المسلمين وغير المسلمين، فهذا الخوف إما سيدفعهم إلى العقلنة أو التطرف والعنف أكثر.
طبعا لا يمكن أن نعمم الحكم على جميع الدول الغربية في تعاملها مع الإسلام والمسلمين وحدّة التشدد تختلف من دولة إلى أخرى، لكن نجد أن هذا العداء للإسلام يمكن أن يكون نموذجا متكاملا لا يحارب فقط داخل العالم الغربي، إنما يحارب حتى داخل العالم الإسلامي، ولو تلاحظ معي أن أكثر الأنظمة عداءً للإسلاميين هي الأنظمة التي تتربع على المجال النفطي، تحديدا دول الخليج وشبه الجزيرة العربية، حيث يتزايد القلق الغربي من تواجد المسلمين هناك، وتخوف من أن يسيطر المسلمون على هذه القوة المالية الكبيرة جدا لأنهم سيقلبون بها الوضع الدولي تماما، لهذا نجد أن أهم حرب تقام اليوم في بلاد الحرمين، حيث يتم تشديد الخناق على كل رموز الصحوة الإسلامية لأنها لو تستفحل فستستحوذ على المجال الروحي للمسلمين حيث الحرمين، والمجال النفطي حيث القوة المالية، فيكون هنا الوجود الغربي مهددا، ونجد كذلك أنهم استعملوا في مرحلة من المراحل العنف العسكري لمنع قيام دولة أوروبية إسلامية، مثل ما حدث في البوسنة والهرسك، ودول البلقان بهدف إبعادهم عن صناعة القرار في تلك الأراضي، ومن هذا نستنتج أن الدوافع لسياسات الغرب هي دوافع وجودية وحضارية.
كما هو معلوم أن للحضارة الغربية آلهة تمرية، إن جاعت أكلتها، ومع كل تطاول يمس بحرية المعتقدات، يتبادر إلى الذهن سؤال عن موقع هذه القيم في المنظومة الغربية، وما هي مبرراتهم في تجاوز هذه القيم وهدم دعاتها؟ دون أن نحدثك عن الازدواجية في التعامل بين من ينتقد شيئا ويقوم بعكسه؟
لأن كل ما نشاهده منهم، ينطلق من عداء تاريخي بيننا فلا يمكنهم أن يكونوا موضوعيين معنا باعتبارنا خصومهم، صحيح هناك عدالة نصفية في العالم الغربي، تسمح فقط بوجودهم واستمرارهم، أما حين يتعلق الأمر بقضايا تهدد وجودهم، فإنه يصبح من الهين عليهم تجاوز كل القيم والمبادئ التي يصرخون بها، وما حدث في العراق وأفغانستان خير دليل على أن الإعلام الغربي يكذب جهاراً نهاراً، ويصور المسلمين هناك على أنهم وحوش ضارية، حتى بعض الصحفيين المنصفين من الغرب كتبوا كتابات تقول بأنهم يدفعون ثمن ما نشروه من شرور وأحقاد تجاه المسلمين، لأنهم لا يريدون أن يستوعبوا حقيقة تميز الفرد المسلم عن غيره من أتباع الديانات الأخرى، خاصة أن مرتكز هذا الفرد المميز أمر عقائدي، لا يمكن نزعه بسهولة، فكل شخص ينتمي إلى دين محمد -صلى الله عليه وسلم- يبدأ تعريف نفسه أمام الآخر بأنه "مسلم"، وبالتالي فإن هذا يشكل هاجسا عندهم، بأن تطغى الهوية الإسلامية في العالم بهذا الشكل العقائدي المبهر.
فازدواجية الغرب هذه تنطلق من أنهم يتعاملون مع المسلمين كمتدينين يختلفون عن غيرهم من اتباع الديانة المسيحية أو اليهودية وغيرهما، والمسيحي مضطهد خاصة إذا تحدثنا عن فرنسا بالتحديد حيث نجده يعاني من الإذلال، لأن عقدتهم تاريخية مع الكاثوليكية فهم يطالبون ببعض الحقوق السياسية التي تكون على أساس الرؤية الدينية وهذا ممنوع، لكن المسلم هناك تغير الوضع معه خاصة مع الأجيال الجديدة، لأن الأجيال القديمة التي جاءت من البلدان العربية بقيت دائما تتعامل مع الأنظمة الغربية على أنها صاحبة فضل عليها ورضيت بأن تقبل بالمواطنة من الدرجة الثانية، لكن أبناءهم اليوم يعتبرون أنفسهم أوروبين يمتلكون نفس الحقوق التي يمتلكها الأوروبيون، وعليهم أن يفرضوا رؤاهم المنطلقة سواء من الإسلام أو من أي اعتبارات أخرى على أرض الواقع.
هم لا يريدون أن يتحاوروا مع المسلمين في مستويات عليا، بل يريدون أن يبقوا دائما في مسائل اجتماعية، أو أيديولوجية مثل الحجاب واللحية والنقاب وغيرها من تفاصيل الإسلام الصغيرة، حتى لا يفاجؤوا في قادم الزمن بنواب مسلمين في البرلمان، أو ربما وزراء مسلمين، أو أحزاب إسلامية قيد التأسيس، لذلك هم يسعون سعيا حثيثا لكي لا يعيشوا هذا الكابوس، فلا يمكنهم أن يتعلموا بالموضوعية التي يدّعونها لأنهم يعلمون أن الإسلام يتمدد كلما أتيحت له الحرية، ويشتّد إذا ما حاربوه.
ولا نقول هذا من باب الدوغمائية إنما رأيناه حقيقة في بلدان حاولت فيها أنظمة غربية استئصال الإسلام بكل ما أوتيت من قوة وبالحديد والنار، ومع ذلك بقي الإسلام وعاد أقوى مما كان عليه، باختصار هذا ما يخشاه الغرب "إسلام يتمدد، ورؤى جديدة تهدد رؤيتهم العلمانية التي لا يمكنهم التفكير خارجها".
من خلال ما ذكرتم يتبادر إلى الذهن سؤال حول مواصلة الحرب على ما يسمى بالإرهاب مخيلا كان أم حقيقيا، إذ تعتبر هذه الحرب أمرا وجوديا، وشركا استراتيجيا لاستمرار كثير من اللوبيات والنافذين أصحاب القرار، ودون هذا الاستمرار تنمية لشعور الخوف والقلق، وإضفاء لشرعنة التجريم والشبكنة، والملاحظ هنا أن هناك قصورا في التحليل الرسمي والإعلامي وأيضا البحثي والأكاديمي -أعتبره متعمدًا- قصورا عن البحث في دوافع الأحداث وسياقاتها النفسية الفكرية والجيوسياسية، يقابله جنوح نحو تثبيت إطار تفسيري موحد تجاه كل الأحداث، يكون هذا الإطار مرجعا وحاكما في هذا التحليل، مفاده أن أيديولوجيا الإسلام هي المحرك الرئيسي في كل هذا! في رأيكم أستاذ ياسين ألا يعتبر هذا التفسير النمطي للعنف المُتَغَافَل عن الإشكالية عند الغرب إيديولوجيا في حد ذاتها تساهم في بسط سيطرتهم؟
إذا حللنا العنف باعتباره وسيلة لسيطرة القوي على الضعيف، نجد أن هذا من أبرز ما تنادي به العلمانية، فهي تنادي بتسييد الإنسان الأعلى على الإنسان الأدنى ولو باستعمال القوة، ولكن هذه التعريفات غير الموضوعية والتي تكون من طرف واحد في نظري لا ينبغي أن نعتَدّ بها في أي طرح فكري، إذا أردنا أن يكون معتدلا، لأنه من الطبيعي أن يضربك إنسان إذا ضربته، وبالنظر إلى الإحصاءات القليلة في العالم، نجد أن الغرب قتل من سنة 1990 الى 2010 أكثر من أربع ملايين مسلم، وفي المقابل تجدهم يتحدثون عن داعش وتنظيم القاعدة الذين قتلوا من المسلمين أكثر مما قتلوا من الغربيين، هذا الذي يجعلك في حيرة من أمرك، نحن نتمنى أن نعرف من هو الإرهابي الحقيقي، فكم قتل الكيان الصهيوني في فلسطين، لماذا هذا الانحياز الوقِح والمفضوح دائما إلى الجانب الصهيوني عند الغرب بينما المسلم يحارب ويعادى في كل قضاياه المصيرية والمقدسة خاصة الجهادية في فلسطين، وبالتالي طبيعي جدا أن يواجه هذا العنف بعنف. دعني أقول لكَ شيئا ما عما يحدث بين الفينة والأخرى من قتل وطعن "نحن لا ندافع عن هذه الأحداث من المنظور الديني، لكن إذا ما نظرنا إليها من الجانب الاجتماعي والسياسي نجدها مُبَررة ومُتَوَقعة".
حديثنا هذا يقودني إلى السؤال حول الرغبة في إيجاد تفاهم أعمق بين الإسلام والغرب، ويحضرني حديث لمحمد أسد في أحد مقالاته الموسومة بعنوان "المواجهة بين الإسلام والغرب" وبعد استحضاره لمسلمات الغرب في النظر إلى الإسلام والتي من بينها "أن الغرب ذو رُقي في أنماط التفكير مقارنة بالعالم الإسلامي" والمسلمة الثانية تقول: "إن مبادئ الإسلام قد عفا عنها الزمن ولم تعد صالحة" فيقول عليه رحمة الله: «ما من مسلم مؤمن يرضى بهاتين المسلَمتين» في حين أننا اليوم نعرف من بني جلدتنا مَن يرددهما كمنطلق تفكيري حضاري ... ويقول أيضا: «إن إيجاد تفاهم بين الكيانين ليس مجرد صراع بين أنظمة اجتماعية واقتصادية وما تتمظهر عليه بعدها من رأسمالية وشيوعية، إنما الأمر في أصله صراع بين مفاهيم أساسية تمس هدف الحياة الإنسانية بنفسها وقيمها» ... في رأيك أستاذ ياسين إلى أي مدى يجب أن يستحضر المسلمون هذه المفاهيم وأن يدركوا أن الصراع يتمحور في أصله حول الغاية من الوجود؟!
نعم، أنا أوافق هذا الكلام وبشدّة، وأفضل في التيارات السياسية الغربية اليمين على اليسار، لأن الأول أوضح عداوة من الثاني الذي يبيعك معسول الكلام مقابل توجيهك نحو ما يريد، كأن يدافعَ على حقوق الأقليات في أوروبا والذين من بينهم المسلمين وفي نفس الوقت يدافع عن حقوق الشواذ والمتحولين جنسيا، فيعاملك وإياهم على حدّ السواء، أمّا اليمين فهو متمسك بتعاليمه الصليبية.
وبالنظر إلى الواقع، اليوم نجد أنه إذا أردنا أن نتعالج في الغرب على أهالينا أن يتنازلوا عن بعض مبادئهم، ذات مرة كنت في حوار مع أحد القاطنين في أوروبا حول الحريات، فأخبرني أن الحرية محفوظة وكمثال على ذلك أنه يوجد في الأسواق "لحم حلال".
ومن هنا نلاحظ أن مفهوم الحرية قد تَعلمَن وأصبحنا لا نعرف غير الحريات المادية، أين الحرية في الحجاب مثلا والقيم الأخلاقية والتربوية التي نريد أن ينشأ أبناؤنا عليها؟! لماذا قرر الفرنسيون أن يكون التمدرس ابتداءً من السنة الثالثة من عمر الطفل، وهذا أمر لا يتقبله العقل! إذن هم يريدون قولبة المجتمع وإخراج نموذج خاوٍ من القيم الدينية والإنسانية.
بالعودة إلى حقيقة ما نعيشه اليوم، سمعنا إلى عقود طويلة عن حوار الحضارات لكن لم نر أبدا في التاريخ حضارات تتحاور، لأن طبيعة الحضارات فيما بينها هي الصراع من أجل السيادة، أتذكر مرة أن أحد الإخوة الحاصلين على جنسية اوروبية أخبرني أنه لابد من أن يأتي يومٌ يُطردون فيه، فاستغربت وقلت له لماذا فقد أصبحتم مواطنين مثلهم، فقال إن الجنسية أمر شكلي فقط وفي جوهر الأمر نحن هنا غرباء! وهذا ما نراه رأي العين في يومنا هذا، توجد في فرنسا محاكم تفتيش للمسلمين والمدارس القرآنية تغلق، والمساجد تغلق، ويعيشون تضييقا إعلاميا رهيبا، ويدفعون دفعا نحو العنف، حتى إذا ما تجاوز هذا العنف الحدّ الذي يقررونه هم، سيطالبون بترحيل الجميع حتى من يحمل الجنسية، وقد قيل لهم بالحرف الواضح: «لا يمكنكم أن تمارسوا ديانتكم بحرية إلا على أرضكم، فاذهبوا».
المنظومة الغربية لا تسمح للمسلمين بأبسط متطلباتهم على سبيل المثال تربية أبنائهم تربية دينية صحيحة، وقد أصبح هذا الأمر يعتبر تحديا كبيرا أمام العوائل المغتربة، لأن الرؤية العلمانية مخالفة تماما للرؤية الإسلامية من حيث الوجودية شئنا أم أبينا، هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتقبلها كما هي دون اختراع أكاذيب "الإسلام الغربي" و"الإسلام العلماني" و"محاولة تعديل الأحكام الفقهية طبقا للبيئة الغربية"... فالإسلام له ثوابت غير قابلة للذوبان في بيئة العلمنة.
أودّ أن أستطلع رأيك عن اللائكية الفرنسية التي وإن ادّعت الحيادية أمام الدين، إلا أنها في الحقيقة نظام شمولي يرفض التنوع الثقافي والمعرفي، ويسعى إلى فرض صورة واحدة لنمط التفكير والفعل في الدولة والمجتمع، يقول البعض: "إن دين فِرنسا لا هو المسيحية ولا هو العلمانية، إنما دينها هو العداء للإسلام" فما رأيك؟
أنا لا ظن أن المسيحية تحمل رؤية وجودية متكاملة، وتحتوي على منظور اقتصادي وسياسي واجتماعي متكامل، صحيح أنها تحمل بعض القيم الأخلاقية لكنها ليست متكاملة كالإسلام، ولذلك فإن فرنسا ليست لها مشكلة كبيرة مع المسيحية كديانة، ويمكن تأطيرها ضمن العلمانية بكل سهولة، على عكس الإسلام الذي يناطح العلمانية في كل جزئية من جزئياته، ومن الملاحظ أن الغرب في بعض الأحيان يشيد بالسلفيين وأنصار التصوف الذين يعتزلون السياسة ويرون أن الدين جملة من التعبدات والأخلاق فقط، لأن هذا يخدم جزءً من رؤيتهم العلمانية، بينما يشددون في محاربة الإخوان المسلمين لأنهم قد رفعوا لواء التوحيد وقالوا بأن الإسلام دين ودولة وعقيدة وجيش ومصحف وسيف.
في رأيك أستاذ ياسين إلى أي مدى انتقلت الإسلاموفوبيا -نحن الآن نتحدث عن الواقع الغربي والواقع العربي- إلى أي مدى انتقلت إلى كونها سياسة ملازمة للدول والمؤسسات الرسمية خاصة عند اليمين المتطرف؟
لا أظن أن هذا أمر مستجد ونحن رأينا كيف أن رئيس أكبر دولة في العالم أثناء حرب العراق يصرح بأنها حرب صليبية، ورأينا كيف همَ الإعلام إلى نص تلك العبارة، والإسلاموفوبيا هي من السياسات الصهيونية هدفها جعل الإسلام قوة مهملة يتم دغدغتها من قبل اليسار حتى تصوت له، وتصدِر لها أزماتها، غير ذلك فإن هذه السياسة في توسع دائم وقد تصل إلى العالم الإسلامي، وهذا مالم يظهر عندنا بعد لكن بوادره ظاهرة متجلية ومن بينها فوبيا الحركات الإسلامية، فقد أصبح كل من يحمل مشروعا سياسيا متصالحا مع الهوية الإسلامية يصنف ضمن جماعات معينة ويتم قذفه بالخيانة، وهذه نظرة مماثلة لما تعانيه الأقليات المسلمة في أوروبا، لدرجة أن بعض المسلمين في فرنسا لم يستنكروا تصريحات ماكرون وقالوا بأنه لا يهاجم الإسلام، وإنما يهاجم الإسلام السياسي.
بعد أن تحدثت عن دور المسلمين في الغرب، أود تسليط الضوء مرة أخرى على هذه النقطة وأن تفصل لنا أكثر فيها، ألا ترى أنهم مقصرون؟ خاصة أن تأثيرهم لا يكاد يبين مقارنة مع اللوبيات الأقل عددا وعدة منهم، ضف إلى ذلك انعدام التوحد بينهم فكل في فلك مشغول عن البقية!
المسلمون في الغرب عموما يعيشون نفس الأزمات التي يعيشها غيرهم في الدول العربية، يعيشون نفس الصراعات العربية، هذا الواقع المؤسف المفروض عليهم، لا أدري أي شيء أكبر من هذه التهديدات التي تلاحقهم يوما بعد يوم في جعلهم يتوحدون، وما الذي ينتظرونه ليوحدوا الصف خاصة وأن الدائرة تزداد ضيقا عليهم، لدرجة أنني لا أجد ما يمكنني التعبير به من عبارات الأسف، وهذا راجع إلى أن المسلمين في الغرب عاشوا بعقليتين، عقلية الآباء الذين جاؤوا من العالم العربي، وعقلية الجيل الجديد الذي ولد في أوروبا، والإشكال يكمن في أن الجيل الجديد لم يبدع رؤى للتعامل مع واقعه فصار متأثرا بما يحدث في من تدافع للأفكار في العالم العربي، وهذا الذي جعلهم منعزلين عن واقع بلدانهم، أما آباؤهم فما زالوا يعيشون بعقلية المواطنين من الدرجة الثانية، فلا نجد منهم من يدير المؤسسات الاقتصادية الكبرى، أو من يقتحم المؤسسات التقنية رغم نبوغهم في الدراسة، ولا نجدهم في المؤسسات السياسية ومناطق التأثير والتفكير السياسي، بل نراهم دائما مجرد جالية مسلمة قاطنة هناك تتعامل مع الوضع بانعزال، وأبسط دليل على فرقتهم أنك تجد في المنطقة الواحدة من أوروبا عدة مساجد لكل شعب مسجده، فهذا مسجد المغاربة، وهذا للجزائريين، وذاك للباكستانيين..
بهذه الطريقة لن نحل مشاكلنا الداخلية ولن نرقى إلى مستوى التأثير في الغرب، ونحن لا يمكننا أن ندرك الحلول الأنسب ليتغلبوا على مشاكلهم، بقدر ما يمكنهم هم إدراكها، فهم أعلم منا بالواقع وأقدر على التشخيص والمعالجة.
يقول المتنبي: "لكل امرئ من دهره ما تعَود" وللأسفِ في دهرنا الحالي عادة المنافقين التوددُ للعِدا والطعن في أهل التقى والهدى، في رأيكَ أستاذ ياسين ما دوافعُ وأثر تهوينهم من عظَمِ المساس بالجنابِ النبوي، وقدر رأينا في هذه الأحداث تمحيصا وفرزا للصفِ، ألم يميز الله به بين الخبيث والطيب؟!
الذي لا علم له بمقاصد الشريعة الإسلامية والمصالح المرسلة، لا يمكنه أن يفهم هذه النصرة التي هبت لها مختلف الشعوب المسلمة والبعض من التيارات السلفية والعلمانية التي تقف دائما موقفا واحدًا، لأنها لا تملك مشروعا سياسيا تدفعُ به الباطل، وبالتالي هم يعتبرون أن ما حدث مجرد استغلال سياسي للعاطفة الدينية، وهذا غير صحيح طبعا، لأن المسألة كما قلنا ليست مجرد إساءة عابرة إنما هي عداوة تاريخية، ويتضحُ المشكل اليوم في أنه لما وقعت الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من طرف الدنمارك رأينا كل الشعوب تتحرك، ولم نشاهد من أنقَصَ من قيمة تلك الانتفاضة من داخل الجسد الإسلامي، أما اليوم فترى العَجب العُجاب، لدرجة أنهم يستشهدون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبيع ويشتري من اليهود، وبالتالي لا يجوز مقاطعة منتجات فرنسا، وهذا عَينُ الخُبثِ في التعامل مع الأدلة الشرعية.
ومن الغباء أن نتعامل مع الحزئيات على أنها كليات وأن ننزل الثانية مقام الأولى، وبالتالي فإن الأمر يندرج ضمن الغربلة وليميز الله الخبيث من الطيب، لأن هؤلاء الذين يكونون معك في الصف ولا يحملون قضيتك عبءٌ عليك بالدرجة الأولى، ونستذكر قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا»، ومن الصعب جدا أن نتقبل أن هناك من يؤمن بهذا النبي ويرضى بهذه الإساءة ولا يرى فيها ضررا كبيرا ويتعامل معها بالبرود، فإن كان هذا الأمر مبنيا عن جهل نسأل الله تعالى لهم ولنا العلم والهداية، وإن كان مبنيا على علم وخبث فحسبنا الله ونعم الوكيل، وما هو إلا دليل على مدى تغلغل العلمنة في أوساطنا المختلفة عبر ما يتم تداوله من سينما وتلفزيون وكتب ومحتويات استطاعت التأثير على ذهنيات الشباب بشكل سلبي وجعلتهم دائما في مرتبة الإنسان الأدنى، أو الإنسان البرغماتي الذي يتأقلم دائما مع سيطرة الإنسان الأعلى عليه.
في سؤالي الأول كنت أقصد شخصا حليقا أما الآن فأنا أقصد الملتحي، فالجناب النبوي لا يحتاج منا دفاعا بل نحن الذين نحتاج إلى الدفاع عنه لنُثَبِتَ إيماننا ونرسخَهُ، وهذا الذي يدفع إلى الاستغراب ممن يتذمر من كيفية مواجهة الإساءة فيجيب بمحبته وإتباع سنته، وهذا شرط الإيمان وليس حلا لمواجهة التطاول ورد الإساءة، ألا يعتبر هذا الأمر من التخذيل وإطفاء الحماس بالنسبة للمسلمين؟ أولا يعتبر أيضا من التماهي مع موقف الأنظمة الحاكمة حتى لا يُغضَبَ عليهم؟
في الحقيقة هؤلاء الناس يمكنهم إيجاد تأويل لكل ما يجعلهم خارج ما يؤمنون به من منهجٍ يعتبرونه إسلاما، فيأتي التساؤل هل النبي -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى نصرتنا؟... نعم النبي -عليه الصلاة والسلام- بحاجة إلى من ينصر سنته لإن الله تبارك وتعالى قال: "إن لم تنصروه فقد نصره الله" وقال في آية أخرى: "لتعزروه وتوقروه" بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام يحتاج المؤازرة وينبغي أن نرفعه كرمز مقدس، وليس مجرد زعيم أو مصلح أو ثوري، فهو قبل ذلك كله رسول رب العالمين، أي أننا نتعامل مع مقدس، أما بالنسبة لمن يقول بأنه لا يحتاج إلى نصرتنا ونصرته تكون بمحبته وتطبيق سنته، فهي دعاوٍ تصنف في خانة تعطيل العمل بطلب العمل الأعلى، وكأنه يطلب منك أن تكون نموذجا كاملا لا نقصان فيه لتنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا غير صحيح، فقد روي أن هناكَ صحابيا كان مدمنا على الخمر، وكان دائما ما يؤتى به إلى رسول الله ليُعزِره، فشتموه ذات مرة، فردّ عليهم الرسول: "لا تلعنوه فإنه يحبُ الله ورسوله" فبالرغم من أنه شارب خمر لم ينفِ عنه الرسول إيمانه بالله وحبه له، ما يعني أن طلب النموذج الأكمل والأعلى هو من المثبطات والمغالطات التي تنطلي على كثير من الناس، ومهما كنت زاهدا ستعصي الله ولو في تفاصيل صغيرة، كلنا عصاة ولا أحد منا بلغ كمال الإيمان لتكون له الأهلية للحديث عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عن كيفية نصرته عليه الصلاة والسلام فتكون بكل الوسائل المتاحة، المقاطعة الاقتصادية والتظاهر للتبليغ عن مدى رفضنا لهذه الإساءة وبالرد بالمثل والاستهزاء برموزهم كما يفعلون وبمضاعفة الجهد المبذول في نشر الإسلام وتبليغه لأقصى بقاع الأرض، إضافة إلى التجديد في الخطاب الديني وطرق الاستقطاب.
إذا أراد الله أمراً يسرَ أسبابه وسهل حدوثه، قد تخطئ المقاديرُ ويصيبُ القدَرُ، يقول ابن القيم في هذا السياق: "كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد ولسان القدر يقول له لا نربيه إلا في حجركَ"، ماهي رؤيتك لمستقبل الإسلام في الغرب؟
الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا عن مستقبل الإسلام، لا يمكن لأحد أن يتوقعَ ما هو مستقبل الإسلام والله عز وجل قد حسم فيه بقوله: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار" ولو لم يكن الإسلام قويا ومؤثرا لهذه الدرجة لما كان بهذه الضجة، لماذا هم الآن يشنون علينا هذه الحرب السياسية والاقتصادية والإعلامية، فلو لم تكن ترعبهم فكرتنا رغم ضعفنا المادي وهم يحاربون فينا ما فقدوه في أنفسهم، وقد قالها "ميشال افريه" الفيلسوف الفرنسي: "المسلمون يذكروننا بالشرف الذي فقدناه" وهذا ملخص الصراع القائم.
من حيث بدأنا الحديث حول الآذان في مسجد الجزائر الأعظم نختمه حول الآذان في غرناطة، فما هو انطباعكَ وما هي الآثار الروحية التي استلهمتها من هذه التجربة؟
قصة ذلك الآذان قصة عجيبة أعتبرها من كرم الله وفضله، فقد كنت أتمنى أن أنال شرف الآذان في ذلك المسجد ولم أعرف إلى ذلك سبيلا، فتوجهت إليه أثناء زيارتي إلى غرناطة وأديت صلاة الظهر وبقيت أنتظر أي شخص يمكنه توجيهي لتحقيق أمنيتي، فلما قارب وقت آذان العصر جاءني قَيّمُ المسجِد بعد أن سمعني أتلو القرآن فتعرف عليَ وتحدثنا، ثم طلبَ مني بعد أن تأخر المؤذن عن صلاة العصر أن أؤذِن، فاقشعرّ بدني ولم أستوعب الموقف، وأنا أصعدُ درجات المئذنة لأرفعَ النداء إلى الله، خاصة وأن إسبانيا تسمح للمسيح بدق الأجراس، فالمسلمون هناك طالبوا بحقهم في رفع الآذان، وهذا ما سبق وأشرنا إليه في حديثنا أن تكون في موقع قوة وتأثير، والحمد الله أن أكرمني المولى عز وجل برفع الآذان في ذلك المسجد.