تُعد المقاطعة الاقتصادية سلاح فعَّال وله تأثير في دفع الشر، أو استرجاع الحق، أو تحصيل المصلحة، فهي مظهر من مظاهر الردع، ولونً من ألوان الهجر المشروع، لكن حتى تؤتي المقاطعة الاقتصادية ثمارها، وتصل إلى الغاية المنشودة من وراءها، فلابد من ضوابط وقيود للقيام بها، فاستعمال المقاطعة في غير محلها مُضِر، وتطبيقها بصورة مغايرة لما قرره المختصون لن تُجدي، والاستمرار في استخدامها في غير الحاجة إليها لا ينصح به. 

«المعاملة بالمثل».. هل تتمتع المقاطعة بالمشروعية في القانون الدولي؟ 

كلمة "اقتصاد" في اللغة تعني التوسط والاستقامة في الأمور، وفي الاصطلاح، فهي العلم بالقوانين التي تنظم الثروة، من حيث انتاجها، واستبدلها، وتوزيعها، واستهلاكها وصيانتها، على وجه يسد حاجة الشعب والدولة، وكلمة "المقاطعة" لغةً تعني الهجر وعدم التواصل، وبناءً على ذلك فإن المقاطعة الاقتصادية باعتبارها مصطلحًا اقتصاديًا، وعرفًا سياسيًا تعني إجراء تلجأ إليه سلطات الدولة، أو هيئاتها وأفرادها، لوقف العلاقات التجارية مع جهة أخرى، ومنع التعامل مع رعاياها، بقصد الضغط الاقتصادي عليها، لارتكابها أعمالًا عدوانية.

والمقاطعة الاقتصادية تتمتع بالمشروعية في القانون الدولي، فقد نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، حيث تعد تدبيرًا جزئيًا ضد الدول التي ترتكب عملًا من أعمال العدوان، والاخلال بالسلم، كما أنها تعد ردعًا للدول المهددة للأمن العام، والمعتدية على الآخرين.

فالمقاطعة الاقتصادية هي من أشد وأقوى أنواع العقوبات التجارية، حيث تنقسم العقوبات التجارية إلى ثلاثة أنواع:

 1- العقوبات الاقتصادية: وهي أقل درجة من المقاطعة، فهي عبارة عن فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع، وليس منعها من دخول الدولة، وقد تكون على بعض المنتجات دون بعض، وتتميز عن المقاطعة بأن الحكومة هي من تمارسها لا الشعوب والأفراد.

2- المعاملة بالمثل: وهو إجراء تتخذه الدولة ضد دولة أخرى وفق مبدأ المعاملة بالمثل.

3- الحظر الاقتصادي: وهو أقل أنواع العقوبات الاقتصادية، ويقع الحظر على منتج أو أكثر، لأسباب مشروعة، كالحفاظ على الصحة العامة، أو لأسباب غير مشروعة كالانتقام من دولة ما.

كما تنقسم المقاطعات الاقتصادية إلى ثلاثة أنواع:

1- المقاطعة الاقتصادية الشعبية كمقاطعة الشعوب لمنتجات دولة أخرى.

2- المقاطعة الاقتصادية الحكومية وتقوم به الدولة ضد دولة أو دول أخرى.

3- المقاطعة الاقتصادية الدولية وتقوم به عدة دول ضد دولة ما.

«منع الكيل وحبة الحنطة».. ماهي صور المقاطعة الاقتصادية؟  

اقتصاديات الدول بصفة عامة تتشكل من مجموعات اقتصادية متمثلة في الشركات والمصانع، والمرافق الحيوية، فأي أضرار تصيب تلك المجموعات الاقتصادية، وانتاجها سيجعلها تضغط على الإرادة السياسية للدولة التابعة لها لتأخذ سياسات أكثر توازنًا، استجابة لمطالب الجهات المقاطعة.

وللمقاطعة أثر بالغ على المقاطَعين حيث تسبب لهم خسائر كبيرة وضخمة، فقد قدِّرت نسبة الخسائر الناتجة عن مقاطعة دول الخليج ومصر للمنتجات الأمريكية خلال شهر أبريل سنة 2002 بحوالي 200 مليون دولار.

أما عن أثر المقاطعة على المقاطِعين، فلا شك أن المقاطِع يمارس نوعًا من أنواع المقاومة، فيثير ذلك لديه مشاعر العزة والفخر، كما تثير بين المسلمين شعور الوحدة والاتحاد، وتدفع نحو التكاتف والتعاون بين المسلمين بعضهم ببعض.

فمن صور المقاطعة الاقتصادية عندما منع يوسف عليه السلام عن أخوته الكيل حتى يأتوا بأخيه "فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، وكذلك مقاطعة كفار قريش لبني عبد المطلب في حادثة "شِعب أبي طالب".

وما قام به الصحابي "ثُمَامة بن أُثال" في صدر الإسلام، فقد قال لرجلٍ من قريش: والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ومن صور المقاطعة الاقتصادية في العصر الحديث، ما قامت به الصين عام 1906 من مقاطعة البضائع الأمريكية احتجاجًا على وضع أمريكا قيودًا ضد هجرة الصينيين إليها.

وكذلك ما قام به حزب الوفد المصري عام 1921 من مقاطعة شاملة للمنتجات الانجليزية، وحثّ المصريين على سحب ودائعهم من المصارف الانجليزية، وحثّ التجَّار أن لا يشحنوا بضائعهم على السفن الانجليزية؛ وكذلك المقاطعة التي قامت بها الدول العربية عام 2006 ضد المنتجات الدنماركية بسبب الرسوم المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام.

«المقاطعة الاقتصادية مصلحة».. وضربٌ من ضروب الجهاد

المعاملات التجارية كالبيع والشراء مع الكافر غير المسلم "مباحة"، إلا ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين، كبيع السلاح لهم، أو بيعهم ما يحتاجونه وفيه إضرار بالمسلمين؛ وبالتالي فإن إيقاع الضرر بالعدو اقتصاديًا دون جلب مفسدة على المسلمين هي العلة الظاهرة التي يناط بها الحكم.

فبالإمكان تصنيف المقاطعة الاقتصادية على أنها ضرب من ضروب الجهاد، والجهاد مقترن في غالب آي القرآن بجهاد المال، وجهاد النفس، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، والجهاد بالمال في حال المقاطعة يكون بمنع تدفق الأموال إلى العدو، لأن ذلك يضعفه ويرهقه، ويلحق به نوع من أنواع الهزيمة بإمساك المال عنه ومنع تدفقه إليه، كما أن المقاطعة تدخل ضمن جهاد القلب لنصرة قضايا المسلمين.

وإلى جانب تصنيف المقاطعة الاقتصادية على أنها نوع من الجهاد، كذلك يمكن تصنيفها على أنها "مصلحة مرسلة" يترتب عليها جلب منفعة للمسلمين، أو دفع ضرر عنهم، من خلال حفظ مقصود الشرع من الخلق، حفظ (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض)؛ فقد أجمعت الأمة أن الشريعة حكمة ورحمة، ومصلحة للعباد في دنياهم وأخراهم؛ ولكي يُعمل بالمصلحة فلابد أن تكون معقولة، وأن يكون الأخذ بها راجعًا إلى أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين، كما يجب أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع عز وجل.

فإذا كان دفع كيد العدو والتضييق عليه حتى يرتدع عن غيِّه من مقاصد الشارع، والمقاطعة الاقتصادية فيها ما يحقق ردع العدو وكف باطله، وتجرؤه على حرمات المسلمين، وتقوية المسلمين ببث روح المقاومة ضد عدوهم، فتلك المصالح المحققة كفيلة بإلحاق المقاطعة الاقتصادية بالمصالح المرسلة، إلى جانب كونها ضربٌ من ضروب الجهاد.

ما هو حكم المقاطعة الاقتصادية شرعًا؟

لا يُعرف عن أحد من أهل العلم من العلماء والفقهاء المعاصرين قال بعدم مشروعية المقاطعة الاقتصادية، فجميعهم يرون مشروعيتها، لكن ذهب فريق منهم إلى القول بأنها (مندوبة أو واجبة)، بينما ذهب فريق آخر إلى القول بأنها موقوفة على إذن ولي الأمر -الحاكم- المعتبر شرعًا، فإن أذن تكون مشروعة، وإن لم يأذن تكون محرمة.

والراجح أن المقاطعة الاقتصادية مشروعة في الأصل، وللمسلمين ممارسة هذا الأسلوب متى ما لاحت لهم المصلحة في دفع ضرر عدوهم، أو استرجاع حقوقهم، فهي مندوب إليها ومستحبة؛ وقد تكون "واجبة" في حالتين:

1- إذا أمر الحاكم بالمقاطعة، وعدم التعامل التجاري مع جهة معينة، خاصة إذا كان في ذلك مصلحة للرعية.

2- في حالة وجوب "جهاد الدفع" عندما لا يُستطاع النكاية بالعدو إلا بمقاطعة التبادل التجاري معه.

كما أن المقاطعة الاقتصادية قد تأخذ حكم "الكراهة أو التحريم" في حالتين:

1- إذا أمر الحاكم المعتبر شرعًا بالامتناع عن المقاطعة لوجود مصلحة أكبر تتحقق من عدم المقاطعة، أو لدرء مفسدة أعظم من التي تحاول المقاطعة درءها.

 2- إذا تبين أن المقاطعة تؤدي إلى مفسدة أعظم، كزيادة طغيان العدو، أو وقوع مزيد من الضرر على المقاطِعين، أو عدم جدواها في إيقاع الضرر بالعدو، لأن الأصل من المقاطعة هو جلب مصلحة أو درء مفسدة، أو تقليلها، فإن لم يحصل من خلالها ذلك فلا تكون مشروعة.

وتقدير الأحكام وتنزيلها على الحادثة يختص به أهل العلم المشهود لهم، الذين فهموا فقه واقعهم.

متى تكون المقاطعة الاقتصادية مخالفة لمقاصد الشريعة؟ 

حيث يجب ألا تكون المقاطعة الاقتصادية مخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية (حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض)، وأن يكون العمل وفق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) فالضرر يزال بقدر الإمكان، ويزال الضرر الأشد بالضرر الأخف، كأن يكون هناك سلعة معينة ضرورية ليس لها بديل، فلا تُشرَّع المقاطعة بالنسبة لهذه السلعة.

(أن يُتحمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام )؛ فإذا تبين أن هناك ضرر واقع على بعض الأفراد بسبب المقاطعة، يجب عليهم تحمل هذا الضرر مقابل منفعة عامة ضرورية؛ كما أن (الضرورات تبيح المحظورات)، على أن تقدر الضرورة بقدرها، فيجب أن تكون الضرورة ملجئة يُخشى بسببها الهلاك أو المشقة البالغة، بالإضافة إلى أن (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع والمصالح)، فإذا كانت المقاطعة تدرء مفاسد عامة، وفي نفس الوقت تمنع منافع عامة، تُشرع المقاطعة، لأن دعم العدو اقتصاديًا وماليًا من خلال تدفق الأموال إليه من أعظم المفاسد.

كما لابد من (وجوب مشروعية الغايات، وكذلك مشروعية الوسائل المحققة لها) بحيث يكون المقصد موافقا لمقاصد الشريعة، وألا تكون الوسائل المستخدمة منهيٌّ عنها شرعًا؛ كما يجب الالتزام بسلُّم الأولويات الإسلامية (الضرورات، فالحاجيات، فالتحسينات)، فيتم مقاطعة السلع والخدمات الكمالية، ثم الحاجية، ثم الضرورية. 

على أنه لابد من مراعاة (تقليل التكاليف والمشقّة ورفع الحرج عن الناس) فمن أراد أن يأخذ بالعزيمة ندعمه ولا نثبطه، ومن أراد أن يأخذ بالرخصة في حدود الشريعة فلا نسبب له حرجًا، على أنه (لا اجتهاد مع النص)، فلا يأخذ بالرأي المخالف لمبادئ الشريعة، أو تطويعها لتتماشى مع الأهواء.

«اعتراضات وردود».. لماذا يعترض البعض على المقاطعة الاقتصادية؟

تثار عدّة اعتراضات على المقاطعة الاقتصادية من رجال الاقتصاد والسياسة وكذلك الإعلام، على النحو التالي:

 الإعتراض الأول (أن المقاطعة سوف تحقق خسائر أكبر للدول العربية والإسلامية)

 ودفع هذا الاعتراض بأنه يجب أن يُنظر للمقاطعة الاقتصادية على أنها "حرب"، ولا توجد حرب بدون تضحيات، كما أن المقاطعة لها أثر معنوي قوي على المُقاطِعين كالخروج من التبعية، والحرية في اتخاذ القرار، كما أن لها مكسب اقتصادي راجع إلى رفع الضرر الواقع على الشركات الوطنية بسبب المنافسة غير المشروعة مع الشركات الأجنبية.

الإعتراض الثاني (أن المقاطعة ستؤدي إلى مزيد من البطالة)

ودفع هذا الاعتراض بأن الطلب سوف يتجه نحو المنتجات الوطنية، وبالتالي سوف تُخلق فرص عمل جديدة بديلة عن التي فقدت، وهذا سوف يقلل من مشكلة البطالة. 

الإعتراض الثالث (أن المقاطعة سلاح غير فعَّال) 

وهذا غير صحيح، فعلى سبيل المثال، جميع البيانات والإحصائيات تأكد أن خسائر إسرائيل منذ المقاطعة العربية لها بلغت 100 مليار دولار حتى سنة 2000.

الإعتراض الرابع (أن هناك سلع ضرورية ليس لها بديل)

 ودفع هذا الاعتراض، بأن يتم العمل وفق قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، فلا تشمل المقاطعة تلك السلع.

الإعتراض الخامس (أن المقاطعة الاقتصادية عمل غير حضاري)

ودفع هذا الاعتراض، بأن هناك العديد من الزعماء حول العالم قد استخدموا سلاح المقاطعة، كما أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على جواز مقاطعة الدول المعتدية التي لا تلتزم بقرارات مجلس الأمن، بالإضافة إلى ذلك هناك العديد من الدول قاطعت السلع الأجنبية لتقوية اقتصادها كالصين واليابان.

هل للمقاطعة مدة؟ 

بما أن المقاطعة الاقتصادية سلاحٌ يتوصل به لإحقاق حق أو لازهاق باطل، فهي وسيلة تستخدم وينتهي استخدامها وفق ما تقتضيه الدواعي والأسباب التي دعت لاستعمالها، وبالتالي إذا كان بلوغ الهدف والمقصد من المقاطعة لا يمكن أن يتم من خلالها، حينئذٍ تدور في فلك الكراهية أو التحريم.

فليس هناك مدة زمنية محددة للمقاطعة الاقتصادية حتى يتحقق المقصد منها، فهي إجراء لمدة زمنية مفتوحة، تنتهي بانتهاء الأسباب الدافعة إليها، وبالنظر للمقاطعات الاقتصادية التي حدث عبر التاريخ فإن المدد قد تفاوتت بين مدد قصيرة لا تتعدى أشهر معدودة، وبين مدد طويلة بلغت عدّة سنوات كالمقاطعة الهندية الشعبية للبضائع البريطانية التي تزعمها غاندي، حيث بلغت مدتها 12 سنة، فكان لها أثر كبير من حيث سعة انتشارها، وقوة تأثيرها على بريطانيا، وبناءً على ذلك فإن مدة المقاطعة الاقتصادية ترتبط بتحقيق المصلحة منها.

 

أما الأحكام المتعلقة بالأموال أثناء المقاطعة الاقتصادية من حيث الاتلاف والتصرف فيها، فإنها خمس صور:

1- الصورة الأولى: الشراء المباشر من المعتدي الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة. 

2- الصورة الثانية: الشراء من خلال وسيط.

3- الصورة الثالثة: الشراء من وكيل بالعمولة.

وفي تلك الصور الثلاث يتبين لنا أن المتضرر المباشر هو العدو، وبالتالي تكون المقاطعة مشروعة.

 

4- الصورة الرابعة: البضائع التي يصنعها المسلمين بأيديهم لكن يدفعون ثمن امتياز للمؤسسة الأصلية التابعة للعدو، في تلك الصورة لا تُشرع المقاطعة لأن الضرر الأكبر واقع على المسلمين وأكثر بكثير من الضرر الواقع على المؤسسة الأصلية صاحبة العلامة التجارية.

 

5- الصورة الخامسة: الشراء من مسلم أو البيع له بضائع صنعها العدو، فلا يجب أن تتجه المقاطعة نحو تلك الصورة، لأن ثمن تلك البضائع قد استلمها العدو، فلا يقع عليه أي ضرر، وبالتالي لا تُشرع المقاطعة في تلك الحالة.