دار حوار في مجلس الحسن البصري حول مفهوم التواضع، ما هو؟ وكيف يتواضع الإنسان؟ فذكروا التواضع عنده، وهو ساكت لا ينطق بكلمة، حتى إذا أكثروا عليه قال لهم:"أراكم قد أكثرتم الكلام في التواضع.

قالوا أيّ شيء التواضع يا أبا سعيد؟ قال:أن يخرج من بيته فلا يلقى مسلماً إلا وظنّ أنه خير منه".

أما التكبر فهو: "استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالنّاس واستصغارهم والتّرفّع على من يجب التّواضع له".كما يقول الجاحظ.

بين الكبر والثقة بالنفس

إذن فالتواضع أساساً هو شعور قلبيّ ينعكس على السلوك وعمل الإنسان، لكنك يف أفرّق بين المتكبر والواثق بنفسه؟

يُعرف المتكبّر بعلامتين، يغفل عنهما كثير من الناس:

  • رفض الحق والدليل: فحتى مع الحجة يظل يعاند، ونادراً ما تسمع منه عبارة أنا مخطئ، أو كلامك صحيح، أو لا أعلم، بينما الواثق قد يتكلم بقوة ولكنه يذعن للحجة والمنطق والبرهان.
  •  احتقار الناس وازدراؤهم: فالمتكبر يحتقر الناس في تصرفاته وأقواله، بينما الواثق لا يحتقر الناس، ولا يسيء الأدب معهم.

وهذا مستفاد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ)) مسلم.

 نسيان مزايا الخصوم مذمة

الخصم هو شخص وقعت بينك وبينه خصومة ومجادلة ومنازعة، وعندما تقع خصومة بين اثنين، غالباً لا يرى أحدهما للآخر أي مزية، لذا عُد ّنسيان مزايا الخصوم وإيجابياتهم عند وقوع الخلاف مذمّة للعاقل، لأنها انعكاس للتكبر.

الأصل أن نحسن التعامل مع الجميع بما فيهم الخصوم، ومن حسن التعامل أن نعترف بمزاياهم وإيجابياتهم وما أحسنوا فيه، وفي المقابل نحن مطالبون أن نعترف بعيوب وأخطاء من نحب.

قال الله تعالى:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت/34]. ولأن الأمر ليس بهذه السهولة، ويحتاج إلى صبرة ومصابرة، ولأنه ثقيل على بعض النفوس أتبعه الله تعالى بقوله:(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت/35]

طلحة بن عبيد الله

وقعت الفتنة (معركة الجمل) بين الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، وكان ما كان من أمرهم، وقف علي بن أبي طالب في طرف، وطلحة بن عبيد الله في الطرف الآخر، وأثناء المعركة مرّ الإمام عليّ بطلحة وهو مقتول، وكان رضي الله عنه حسن الوجه، كثير الشعر، فأنشد الإمام عليّ يقول مادحاً طلحة:

فَتًى كَانَ يُدْنِيَهُ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ 

كَأَنَّ الثُّرَيَّا عَلِقَتْ فِي جَبِينِهِ وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي الْآخَرِ الْبَدْرُ

تمثّل تلك الأبيات ووصف بها طلحة، وهو يومئذ خصمه في المعركة، لكن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بفضله ومكانته ومروءته، رضي الله عن الصحابة أجمعين.

مناظرات الشافعي

يقول الشافعي رحمه الله تعالى، عن منهجيته في المناظرة والحوار:

"ما ناظرت أحداً قط، إلا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيّن الله الحقَّ على لساني أو لسانه".

وكان "محمد بن الحسن" ممن ناظره الشافعي، وهو خصمه في الفقه ومسائله، خصمه في المناظرة والمجادلة بالحسنى، خصمه في البحث عن الحق والحقيقة، ووجود اختلاف في بعض وجهات النظر لا يلغي رابطة الأخوة، ولا يُبطل حقوقها، والتي منها عدم نسيان المزايا، لذا عندما يُذكر "محمد بن الحسن" في مجلس الشافعي يقول عنه: "ما ناظرت أحداً إلا تمعّر وجهه، ما خلا محمد بن الحسن"، وفي رواية: "ما رأيت أحداً سئل عن مسألة فيها نظر إلا تغير وجهه غير محمد بن الحسن رحمه الله".

طلب النقد محمود

ينظر غالبية الناس إلى النقد نظرة سلبية، فهو من وجهة نظرهم من الأشياء التي تثير الإحباط في النفس، وتقلل من نتائج التحفيز.

ولقد علمتني الحياة ألّا أضيق ذرعاً بالنقد، طالما كان في حدود المعقول والأدب، لأن الناقد أحياناً قد يبصر ما لا نبصره، ويتوقع ما لا يخطر ببالنا، وتعلمت أن النقد هدية، ربما لا تقدّر بثمن، لأن المدح لا يضيف عليّ شيئاً جديداً ولا أذكر أن استفدت منه كثيراً في تطوير خططي وإنجازاتي، بينما استفدت من النقد كثيراً.

وعندما أتعرض لهجوم ناقد، أو نقد لاذع، فإني أحذف سوء الفهم، وأحذف الكلمات الجارحة، وأبحث عن الكلام الصواب في نقد الناقد، وهل هناك شيء أستطيع تعديله، لأحسن من أدائي، لأن الفهم الخاطئ لكلامي كان بسببي أنا في الدرجة الأولى، فربما لم يكن كلامي واضحاً بدرجة كافية.

الأنا العظيمة 

الأنا العظيمة لا تتكبر على النقد بل تطلبه، وكان العظماء على مدار التاريخ يطلبونه، ومن هؤلاء سيدنا عمر بن الخطاب، الذي اشتهر عنه قوله:"رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي". ولم يكن رضي الله عنه يبغض منتقديه، بل كان يحبّهم ويقرّبهم إن كانوا من الصادقين، وفي هذا يقول رضي الله عنه: "إن أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي".

ورُوي أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل كتبا إلى عمر رضي الله عنه يعظانه وينصحانه بعد أن أصبح خليفة المسلمين، فلمّا قرأ الكتاب ردّ عليهما قائلاً: "..أعوذُ باللهِ أن أُنْزِلَ كتابَكما سوى المنزلِ الذي نزل من قلوبِكما، وأنكما كتبتماهُ نصيحةً لي وقد صدَقتما، فلا تدعا الكتابَ إليَّ فإنَّهُ لا غِنَى لي عنكما".

جعلتك عيني على نفسي

ومن هؤلاء الذين حرصوا على النقد، وطلبوا النصح وقدموه على المدح، الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، الذي قرّب منه مولاه مزاحم وأسرّ إليه قائلاً: "إِنَّ الْوُلَاةَ جَعَلُوا الْعُيُونَ عَلَى الْعَوَامِّ، وَأَنَا أَجْعَلُكَ عَيْنًا عَلَى نَفْسِي؛ فَإِنْ سَمِعْتَ مِنِّي كَلِمَةً تَرْبَأُ بِي عَنْهَا أَوْ فِعْلًا لَا تُحِبُّهُ، فَعِظْنِي عِنْدَهُ وَنَبِّهْنِي عَلَيْهِ".

وتدور الأيام وتنطوي الليالي ويقوم عمر بن عبد العزيز بحبس رجل فيتجاوز في حبسه القدر الذي عوقب به، يقول عمر: "فكلمني مزاحم في إطلاقه فقلت: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه ما هو أكثر مما مر عليه.

فقال مزاحم: يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخّض بالقيامة، في صبيحتها تقوم الساعة، يا عمر، لقد كدت أنسى اسمك مما أسمع: قال الأمير وقال الأمير، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك فكأنما كشف عن وجهي غطاء، فذكروا أنفسكم - رحمكم الله - فإن الذكرى تنفع المؤمنين".