الشرق والغرب من الثنائيات التي كانت ولا زالت تصنع الجدل في أوساط الحقول المعرفية، جدلية قامت على أساسها فلسفات وإيديولوجيات وحتى صراعات، هذه الأخيرة كانت تدار على المستوى الفكري بالدرجة الأولى كما وصلت إلى حد الحرب في أحيان أخرى. 

وقد كان لهذه الثنائية تداعياتها على الحضارة الإنسانية وبشكل مباشر على أنماط العلاقات التي تسير وتتعايش وفقها مختلف التجمعات البشرية، بداية من الأفراد إلى ما يعرف اليوم بالدولة، وقد تمثل هذا التأثير من خلال مضامين الخطابات التي تدور بين الدول التي تقع في الشرق وأخرى في الغرب، كذلك الممارسات والتعاملات التي تظهر في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي بين هذه الأطراف.

وعليه سنحاول أن نلمس إمكانية تجاوز مثل هكذا جدليات إلى مستوى تنصهر فيه كل الشعوب داخل مجتمع إنساني واحد. 

هذه المحاولة ستكون بالاستعانة بما قدمه المفكر مالك بن نبي من خلال مؤلفه "دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين"، كرؤية حول الحضارة والإنسانية وموقع المسلم ضمنهما، وبدورنا سَنربطها بموضوعنا المطروح. وانطلاقا مما سبق: هل فيه إمكانية تجاوز تفاعل الأفراد والدول ضمن ثنائية الشرق والغرب إلى التفاعل في ظل مجتمع إنساني أوحد؟ وما محل الفرد المسلم منها؟

 أولا: مفاهيم مفتاحية:  
  • الشرق والغرب: هو تقسيم يقوم على عدة اعتبارات انطلاقا من التقسيم الجغرافي على أساس دول تقع في شرق العالم وأخرى في غربه، وهناك دراسات ومراجع تناولت هذا التقسيم من بعد آخر أساسه وجود شرق متخلف وغرب متقدم وفق معيار المدنية الحديثة والتحضر، هذا الأخير كمشروع تعتبره بلدان الغرب من أولوياتها تجاه باقي الشعوب، منتجا بذلك ثنائيات فرعية على أساس مُسْتَعْمِرْ ومُسْتَعْمَرْ، تقدم وتخلف، علم وجهل، ثقافة متطورة وأخرى تقليدية، كما أن مصطلح الشرق والغرب خضع بدوره لثنائية الأنا(الغرب) والآخر(الشرق).
  • الحضارة(Civilisation): هناك العديد من المفكرين الذين تناولوا هذا المصطلح، كل حسب وجهة نظره وخلفيته، لكن بما أنه سيتم التطرق إلى الفرد المسلم ودوره في الإشكالية السالفة الطرح، فسَنأخذ هذا المفهوم من وجهة نظر "مالك بن نبي" لتقريب الصورة أكثر لهذا الدور المفصلي الذي هو بمثابة جوهر الإشكالية، فيعرف الحضارة "أنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره"، معتبرا أن الأزمة والمشكلة التي وقعت فيها الشعوب-بالأخص الشعوب الإسلامية- "هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
  • كتاب "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين": ألفه المفكر الجزائري مالك بن نبي حاول أن يبين من خلاله دور المسلم الحقيقي تجاه نفسه، ثم بلده ثم الإنسانية جمعاء، خاصة أواخر القرن العشرين، متناولا في ذلك أهم العوامل والشروط المنوطة بهذا الدور، آخذا بعين الاعتبار المعضلات الموجودة على مستوى الحضارة الإنسانية عموما، متضمنا في ذلك المشاكل التي تعاني منها كل من دول الشرق والغرب مقترحا في ذلك بعض المخارج انطلاقا من الفرد المسلم بصفة خاصة.
ثانيا: رؤية في ثنائية الشرق والغرب:

إن مصطلحات كهذه لا تظهر اعتباطا، إنما لها تبْريراتها وخلفياتها التي ساهمت في بروزها، فلقد حملت الكثير الكثير نتيجة ظروف وأحداث تاريخية نذكر منها-على سبيل الذكر لا الحصر-:

1-الاستشراق(Orientalism): يعرفه إدوار سعيد "هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تقريرات حوله وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه، وهو بإيجاز أسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه"، كما هي ظاهرة ترتكز بالدرجة الأولى على دراسة كل ماله علاقة بالشرق من ثقافة وعلوم وآداب وغيرها، جاءت هذه الموجة تبعا لما خلفته العصور الوسطى على أوروبا، وكُمحاولة للاستفادة من إرث الحضارة الشرقية وما وصلت إليه من رقي، لكن رواد هذه الظاهرة كانت لهم دوافع لها مالها وعليها ما عليها، منها الديني والعلمي، التجاري والسياسي بالإضافة الى كونه (الاستشراق) في حد ذاته وسيلة ممهدة لظاهرة الاستعمار وخادمة لأهدافه التي أصبحت فيما بعد أداته الأساسية.

2-الظاهرة الاستعمارية(Colonialism): " بدأ عصر الاستعمار الحديث منذ حوالي 1500، بعد الاكتشافات الأوروبية لطريق بحري حول الساحل الجنوبي لأفريقيا (1488) وأمريكا 

(1492). مع هذه الأحداث، تحولت القوة البحرية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي وإلى الدول القومية الناشئة في البرتغال وإسبانيا والجمهورية الهولندية وفرنسا وإنجلترا. عن طريق الاستكشاف والغزو والاستيطان، توسعت هذه الدول واستعمرت في جميع أنحاء العالم، ونشرت المؤسسات والثقافة الأوروبية". 

فقد برز الاستعمار أكثر كظاهرة وحركة استعمارية توسعية على حساب الشعوب الأخرى بفعل الكشوفات، بالإضافة إلى الحروب الصليبية التي كانت تحمل في طياتها حروب استعمارية رغم طابعها الديني، فبرزت على إثر ذلك ثنائية دول مستعمرة ودول مستعمرة، هذه الأخيرة ادعت حملها لمِشعل الحضارة وتحضير الشعوب ولو بالعنف والقوة، ومنه لتظهر ثنائية شعوب متحضرة وأخرى غير متحضرة أو بربرية وغيرها. 

3-إفرازات فترة الحرب الباردة ما بين 1945-1990: احتضنت هذه الفترة العديد من المشاريع التي ساهمت في تجسيد فكرة الشرق والغرب، وذلك على أساس كتلة شرقية تتبنى الاشتراكية بإشراف الاتحاد السوفياتي، وغربية تتبنى الرأسمالية تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية، كل طرف مدعم ببرامج ومشاريع مما زاد الهوة بينهما وبين الدول التي مازالت تعاني إلى اليوم من مثل هكذا سياسات ومشاريع على غرار مشروع مارشال وَمبدأ ترومان، كذلك مبدأ جدانوف من نفس العام، وغيرها من المشاريع التي تلتها فيما بعد. 

ثالثا: من فضاء ثنائية الشرق والغرب إلى فضاء الحضارة الإنسانية، هل من سبيل؟

  إن تجاوز هذه التقسيمات التي قامت على أسس ذاتية وغير موضوعية، والتي تدعو بدورها إلى عدم الاعتراف بالآخر وحتى نفي وجوده، وتفضيل طرف على طرف وغيرها من صور التهميش والتمييز التي من شأنها تقليل قيمة الفرد كإنسان، القضية حرجة تدعو الى إعادة النظر فيها، وهذا ربما ما لمسناه كبداية لمشروع يتيح للإنسانية الاجتماع بدل الانشطار عند "مالك بن نبي" حيث انطلق من الأزمة التي وقعت فيها كل من دول الغرب والشرق أو الإنسانية بصفة عامة، فالأولى-دول الغرب-فقدت مبرراتها التي قامت عليها حضارتها (الإستعمار، الإكتشافات العلمية) منتجة واقعا ثقافيا جديدا تجلت مظاهره في تدني الأخلاق، والانحلال ورواج المخدرات، وظاهرة الانتحار التي هو عكس مورُوثاتها، وذلك رغم رقي المستوى المعيشي وما وصلت إليه من تطور، في المقابل دول الشرق ذات الأغلبية المسلمة فأزْمتها لم تمس الجوهر أو الروح، كما لم يتم تفعيل هذا الجانب الروحي وتوظيفه بفعالية، بل مست أكثر الجانب المادي وما يحمله من اكتشافات وعلوم.

  هنا يأتي دور الفرد المسلم برسالته حسب "بن نبي" التي تعتمد أو تتطلب شروط مشروع حضارة تحتوي الإنسانية باختلافاتها، وذلك من خلال إنقاذ المسلم نفسه ثم إنقاذ الآخرين، فينقذ نفسه من خلال تبني آليتين أولاها اقتناع المسلم نفسه بفحوى رسالته ففَاقد الشيء لا يعطيه، أما ثانيها فيكون بإقناع الآخر(الإنسانية) بمنطق عملي أكثر لا مجرد أفكار بعيدة عن الواقع، هاتين الآليتين تشترطان تغيير المسلم بداخله كأولوية ثم محيطه ثم العالم، هذا الأخير الذي يتطلب إزالة شبكة العلاقات المتناقضة الموجودة على مستواه بصورها الثلاث والتي هي جوهر الإشكالية التي طرحناها سلفا.

  •  فأولى هذه العلاقات تلك التي تتعلق بالجانب الاقتصادي، بوجود طرف متقدم وطرف متخلف بحكم المدنية الحديثة ومظاهرها، بالإضافة إلى أن الدول المتخلفة تصدر المواد الخام بسعر زهيد للدول المتقدمة، فيما هذه الأخيرة تقابلها بمواد أولية وبأسعار مرتفعة، مع تجلي ظاهرة الاحتكار من طرف الدول المتقدمة. 
  • أما الثانية فتَخص الجانب السياسي المتمثل في الحوار القائم على ثنائية الاستعمار والقابلية له، هذه الأخيرة التي ترسبت لدى شعوب الدول المستقلة بفعل الاستعمار وتغلغلها أيضا في رموز أنظمتها السياسية. 
  • أما ثالثا وأخيرا ما تعلق بالجانب النفسي-الثقافي الموجود على مستوى محورين، محور يطرح مشكلاته بمنطق القوة (محور واشنطن-موسكو)، وآخر يطرح مشكلاته بمنطق البقاء لا غير للارتقاء إلى مستوى الحضارة (محور طنجة-جاكرتا)، وهذا محور يشمل الدول المتخلفة وبالأخص المسلمين.

 ومنه فهذه العلاقات تتطلب إزالتها كونها تمثل جزءا كبيرا من الأزمة الإنسانية التي سبق الحديث عنها، وفي هذا الصدد يقول بن نبي:" يجب علينا أن نصفي هذه الخريطة من العلاقات العالمية حتى يتسنى لهذه الانسانية أن ترفع مستواها إلى مستوى القداسة ...".

 إذا كان "بن نبي" ربط طرحه بفترة معينة-الثلث الأخير من القرن العشرين- فهذه الفترة لها مقتضياتها ومعطياتها، إلا أن الطريقة والمنطق الذي اتبعه في التقصي والتعاطي مع هكذا قضايا وأزمات، مازالت صلاحيتها قابلة لإعادة النظر فيها مع الاجتهاد ومحاولة تكييفها مع ظروف اليوم.

والمخرج من هذه الأزمة يفرض على المسلم كطرف أساسي في هذا الحل الالتزام أولا بمعرفة نفسه حق المعرفة وتغيير ما يجب تغييره من رواسب الاستعمار والتخلف، ليكون بذلك نموذج الإنسان المسلم، مع تحمل مسؤولية تغيير محيطه بما يلزم، ثم معرفة الآخرين وعدم الجهل بما في نفوسهم، ضف له ضرورة تجنب التعالي عليهم وتجاهلهم. 

مع كل هذا-أخذا وعملا-يجعل المسلم رسالته تأخذ منحاها الصحيح وتؤتي أكلها كما يجب إذا ما أخذت ظروف العصر وحيثياته. 

 يمكن القول إن جدلية الشرق والغرب تبقى مسألة تقسيم حضاري بالدرجة الأولى أكثر منه تقسيم جغرافي، وفي إطار الرؤية التي تبناها "مالك بن نبي" للانتقال من طور التقسيمات والجدليات التي تهدد الإنسان أكثر مما تخدمه، إلى طور الإنسانية وفق نموذج معين محوره الفرد المسلم، فهي تعد بمثابة فاتحة مشروع لم الشمل في عصر طغت فيه حتميات وقناعات بضرورة وجود قوي وضعيف.. متقدم ومتخلف.. متحضر وغير متحضر...الخ، معظمها ثنائيات قائمة على الصراع Struggle. 

وفي نفس الوقت هي تغذي هذا الصراع بآليات وأشكال شتى، منها ما هو اقتصادي من خلال ما تمارسه الدول القوية باحْتكارها للمنظمات المالية والاقتصادية، أيضا سياسي في تعميم النموذج الديمقراطي على باقي الدول وشعوبها مع فرضه أحيانا أخرى، وعدم الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل بيئة وبنيتها، أما الجانب الثقافي فقد يكون نتيجة الآليتين السابقتين في شكل ظاهرة هجرة الأدمغة والاغتراب بأنواعه وغيرها.

  بالرغم مما جاء به "بن نبي" في طروحاته إلا أن ذلك ما يزال يبث العديد من التساؤلات، منها: كيف يمكن أن نتجاوز تلك الصبغة المثالية في بعض أفكاره، التي هي ربما مثالية ناتجة أكثر عن عدم استعداد حقيقي للفرد المسلم واقتناعه برسالته ومشروعه؟ أيضا هل لدى شعوب الغرب القابلية لتقبل مبررات جديدة من طرف قد صنف أساسا أنه متخلف وغير متحضر؟...الخ. 

ولكن تبقى الأفكار بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة كما يقول "بن نبي": ‹‹... كل فكرة لها جانبان: 

  • جانب من الصحة.
  •  وجانب الصلاحية.

 قد تكون فكرة ما صالحة وليست صحيحة، وقد تكون فكرة صحيحة ثم فقدت في الطريق صلاحيتها لأسباب، ألسنا نشعر نحن مثلا بأن ديننا وهو أوضح من حيث الصحة من شمس النهار، أنه إلى حد ما و بسببنا نحن، وِبسبب تقاعسنا وَتكاسلنا ونومنا في النهار فقد بعض صلاحيته››.