لقد تعددت الدراسات التي اعتنت بالمصطلح القرآني وخصوصا في الآونة الأخيرة، مع العلم أن هذا الاهتمام ليس وليد العصر الحالي، بل هو متجذر في كتب التراث الإسلامي، وقد بين علماء هذا الشأن قاطبة أن الدراسات المصطلحية القرآنية هي السبيل الموصل لفهم مراد الله من كتابه، وبيان أحكَامِه وحِكَمه، كما أنها تَقي الدارس لكتاب الله -عز وجل- من التفسيرات المذهبية، والتجاذبات العقدية.

وفي هذا السياق تأتي هذه المقالة لبَيَان معنى المصطلح عامة، وإبراز المقصود بالمصطلح القرآني خاصة، وبيان أهميته ومشروعية دراسته، وتسليط الضوء على أنواعه.

تعريف المصطلح
المصطلح لغة:

جاء في مقاييس اللغة: مادة "صلح" الصاد واللام والحاء، أصل يدل على خلاف الفساد يقال: صلح الشيء يصلح، ويقال صلح بفتح اللام.1

وقال الليث الصلح: تصالح القوم بينهم والصلاح نقيض الفساد، والإصلاح نقيض الإفساد، ورجل صالح: مصلح، والصالح في نفسه والمصلح في أعماله وأموره، يقال: أصلحت إلى البداية إذا أحسنت إليها ويقال: صلح فلان وصلاحا. 2

اصطلاحا:

الاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينتقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى اللغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، كما أنه اتفاق طائفة معينة على وضع ألفاظ إزاء المعنى، وهو إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد، والاصطلاح أيضا لفظ معين بين قوم معينين. 3

يقول التهانوي: الاصطلاح هو العرف الخاص، وهو عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم بعد نقله عن الموضوع الأول لمناسبة بينهما كالعموم والخصوص أو لمشاركتهما في أمر ومشابهتهما في وصف آخر أو غيرها.4

المصطلح هو: "اللفظ الذي يُسمّي مفهوماً معيَّناً داخل تخصُّص ما." 5

ويستخلص مما سبق أن المصطلح هو اتفاق أفراد أو جماعات أو قوم على وضع اسم ما لشيء ما، مع ضرورة وجود المناسبة والمشاركة والاتفاق، حيث يصبح هذا المصطلح متميزا بعديد الخصـــــــــــــــــــــــــائص منها:

  • تعريف المفهوم، حيث يسهم في بيانه بشكل دقيق وصحيح متناسب مع الموضوعات المرتبط بها.
  • ارتباط المصطلحات بالبيئة التي برزت فيها، أي كل مصطلح يعتمد في وضعه على مجموعة من العوامل التي ساهمت في ظهوره ليتحول من مرور الوقت ليصبح مصطلحا من المصطلحات العامة عند مستعمليه.

وتظهر أهمية المصطلح بأنه يمثل اللبنة الأولى من كل علم، بل هو مدار كل علم، به يبدأ وبه ينتهي6، وبأنه الطريق الموصل.

المصطلح القرآني 

 لقد تضمن القرآن الكريم عديد المفاهيم، وضبط معانيها وعبر عنها بمصطلحات دقيقة جدا بحسب المقتضيات والسياق، وبما أن القرآن أصل العلوم ومفجر المعارف، فقد اعتبر المصطلح بأنه هو الأصل والنواة الذي يجب أن يكون عليه مدار ما سواه من مصطلحات في بقية العلوم، حيث تكون تبعا له.

أولا: تعريف المصطلح القرآني

لقد بين الله -عز وجل- أن القرآن الكريم أُنزل بلسان عربيٍّ مبين، كما أن ألفاظه المتضمنة فيه تَنبع من أصل دلالتها في اللغة العربية، إلا أنها تضاف إليها أمور تَرتبط بسياقات ومآلات ينبغي مُراعاتها، حيث حمل القرآن الكريم بعض الألفاظ العربية معان ودلالات إما جديدة ابتداء، أو نامية نحو التَّعميم أو التَّخصيص، وهذه الدلالات لم تكتسبها من قبل عن العرب لتسع مدلولها فأصبح اللفظ القرآني له مفهوم غير الذي يتبادر إلى الدهن وغير الذي كان معروفا سابقا، وتركيزا على ما سبق فإن المصطلح القرآني إجمالا هو: "كل لفظ قرآني عبر عن مفهوم قرآني"، وتفصيلا: كل لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، مفرداً كان أو مركباً، اكتسب داخل الاستعمال القرآني خصوصية دلالية قرآنية جعلت منه تعبيراً عن مفهوم معين له مَوقع خاص داخل الرؤية القرآنية ونسقها المفهومي7، فيدخل في ذلك كل أسماء المعاني وأسماء الصفات المشتقة منها في القرآن الكريم، مفردة أو مركبة، مطلقة كانت أو مقيدة، وعلى الصورة الاسمية الصريحة أوعلى الصورة الفعلية التي تؤول بالاسمية.8

وعرفته الدكتورة فريدة زمرد بأنه: "كل لفظ دلَّ على مفهوم قرآني خاص لم يكن متداولا عند العرب قبل نزول القرآن الكريم".9

ويستخلص مما سبق أن كل لفظ سواء كلمة أو جملة له دلالة خاصة في نسق القرآن الكريم، وقد عبر بعض العلماء عن المصطلحات القرآنية بالألفاظ الشرعية أو الألفاظ الإسلامية، إلا أن هذه التسمية تبعدها عن حقيقتها بعض الشيء، إذ توحي أنها وليدة الإسلام، في حين أن هذه المصطلحات ذات جذور تاريخية ولغوية قبل نزول القرآن، لذلك فإن التعبير عنها بالمصطلحات يبقى هو التعبير الأمثل.

ثانيا: أهميته

وتَظْهر أهمية المصطلح القرآني من خلال ما بينه العلامة الراغب الأصفهاني الذي عاش في حضن القرآن وتحت ظلاله، وتبحر في علومه وغاص في ألفاظه وآياته: "وذكرت أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن: العلوم اللفظية. ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللبن في كونه أول المعاون في بناء ما يمكن أن يبنيه وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع. فألفاظ القرآن هي لب الكلام وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم".10

ثالثا: مشروعية دراسة المصطلح القرآني

لا شك أن تزايد الاعتناء بالمصطلح القرآني من مستجدات الساحة القرآنية، إلا أن معالمه وملامحه ظهرت منذ عصر التنزيل، حيث بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الكرام لما نزل قول الله تعالى: "الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم"، فعسر فهم ذلك على أصحابه -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنه ليس بذاك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: "إن الشرك لظلم عظيم"، وهنا إرشاد لأهمية الدراسة النصية للمفردات القرآنية في مواطنها ومواضعها المختلفة وأثرها في فهم صحيح وسليم لكتاب الله -عز وجل- دون تضييع أو تمييع، حيث أن هذا النسق الذي اعتمده الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الطريق القويم للوصول إلى فهم يطابق المقصد الرباني من الكلام القرآني، ومن هنا تعد دراسة المصطلح القرآني أهم مداخل التفسير.

رابعا: أنواع المصطلح القرآني

لقد تعددت وتنوعت الدراسات التي تناولت المصطلح القرآني، حيث بينت أن المصطلح القرآني على ثلاثة أنواع هي:

  • مصطلحات وافقت اللغة العربية واستقرت دلالتها:

أي وافقت وتطابقت مع ما عرفته العرب قبل نزول القرآن الكريم، والمقصود من هذه أنها من حيث الشكل والمضمون أي قلبا وقالبا، وغيرها من المصطلحات القرآنية التي وافقت اللغة العربية، والمقصود بالمصطلحات التي وافقت اللغة العربية وحافظت على دلالاتها أي من حيث المحافظة الشكلية على معنى اللفظ اللغوي، وإلا فالقرآن قد أضفى عليه صفة القدسية والتأثير المعجز، ومن أمثلة ذلك:

مصطلح (العبودية)، أصل العبودية الخضوع والتذلل، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا من كان له أعلى منزلة من الإنعام، ومفهوم المصطلح في القرآن لا يخرج عن المعنى اللغوي المعروف، فمعناه العبادة من قبل العبد الخاضع لربه، المستسلم المنقاد لأمره، وبهذا المعنى استعمل اللفظ قبل نزول القرآن وبعده، فكان مفهومه واحدا ولكن القرآن أضاف عليه صفة التخصيص بعبادة الله عز وجل وحده.11

مصطلح (الكعبة)، وهي بيت الله الحرام، وقد أخذت تسميتها من شكلها الهندسي، فكل بناء مربع عند العرب فهو كعبة، والكعبة اسم عربي تصميم، وقد أطلقوه على هذا البناء لمكانته السامية، وهذا المعنى الذي دل عليه مصطلح (الكعبة) هو المعنى نفسه الذي ورد في القرآن الكريم فلم يطرأ عليه أي تطور دلالي في هاتين الفترتين.12

  • مصطلحات خضعت للتغيير الدلالي إما بالتضييق أو الاتساع أو الانتقال:

 أي مصطلحات كانت معروفة في البيئة العربية قبل نزول القرآن بدلالات معينة ثم ضاقت هذه الدلالات أو اتسعت رقعتها، أو طرأ عليها انتقال أكسبها دلالات جديدة من خلال النص القرآني.

  • مصطلحات ضاقت دلالاتها اللغوية:

 بمعنى أن هناك مصطلحات عامة الدلالة فخصص القرآن مدلولها، وتخصيص الدلالة يعني أن تقتصر الدلالة العامة على بعض أجزائها فيضيق شمولها، ويصبح مدلول الكلمة مقصورا على أشياء أقل عددا مما كانت عليه في الأصل13، ومن الأمثلة على المصطلحات التي ضاق مدلولها اللغوي ما يلي:

مصطلح (الرسول)، فأصله اللغوي الانبعاث على التؤدة، ومنه الرسول المنبعث، ثم تطور اللفظ ليدل على الرفق تارة، والانبعاث تارة أخرى. و(الرسول) لفظ يصدق على كلام المرسل، وعلى حامل الخبر، وفي النص القرآني دل على الإنسان الذي يختاره الله عز وجل لينشر في الناس الرسالة، ويبلغ الناس دين ربهم، فالقرآن خصص معنى اللفظ (الرسول) وجعله مرتبطا برسول الله الذي يبلغ عن ربه أحكامه ودينه وشرائعه 14. وغيرها من المصطلحات التي ضاق معناها اللغوي في القرآن بعد نزوله، كالشفاعة، والصلاة حيث جعلها القرآن تدل على العبادة المعهودة التي علمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم.

  •  مصطلحات اتسعت دلالاتها اللغوية:

وهذا الصنف هو ما كانت دلالته اللغوية ضيقة ومحدودة في مدلولات معينة، إلا أن النص القرآني أكسبها توسعة لتشمل عديد المعاني والمدلولات أكثر مما كانت عليه، ومن نماذج هذه المصطلحات ما يلي:

مصطلح (الفسق)، العرب تقول إذا خرجت الرطبة عن قشرتها فقد فسقت الرطبة من قشرتها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس، وفي النص القرآني دل مصطلح (الفسق) على العصيان والترك لأمر الله -عز وجل- والخروج عن طريق الحق، وقيل الفسوق الخروج عن الدين، وميل إلى المعصية، مثلما فسق إبليس عن أمر ربه 15. ومثل هذا المصطلح أيضا (الكفر ) و(النفاق).

  • مصطلحات انتقلت دلالاتها اللغوية: 

 وهذا الصنف من المصطلحات يفارق دلالته، حاملا ومتصفا دلالة جديدة أكساها إياه النص القرآني، ومن الأمثلة التي تخص هذا الصنف من المصطلحات ما يلي:

مصطلح (الركوع)، معناه اللغوي هو (شدة الانحناء)، ولكن المعنى الأول قد نسي ولم يعد يستعمل إلا عند اللزوم، ثم انتقل معناه ليصبح دالا على الخضوع والتذلل وهو معنى مجازي متطور عن المعنى اللغوي الأساس وهو الانحناء والانخفاض، ومن هذا المعنى تفرعت معان مجازية كثيرة، فقالوا ركع الرجل إذا افتقر بعد غنى كأنما حني الفقر ظهره بعد أن كان مستويا، ويبدو أن العرب ساروا خطوة ضيقة نحو معناه الاصطلاحي، ولم تنتشر دلالة المصطلح إلا بعد نزول القرآن فصار إذا أطلق فهو لا يعني إلا الركوع في الصلاة، وسميت أجزاء الصلاة بالركعات، لأنه يمثل الحد الفاصل بين كل قيامين أو وقفتين يقفهما الإنسان في صلاته 16. ومثل ذا أيضا من المصطلحات التي انتقلت دلالاتها اللغوية: الجنة والطواف والفرض والغي والمغفرة والمناسك.

  •  مصطلحات قرآنية جديدة

 وهذا النوع من المصطلحات لم تكن مألوفة أو معهودة في البيئة العربية، كما أنها لم تكن أجزاء من كلمات أخرى معروفة في كلام العرب، إذ لم تعرفها العرب حتى ظهور شمس الإسلام، وهذه المصطلحات استحدثها النص القرآني وأعطاها دلالات جديدة وخاصة لم تتطرق لها العرب من قبل، ومن أمثلة هذه المصطلحات:

مصطلح (جاهلية)، فلا يوجد لهذا المصطلح مثيل قبل نزول القرآن الكريم، وهي صيغة أوجدها القرآن الكريم وانتشرت فيما بعد لتكون علما على الفترة التي سبقت نزول القرآن، وهو مستمد من دلالته من الجهل بمعنى السفه والطيش والحمية الزائفة للتعبير عن الحياة التي كان يحياها الإنسان في العصر الجاهلي وليس من قبيل الجهل ضد العلم 17.

وبعد أن أشرفت رحلتنا مع هذا المقال على الانتهاء؛ فقد أسفرت عن مجموعة من الفوائد نوردها فيما يلي: 

  • أن المصطلح هو اللفظ الذي يسمى مفهوما معينا داخل تخصص ما.
  • أن المصطلح القرآني هو كل لفظ أكساه القرآن مفهوماً خاصاً لم يكن متداولا في لسان العرب قبل نزول القرآن الكريم.
  • أن مشروعية الدراسة المصطلحية لمفردات القرآن نابعة من الخطاب القرآن نفسه.
  • أن أنواع المصطلح القرآني تنقسم إلى ثلاثة أقسام، مصطلحات وافقت اللغة العربية، ومصطلحات خضعت للتغيير الدلالي؛ إما بتضيِّيق، أو اتساع، أو انتقال، ومصطلحات انتقلت دلالتها اللغوية.
  • تتلخص أهمية المصطلح القرآني في كونه طريقا آمنا وموصلا للعلم المطلوب، ومعرفة المراد.