«هذا الرجل يمتلك أكثر عقل شغوف الأممية الثانية» كونراد هينيش

في مطلع القرن العشرين كان قطار «الشرق السريع» المظلّة التي تحتمي بها الشخصيات الغامضة والمثيرة من كل البلدان الأوروبية؛ وطيلة سنوات، كانت شخصية غريبة ترتاد محطات هذا القطار في كلٍ من برلين وأسطنبول تحت إسمٍ مستعار يدعى بارفوس، وهو رجل أعمالٍ يهودي لا تحصى ثروته؛ ولا يقاس ذكاءه ومكره؛ كانت له يدٌ في إندلاع الثورة الروسية عام 1905، ويدٌ آخرى في إسقاط روسيا القيصرية عام 1917، كان ملهمًا لتروتسكي و الشخص الذي نفض الغبار عن لينين؛ كما كان عميلًا له مكانته ووزنه في المخابرات الألمانية؛ وككلّ يهود ذلك العصر؛ كان بارفوس أيضًا معجبًا بأفكار تيودور هرتزل بخصوص إنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين؛ فأعمل كلّ عبقريته ودهائه للقيام بكلّ تلك المهمات. 

في هذا التقرير نتعرف سويًا على ألكسندر بارفوس الجاسوس الصهيوني الذي كان السبب المباشر في سقوط القيصرية الروسية وأسهم في إنهاء الخلافة العثمانية وقام بالتمهيد لإحتلال فلسطين. 

بارفوس الشاب اليهودي الذي كره روسيا القيصرية 

في 8 من (سبتمبر) أيلول عام ؛1867 و بلدة بيريزينو بمقاطعة مينسك الروسية حينها -الآن مدينة بيريزينو مينسك تابعة لـ بيلاروسيا-؛ ولد لعائلة حرفي يهودي؛ الشاب إسرائيل لازاريفيتش جلفاند الذي اتخذ فيما بعد إسم بارفوس كإسمٍ مستعارٍ ليخفي أصوله اليهودية التي كان معرفتها لا يأتي بالخير على صاحبها؛ نظرًا لمعاداة المجتمع والدولة لليهود حينها.
ميلاد جلفاند لم يكن فأل حسن على عائلته في البداية؛ فلم تمضِ على ميلاده سوى سنوات بسيطة حتى اندلع حريقٌ كبيرٌ دمّر بلدة بيريزينو ودمّر معها منزل عائلته، مما اضطرّ عائلة غيلفاند للانتقال إلى أوديسا حيث موطن والدهم الأصلي.
غير أنّ حظّ بارفوس بدأ في البزوغ حين بلغ السادسة من عمره فقد تزامن ذلك مع جلوس القيصر إسكندر الثاني على عرش الإمبراطورية الروسية ؛ القيصر الذي راجع سياسة بلده ضدّ اليهود، فأجبرهم على التعليم وأعطى لهم حقوقًا ومساواتهم مع الروس، لينال بارفوس تعليمًا جيّدًا في صغره سمح له بدخول جامعة بجامعة بازل عام 1888، حيث درس الاقتصاد السياسي بشكل أساسي بتوجيه من بليخانوف. 
لم ينسى بارفوس أصوله اليهودية؛ فقام بالانخراط في دوائر الشباب اليهودي الثوري في سن التاسعة عشر، ثمّ ما لبث أن غادر إلى زيورخ، حيث التقى بأعضاء مجموعة تحرير العمل - جورجي بليخانوف، بافيل أكسلرود وفيرا زاسوليتش وأصبح قريبًا من أستاذ الاقتصاد السياسي كارل بوشر، الذي ساعده في كتابة أطروحة حول «مشكلة تقسيم العمل».
في عام 1891 تخرج بارفوس من جامعة بازل بدرجة الدكتوراه في الإقتصاد السياسي، وانتقل بعدها إلى ألمانيا حيث انضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي. 
التقى بارفوس في فترة إقامته بألمانيا بكلٍ من بكارل كاوتسكي و كلارا زيتكين وفيكتور أدلر وروزا لوكسمبورغ اللذين ساهموا في إكتساب بارفوس لأفكارٍ ثورية سرعان ما حملها إلى روسيا لإشعال الثورة هناك. 

لم تدم فترة إقامة بارفوس بألمانيا كثيرًا فسرعان ما طرد الشاب اليهودي من الأراضي الألمانية باعتباره «أجنبيًا غير مرغوب فيه»؛ وذلك بعد أن صار محررًا في جريدة العمال السكسونية وكتب عشرات المقالات التي تحمل أفكاره السياسية والإقتصادية المشبّعة بالإشتراكية بل تحوّل إلى منظرًا ماركسيًا؛ الأمر الذي أزعج السلطات الألمانية لتقرر طرد الرجل قبل أن تنتشر أفكاره وتتحوّل إلى كرة ثلجٍ تهدد ألمانيا.  
قبل رحيله عن مقاطعة ساكسونيا الألمانية عيّن جلفاند عشيقته روزا لوكسمبورغ خلفا له في الصحيفة؛ كما أصبحت شقة بارفوس في ميونيخ مع نهاية تسعينيات القرن 19م مركز جذب لكل من الماركسيين الألمان والروس؛ بل أن حتى لينين الذي سيصبح فيما بعد رمزًا وقائدًا للثورة البلشفية كان أحد زوار شقة بارفوس في ميونيخ، وبدأت شيئًا فشيئًا تنتشر أفكار ومقالات بارفوس بين مرتادي الماركسية في أوروبا . وفي هذا الشأن كتب عنه الكاتب الروسي الشهير إسحاق. دويتشر قائلًا: «تظهر مقالاته عادةً في الصفحة الأولى من صحيفة الايسكرا - بحيث دفع المحررون مقالاتهم الافتتاحية بسعادة إلى الخلفية ، تاركين لمقالات بارفوس مجالًا»

تروتسكي الذي التقى به بارفوس في مكتب تحرير صحيفة الايسكرا، اعتبر أنّ بارفوس «بلا شك شخصية ماركسية بارزة في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن» ، ذكر لاحقًا أنه في تلك السنوات بالفعل «كان بارفوس يمتلك حلمًا غير متوقع تمامًا». 


 إسقاط الإمبراطوريتين .. حلم بارفوس لتحقيق الحلم الأكبر لليهود.

حلم بارفوس الذي كان يقصده تروتسكي في حديثه السابق، لم يكن في حقيقة الأمر سوى إسقاط الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية؛ كي يتسنى لليهود أبناء جلدته تحقيق حلمهم الأكبر في تأسيس وطنهم القومي في فلسطين؛ و تجسيد ذلك كان بداية في روسيا أين لعب بارفوس الدور الكبير في الأحداث التي شهدتها الإمبراطورية الروسية قبل سقوطها سنة 1917.

علاقة بارفوس بالثوار الروس بدأت في عام 1896، حين انضم بارفوس إلى الوفد الروسي في المؤتمر الرابع للأممية الثانية (لندن)؛ هناك توطدت علاقة بارفوس بالثوار الروس، وأقنعهم بفكرة أن خوض الإمبراطورية الروسية حربًا هو «السبيل الوحيد » لنجاح أي ثورةٍ تقوم ضدّه؛ مبررًا أنّ الحرب التي سيخوضها الروس تنهك الجيش والإقتصاد. 

مع اندلاع الحرب الروسية اليابانية سنة 1905 ، نشر بارفوس في صحيفة الايسكرا سلسلة من المقالات بعنوان «الحرب والثورة»، والتي وصف فيها الحرب بأنها «الفجر الدموي لأعمال عظيمة وشيكة» ، وتنبأ بالهزيمة الحتمية لروسيا، ونتيجة لذلك قام بارفوس بحشد الثوار الروس إستعدادًا الفرصة المواتية لإشعال الثورة؛ وهو ما حدث بعد حادثة ما يعرف بالأحد الدامي الذي تلى هزيمة روسيا القيصرية في حربها .
خلال ربيع وصيف 1905، دعا بارفوس العمال الروس إلى الاستيلاء على السلطة وتشكيل حكومة اشتراكية ديمقراطية من «الديمقراطية العمالية»، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من عام ذاته؛ قرّر القدوم إلى روسيا شخصيًا للمشاركة في النضال الثوري على الفور.
وصل بارفوس إلى سانت بطرسبرغ بجواز سفر مزور رفقة تروتسكي، ليقوما بإنشاء مجلس سانت بطرسبرغ لنواب العمال ودخلوا لجنته التنفيذية، وكتب بارفوس «البيان المالي» الشهير الذي استنفد صبر الحكومة وهي الوثيقة، التي اعتمدها مجلس سانت بطرسبرغ في 2 ديسمبر 1905 ،و تناولت الفساد في الحكومة الروسية، واستمر كلٌ من بارفوس وتروتسكي في قيادة الثورة الروسية وذلك بالتنظير لما يعرف بنظرية الثورة الدائمة. 

وفقًا لهذه النظرية، وفي سياق الثورات المستمرة، فان السلطة ستنتقل تباعًا من الحكم المطلق إلى ملكية دستورية، ثم إلى الجمهورية البرجوازية، وأخيرًا إلى البروليتاريا.

وفي الوقت نفسه اعتقد ماركس وإنجلز أن الثورة البروليتارية ستكتسب حتما طابعًا دوليًا، وستتسبب، بدءًا من بلد واحد، في نوع من ردود الفعل المتسلسلة: «الفرنسي سيبدأ، والألماني سينهيها» إلى غاية تحويل الأممية الثانية مرة أخرى في بداية القرن العشرين.

خلال هذا الوقت طوّر هيلفاند، قام بارفوس، بالتضامن مع منظري الماركسية من خلال تطوير مفهوم استخدام حرب دولية لإثارة ثورة داخل البلد، وقد أحيا بارفوس ذلك المفهوم من فكر كارل ماركس، وهي إستراتيجية "الثورة الدائمة". وقد نقل هذه الفلسفة إلى تروتسكي الذي قام بتوسيعها وتطويرها؛ فكانت هناك مناقشات واسعة حول مسائل "الثورة الدائمة" داخل الحركة الديمقراطية الاجتماعية في الفترة التي سبقت عام 1917، وهي المناقشات التي أنضجت أفكار لينين بخصوص انتصار الثورة البلشفية وتأسيس الحكومة الشيوعية في روسيا بعد ذلك.
 كان بارفوس يعتقد أن البرجوازية في روسيا -بسبب خصوصيات تطورها التاريخي- ليست من الطبقات الثورية، وبالتالي فإن الصعوبات التي تواجه الثورة البرجوازية جعلتها في صف واحدٍ مع الثورة البروليتارية لتحقيق الإنتصار، وأكدّ بارفوس أنّ هذا التحالف بين البرجوازية والبروليتارية هو تحالفٌ مؤقت.
في تنظيره؛ يرى بارفوس أنّه يجب على البروليتاريا، أن تنشئ، في سياق الانتفاضة المسلحة حكومتها الثورية المؤقتة ، دون الدخول في تحالفات مع طبقات أخرى؛ ومن هنا جاء الشعار الشهير -الذي نسبه لينين ظلما إلى تروتسكي- «بدون قيصر، لكن حكومة عمالية».
كان بارفوس أيضًا منضبطًا جدًا في تقييمه للإمكانات الثورية للفلاحين الروس، معتقدًا أنهم لم يكونوا مستعدين للعب دور سياسي مستقل في الثورة وكان محكومًا عليهم أن يظلوا مجرد قوة احتياطية احتياطية للثورة وهو ما حدث حينها. 
كان بارفوس يرى أن المهمة الرئيسية لهذه الحكومة تكون في تنفيذ كل من التحولات ذات الطابع الديمقراطي العام، والتي تم تنفيذها بالفعل في سياق الثورات البرجوازية في الغرب. 
بعد أن صار سماء روسيا مغيمًا بسحاب الثورة؛ وأرضها مفروشةً ببساط الثوار؛ بدأ فصل جديدٌ في حياة بارفوس، الذي إختار إمتطاء قطار الشرق السريع والسفر إلى إسطنبول أين وجد في حزب تركيا الفتاة مظلةً تحتويه وأفكاره؛ فتحوّل بارفوس سريعًا إلى مستشارٍ إقتصادي لحكومة تركيا الفتاة. 

في تركيا أصبح بارفوس واحدًا من أكبر أثرياء القارة الأوروبية؛ وذلك بعد أن تحوّل إلى تاجرٍ للسلاح مستغلًا حروب البلقان من 1912-1913، فقد كان بارفوس منخرطا في الأنشطة التجارية المتعلقة بالامدادات العسكرية وتجارة الحبوب للجيش العثماني ما أكسبه أموالًا كبيرة وعلاقات متشعبة. 
لم يكن المال الوحيد الذي شدّ جلفاند في إقامته بالأستانة؛ فقلبه كان لا يزال معلقًا بما يحدث في روسيا؛ ولسبيل إنهاء حكم القيصر الروسي تحوّل بارفوس إلى عميلٍ للمخابرات الألمانية وذلك بعد أن مع السفير الألماني في إسطنبول، هانز فون وانغنهايم، الذي أكد له بارفوس «موقفه المؤيد تمامًا لألمانيا»، وقال إنه يساعد القوميين الأوكرانيين ويدعم صحيفة باتسارياس في بوخارست.كما طلب بارفوس المال من الحكومة الإمبريالية لتنظيم ثورة في روسيا، مقنعًا السفير أن الثوار الروس لا يمكنهم تحقيق أهدافهم إلا بالتدمير الكامل للقيصرية وتقسيم روسيا إلى دول صغيرة. ونقل السفير كلمات بارفوس قائلًا «ستكون روسيا خطرة على ألمانيا حتى بعد الحرب، إذا لم يتم تقسيم الإمبراطورية الروسية إلى عدد من الأجزاء المنفصلة». ولم تترد ألمانيا في الدخول على خط الثورة الروسية؛ بحكم أنّ روسيا كانت إحدى أعدائها في الحرب العالمية الأولى. 
في مارس 1915، وضع بارفوس خطة مفصلة لتنظيم ثورة في روسيا - وثيقة تعرف باسم «مذكرة الدكتور جلفاند» بالاعتماد على تجربة ثورة 1905-1907 ، وصف بارفوس في 20 صفحة كيفية تنظيم حملة صحفية ، وكيفية تنظيم جيشٍ حرٍ لمحاربة القيصرية. وأسند بارفوس الدور الرئيسي في خطته إلى البلاشفة 

في 6 مارس ، بناءً على اقتراح وزير الخارجية الألماني أرتور زيمرمان ، تم رفع جميع القيود المفروضة على الحركة في ألمانيا من جلفاند بارفوس، وتم تزويده بجوازات سفر للسفر إلى دول محايدة. في اليوم التالي، كتب زيمرمان إلى وزارة المالية الألمانية طلبًا بتخصيص مليوني مارك لإجراء دعاية ثورية في روسيا. في 11 مارس، تم تخصيص الأموال وبدأت ألمانيا فععليًا في دعم الثورة الروسية.. 
 وبينما كان لينين يقبع في زوريخ معزولًا عن المشاركة في الأحداث الكبرى التي تقع في روسيا، أرسل بارفوس رسالةً إلى لينين يعرض فيها المساعدة على نقله إلى سان بطرسبرغ مقابل توقيع إتفاقية مع ألمانيا يتعهد فيها بإخراج روسيا من الحرب العالمية الأولى وبتوقيع معاهدة صلحٍ معها. 

دفعت فورة الحماسة والغضب لينين للموافقة على شروط جلفاند على التعاون مع هيئة الأركان العامة الألمانية، التي وضعته فورًا رفيقه غريغوري زينوفييف على متن قطار متجه إلى بيتروغراد، وفور وصول لينين إلى روسيا قام ومعه جماعته البلاشفة بالاستيلاء على السلطة بمساعدة مبالغ إضافية من الدعم المالي من بارفوس والحكومة الألمانية.

كان توقّع بارفوس بعد إنتصار الثورة في روسيا أن يكون المستشار المالي للينين؛ لكن ذلك لم يحدث؛ بل أتهم بالعمالة للإستخبارات الألمانية؛ وهي الإتهامات التي ردّ عليها بارفوس من خلال كتيّب حمل عنوان «ردي على كيرينسكي وشركته» نفى من خلال جلفاند تحويل أموالٍ إلى حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي بعد ثورة أكتوبر عام 1917 من أجل الحصول على منصب مفوض الشعب للمالية في مجلس مفوضي الشعب في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية. 

 

بتدهور علاقته مع البلاشفة وقائدهم لينين؛ قرّر بارفوس إعتزال السياسة سنة 1918؛ وفي 12 ديسمبر (كانون الأول) 1924 تُوفي بارفوس، وتم حرق جثته في مقبرة برلين، ولم يترك بارفوس أي وثائق بعد وفاته، واختفت جميع مدخراته. 
يقول الدكتور الكويتي والباحث في التاريخ مهنا المهنا تعليقًا على دور اليهودي بارفوس في التمهيد لإحتلال فلسطين أنّ "حلم اليهود في تأسيس دولةٍ لهم مرتبطٌ بسقوط دولتين عظيمتين حينها؛ فعملوا على إسقاط أسرة رومانوف الحاكمة للإمبراطورية الروسية التي أعلنت نفسها الحامي عن المذهب الأرتذكسي وآثار المسيح عيسى عليه السلام في فلسطين فكانت روسيا المسؤولة عن فلسطين دينيًا؛ وكذلك أوغلوا في إضعاف الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتبعها فلسطين سياسيًا.