إنّ حسم مسألةٍ جدلية كالتقدم والتخلف وحصرها في مجال بعينه، يعدّ تضليلًا واضحًا ومقصودًا، ذلك أن قياس مدى تقدم الأفراد والمجتمعات والمؤسسات والدول، لا يقاس من جهةٍ واحدة أو من مجال واحد، فعلى سبيل المثال لا يمكن أن نقول فلان أفضل من فلان بشكل عام هكذا دون حصر، فينبغي ومن الأصح أن يقال فلان أحسن وأفضل من فلان في كذا. ومهما كان معيار التفضيل قويا أو رائجا، لا ينبغي أن نغلبه على وجه التعميم، إذن حتى معيارين كمعيار التقدم والتخلف هما أيضا يعدان مفاضلة فضفاضة لابد من تفكيكها ومحاولة تجزئتها لمعرفة الأسباب وهل هي عامة أم معممة كالقوة والرواج.

الأمر ينطبق على الوصف المطلق على مستوى الدول، فالقائل بتصنيف التقدم والتخلف لابد وأن يكون دقيقا وملما في آن واحد، إذ المسألة أعمق من أن يتم إطلاق الحكم فيها دون تمعن وتمحيص. 

نجد نتيجة لذلك انتشار فكر المغالبة والتصنيف أي تعطى صفة التقدم للجهة الأقوى في المعادلة، مما ولد لدى مختلف الدارسين أحكاما إستباقية نجم عنها العديد من النتائج والانعكاسات على أفكار الشعوب وآرائهم تجاه أنفسهم والآخر. 

هل المعطيات المادية كافية لقياس تخلف الدول أو تقدمها؟

إن الإجابة عن سؤال "هل نحن متخلفون؟" تبدو بديهية للوهلة الأولى، فلا يحتاج عاقل لأدنى مستوى جهد في التفكير ليرد بملء فيه، نعم نحن متخلفون، كل شيء من حولنا يقول ذلك! 

حسنا دعنا بداية نفكك ما حولنا كي نحاول فهم سبب نبوع هذه البداهة في الرد. 

يتم بناء النقد على أي حضارة أو دولة بالمقياس الحديث وفق منطلقات ووقائع ونتائج لما قدمته تلك الحضارة أو تقدمه، كما أنه ينبني على عديد المجالات والمؤشرات المساهمة في ذلك، ومن أمثلة ذلك المعطيات الاقتصادية والإجتماعية، الثقافية والعلمية، السياسية والعسكرية، فنجد أن أقوى دولة اقتصاديا ليست الأقوى إجتماعيا. 

على سبيل المثال ما تعانيه أمريكا من أوضاع إجتماعية مزرية، إذ ما يقدر بنحو: 32 % من النساء في الولايات المتحدة عانين من العنف البدني من جانب الشريك وما يقارب 19 بالمئة من الاغتصاب. ومن المرجح أن تُقتل الأمريكيات أكثر على يد شريك، أو شريك سابق، أو أحد أفراد العائلة مقارنة بالقتل على يد أي معتدٍ آخر.

هذا ولازال القضاء الأمريكي لغاية يومنا هذا يجرم الأطفال بعقوبات قد تصل للمؤبد، وهناك احتمال أن يصل عدد المساجين الأطفال في المنشآت الإصلاحية بالولايات المتحدة إلى قرابة 50 ألفا. يمثل هذا الرقم انخفاضا بنسبة 50 بالمئة منذ 1999، ولكنه ما يزال أحد أعلى معدلات احتجاز الأحداث في العالم. كما تحاكم الولايات الأمريكية الأطفال كبالغين في حالات معينة، وقد تحتجز قرابة 5 آلاف طفل مذنب في معتقلات البالغين أو السجون.

تقدم اقتصادي يقابله انهيار أركان المؤسسة الاجتماعية!

في فرنسا المعروفة بقوتها الإقتصادية، أكَّد التقريرُ السنوي الأخير -الذي أعده "المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث الديموغرافية" وقُدم إلى البرلمان الفرنسي- الأوضاعَ المتردية التي آلت إليها مؤسسةُ الزواج في فرنسا، وكيف أنها لم تعد إطاراً للعلاقات بين الجنسين، بل أصبحت العلاقاتُ غير الشرعية هي النمطَ السائد بين المرأة والرجل، فمن بين كل عشرة أشخاص متزوجين يوجد تسعة منهم خارج الإطار الشرعي للزواج، نتيجة تساكن إرادي بغير عقد كنسي أو مدني أو عرفي، ومن مجموع العلاقات الزوجية التي تكونت في التسعينيات هناك نسبة 30% حالات ارتباط خارج إطار الزواج، أي ما يعادل حالة من كل خمس حالات. وأكد التقرير أنه من بين 450 ألف علاقة غير شرعية تقام كل سنة هناك فقط 150 إلى 200 ألف طلب تقدم للحصول على عقد مدني، وهذه الأرقام ليست نهائية ولكنها مرشحة للتزايد مع انتشار موجة التحرر والتحلل الجنسي والإباحية.

وقد نتج عن هذه الموجة الغربية التي غزت المجتمعَ الفرنسي ظهورُ أمهات بلا أزواج، إذ يسجل التقرير أن أكثر من نصف مجموع الأمهات الفرنسيات، أي ما يعادل 53%، يضعن أولَ مولود لهن خارج مؤسسة الزواج، نتيجة علاقة غير شرعية، وتصل نسبةُ الولادات خارج الزواج إلى 40% من مجموع الولادات المسجلة في فرنسا، وتمثل هذه النسبة 300 ألف مولود سنوياً، كلهم بلا أب شرعي، وربعُ هؤلاء ينتهي بهم الأمرُ إلى فِقدان الأب مدى الحياة، ونسبة المواليد غير الشرعيين في تزايد مطرد؛ ففي عام 1967م كانت في حدود 6%، ووصلت إلى 20% عام 1985م، لتتجاوز 40% عام 1997م، وربما هي اليوم تفوق هذه النسبة بكثير.

في المقابل نجد أن المنظومة الإجتماعية عند أفقر الدول إقتصاديا كدولة اليمن أو مصر تتمتع بمنظومات إجتماعية قوية ومتماسكة، نتيجة ما يلتزم به أفراد المجتمع من عادات وتقاليد وتشريعات ضابطة للمجتمع، ومنظمة له.

ولقد إعترف "فوكوياما" الأمريكي ذو الأصل الياباني في كتابه الجديد "الانهيار العظيم"، أن الخمسين سنة الأخيرة من القرن الماضي شهدت انهياراً عظيماً للعلاقات والأخلاق الاجتماعية والروابط الأسرية بالدول المتقدمة:

"إن هذه الحضارة - بما فيها من ثورة تكنولوجية، وانتقال المجتمع من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات والأقمار الصناعية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، والفاكس، وغيرها- هي السبب الذي أزال الحدودَ الثقافية والحضارية بين المجتمعات المستقرة منذ زمن طويل، وذلك أدى إلى بداية ظاهرة الانهيار العظيم التي اتسمت بتدهور خطير في الظروف الإجتماعية في معظم الدول الصناعية، فازدادت معدلاتُ الجريمة، وتسارع انهيارُ العلاقات والروابط بين أفراد الأسرة المؤسسة الإجتماعية المستقرة منذ مئات السنين، وكذلك معدلات الخصوبة في معظم الدول الأوربية حتى باتت تنذر بإنقراض هذه الشعوب مع تراجع معدلات الزواج، وقلة المواليد إلى حد أن ثلث الأطفال بالولايات المتحدة ينشأون خارج مؤسسة الزواج، في حين تبلغ هذه النسبة 50% في الدول الإسكندنافية."

ففي الوقت الذي تبقى الدول المتأخرة اقتصاديا في منأى عن التأثيرات العكسية في مسار المستجدات الاجتماعية وما تعانيه من تشتت وارتباك، بقيت بذلك الدول الإسلامية متقدمة بخطوة حساسة بما تتميز به من منظومة اجتماعية متماسكة ومنظمة. فبحسب ما شهدناه من تفاضل على المستوى الإجتماعي فإن الأمر بحاجة لإعادة نظر في مستوى تبعات الطغيان المادي على الجانب الإنساني والإجتماعي.