كان العقل قديما يتعامل مع الوجود على أساس الخوارق وليس السنن والقوانين، ولكن مجيء الإسلام فتح العهد الجديد واعتمد نموذج القانون (السنة) ولن تجد لسنة الله تبديلا أو تحويلا، ولعل فكرة (ختم النبوة) تحمل في تضاعيفها بشكل غير مباشر هذه الفكرة، فهي كما قال الفيلسوف محمد إقبال الاحتفال بمولد العقل الاستدلالي.
جاء في كتاب تجديد التفكير الديني: (ينبغي أن نفهم القيمة الثقافية لإحدى الأفكار الإسلامية العظيمة وأعني بها فكرة ختم النبوة. إن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها. ومولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي.
العقل الاستدلالي الذي يجعل الإنسان سيدًا لبيئته وهو أمر كسبي، فإذا حصلناه مرة واحدة وجب أن نتثبت دعائمه ونشد من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه. إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة الى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي عليه إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا الى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو. ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية. كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة)
فكرة القانون (السنة الوجودية)
يتألف الكون من مادة وطاقة زمان ومكان وقوانين، في حزمة من الحقائق الأساسية حول فكرة القوانين يجب تأسيسها:
1-يمتاز القانون أولًا بالشمولية:
فقانون الجاذبية موجود في المشتري وعلى ظهر القمر مثله في الأرض، وأثر الحرارة على المعادن يعمل في المريخ كما هو في الشمس، والانشطار النووي يحدث في كل نجم بما فيه شمسنا المتألقة منذ خمسة مليارات سنة تستهلك في اللحظة الواحدة أربعة ملايين طن من الهيدروجين.
2-ويمتاز القانون بالنوعية:
فالقانون الفيزيائي غير الكيمياوي، والمادي غير البيولوجي، فالمعادن تتمدد بالحرارة، والمد والجزر في بحار العالم تتأثر بحركة القمر ودورانه، والغازات تنكمش بالضغط، وتدور الأرض حول الشمس في حركة مترنحة أهليلجية، ويتم سيلان الدم في الأوعية الدموية بين التخثر والنزف في ميزان، وتفرز الهرمونات في الجسم بنسب مقدرة. إنا كل شيء خلقناه بقدر. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر.
3-تراكب القوانين:
هناك سببية في حركة القوانين، والأمور آخذ بعضها برقاب بعض في سلاسل سببية، إلا أن التقاء القوانين وتراكبها يخلق أوضاعًا جديدة، فارتفاع الحرارة إلى المائة يحول الماء إلى بخار، وانخفاضه إلى الصفر يقلبه إلى جليد وجماد، ويزداد حجمًا في تناقض استثنائي للماء، غير مفسر عقليًا تمامًا، فالمواد تنكمش وتتقلص مع التجمد والبرودة، والماء يفعل عكس ذلك فتمدد وينتفخ، وانخفاض النشادر إلى درجة 160 تحت الصفر يقلب الغاز إلى سائل، وهو المبدأ الذي استفيد منه في صناعة البرادات، وحفظ الخلايا في رحلة تشبه الأبدية؛ فتتجمد الحياة فيها ولا تنتهي حتى عشرة آلاف سنة، والحرارة لها قاع لاتزيد عنه برودة، وهي درجة الصفر المطلق لكالفن ومقدارها 273.15 تحت الصفر، وعندها تتوقف كل الجزيئات عن الحركة!
ووضع الانشطار النووي ضمن كتلة حرجة يعرضه لانشطار صاعق، والحامض النووي في الخلية يتعرض من حين لآخر الى ظاهرة الطفرة (MUTATION) مما يغير من طبيعة المخلوقات.
4-ويمتاز القانون رابعًا بالاستمرارية والثبات والتكرار:
فالجراح الذي يفتح بطن المريض يشق دومًا الى اليمين لاستئصال الزائدة الدودية، واستخدام الأدوات الكهربية يتكرر بإنتاج حركات رتيبة من العصر والغسل والشفط والنظافة والتسخين، والأشياء تسقط إلى الأسفل بفعل الجاذبية، فلم نجد قطعة ثقيلة رميناها أرضًا فطارت الى الجو، ولم تكن الحياة ممكنة الاستمرار لولا اعتماد هذا الثبات في التعامل مع الوجود.
وهذا الضخ الثابت للظواهر في كم متشابك معقد يسود كل قطاعات الوجود من الذرة إلى المجرة، ومن أعقد الأفكار إلى أعظم الأمبراطوريات، ومن الفيزياء الكونية إلى التاريخ، فالقانون يمسك برقبة الوجود ويتحكم في حركته. وفي القرآن أنه لن تجد لسنته تبديلا وتحويلا.
5 ـ خامسًا: ويمتاز القانون بالقدرة الكمونية على التسخير:
فالكهرباء حبسناها في سلك، والذرة تفجرت في أعتى قوة نووية، والمغناطيس سخر القطارات فمشت بسرعة 500 كم في الساعة. والبخار حرك البواخر ودفع القطارات، والالكترون يسود ساحة الفيديو والتلفزيون والفاكس والدشوش.
وهذا الجانب لاعلاقة له بما يعتقد الإنسان أو يدين، فمن يلقي نفسه من شاهق يتكسر أو يموت، سواء كان يدين بالكثلكة أو يعتنق البوذية من مذهب زن، وعندما تجتاح الكوليرا المناطق القذرة في الهند لا تسأل ما هي ديانة الإنسان هل هو هندوسي أو من السيخ؟ شيعي أو سني؟
وجرثومة الكوليرا تستهدف الإنسان بيولوجيا، فمن هو قذر أصابته، ومن كان نظيفًا عفت عنه، ولذلك انتشرت الكوليرا وتوطنت الهند، ولم نعد نسمع عنها في الدانمارك أو بريطانيا، مع أن الكوليرا فتكت بالعمال الألمان في مطلع القرن العشرين؛ فكان يدفن عام 1905 م في هامبورج ألف جثة يوميًا من وباء الكوليرا، حتى تم الانتباه إلى نظافة بيوت العمال.
كما أن منطقة (الرور) الصناعية لم تكن صناعية تمامًا من قبل؛ بل كانت منطقة متوطنة بالزحار، حتى أخذت هذا الاسم (الرور RUHR معناه الزحار) كذلك فتكت الملاريا بأهل روما من قبل بفعل المستنقعات حتى تم تجفيفها، والأمراض الاجتماعية من هذا القبيل؛ فالحرب الأهلية ودعت أوروبا لتتوطن في العراق وتركيا وزائير ولبنان وسوريا، وفي مطلع العام حبس فيروس تافه اسمه التاج 19 أهل الأرض في سجن جماعي.