لا بد أن المتبصّر في أخبار الأمم والناظر في سنن التاريخ، يعي تماما أن جميع الحضارات الإنسانية، مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة، من بابل وأثينا وروما وفارس، مرورا بدمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة وإسطنبول، ووصولا إلى لندن ونيويورك وغيرها، خضعت جميعها إلى دورة تاريخية واحدة، تتطابق أطوارها وتجري على جميعها سنن محتومة، لا يطالها التبديل ولا التغيير، كما لو أنها كائن حيّ، له ساعة ميلاد، ومسار نموّ، ولحظة موت وأفول.
إذ أن جميعها ينطلق بفكرة إحيائية، يحملها رجل أو ثلّة من الرجال حتى يصنعوا لها عُصبة تلتفّ حولها، وتحكم استمساكها بها، رَابطةً متينة بين أفرادها، فيجدّون في نقلها إلى مجتمعهم حتى تتشبّع بها أركانه، ثم إذا نضجت في الأفهام حتى تبنّتها، وبلغ الاقتناع بها حدّ الايمان، كان لزاما عبور تلك الفكرة الحضارية نحو الدولة، التي من شأنها أن تترجمها بأدواتها التنفيذية إلى نهضة شاملة، تنسكب على كل جوانب الحياة الإنسانية، فيعمّ التطوّر والإبداع على منتوجاتها، إلى أن تبلغ من الدرجات التنافسية، ما يرشّحها إلى مواصلة الانتشار في جوارها الإقليمي، ثم على الصعيد الدولي، فتصبح حضارة عالمية.
وأما إذا ترهّلت منتوجاتها، شرعت الدولة في الانكفاء حتى إذا نضب زادها الحضاري انهارت، لتسقط معها فكرتها المؤسِّسَةُ عائدة نحو المجتمع، فتضعه بذلك أمام مفترق وجودي للطرق، فإما أن يعضّ عليها بالنواجذ، فيكتنزها في صدره ويحافظ عليها بين أحشائه، في انتظارانبعاثة جديدة نحو ساحات المُكنة والتغيير، وأما أن تهاون في الصدّ عنها، فتسربت من بين أصابعه وأضاع آثرها، فيكون بذلك قد وضع ساقه على طريق الاندثار، من خلال الإلحاق بالمتغلّب من الحضارات، على شاكلة ما حصل في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وجمع غير قليل من الأمم الآسيوية.
وفي سياق محاولات التأصيل لهذه الفرضية الثانية كمستقرٍّ حتمي ونهائي إثر سقوط حائط برلين، اندرجت نظرية النهايات، وعلى رأسها نظرية نهاية التاريخ للمفكّر الامريكي من أصول يابانية "فارنشسكو فوكوياما"، التي حاول من خلالها افتراش أرضية فكرية، للخطيّة الأحادية لاتجاه التقدّم التاريخي، تزعم أبدية انتصار المحور الأمريكي الأطلسي، أو بالأحرى المحور الأنجلوساكسوني، بما يسوّغ له قمع أي بوادر لتشكل بدائل حضارية أخرى.
وضمن الردود على هذه الأطروحة اندرج كتاب "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، الذي أسس فيه البروفيسور أحمد داوود أوغلو لنظرية "التحول الحضاري" معتبرا أن للتاريخ طبيعة دائرية، تجعل الغلبة الحضارية دولةً بين الأمم، بل إن انهيار الاتحاد السوفياتي كان مؤشّرا قويا على معايشة النظام العالمي لانعطافة كبرى، تؤذن بمحاور حضارية أخرى في طور التشكّل والتنازع فيما بينها للصعود إلى منصة الهيمنة والتتويج، بما في ذلك المحور الحضاري الإسلامي، الذي يحمل مقوّمات النهوض واستعادة الألق، بشرط فهم مكامن الأعطاب فيه والتنقيب عن جذور ما عسعس عليه من أزمة شاملة، التي لا شك أن للجانب الفكري منها نصيب.
فكيف تسربت الأسقام إلى المنظومة الفكرية الإسلامية؟ وما هي المتغيرات التي تقاذفتها على مدى قرنين من الزمن؟ وماذا تركت من انعكاسات؟ وماهي آفاق التجاوز والتجديد؟
1) في مرحلة انسجام النموذج المعرفي، كيف حافظ علماء الأمة على نقاء الأصل؟
وبما أن الفكرة الإحيائية، التي نهضت بها الحضارة الإسلامية وازدهرت، كانت رسالة سماوية قرآنية، فقد كان من الطبيعي أن يحمل العلماء ورثة الأنبياء أمانتها، فيكونوا الحبل الذي يشدّها الى أصلها عاصِمًا إيّاها من التيه والضياع مهما تشعّبت مسالكها، أو أوغلت في ترحالها من مكان إلى مكان، والجذع الذي يربطها بجذورها فيضمن استدامة يفوعها وصمودها أمام العواصف وتقلّب الأزمان.
لقد مثّل أهل العلم النواة الصلبة للحضارة الاسلامية وقلبها المجدّد النابض، حتى أن مستوى ألقِها أو انحدارها، يمكن قياسه برصد موقعهم في هرم الاجتماع السياسي للأمة.
إذ نجد أن مرحلة الرشد والصعود مثلا، قد شهدت التقاء صميما بينهم وبين رأس السلطة، فكان الخلفاء الراشدون علماء مجتهدين، ثم كان المُلك العضوض الذي اتسم بصيغة توافقية تشاركية، فرغم استبداد الأمراء بالمجال السياسي، إلا أن العلماء أشرفوا في ظل استقلالية مرموقة، على كل من السلط التشريعية والقضائية، إضافة إلى المجتمع المدني، الذي ابتكروا من أجله مؤسسات الأوقاف كمصدر للتمويل الذاتي، يضمن عدم ارتهان مناشطه المختلفة للحكام، وعلى رأسها العمل الثقافي والتعليمي وكل قنوات التنشئة الاجتماعية، بما مكّنها من المحافظة على استمراريتها واستقرار بنيتها التحتية، رغم كل ما كان يطرأ من تقلبات سياسية.
فاضطلع العلماء طيلة هذه الفترة التاريخية، والممتدة من عام الجماعة إلى حدود مطلع القرن التاسع عشر، بدور جنرالات الأمن القومي الفكري للأمة، المؤتمنين على نظامها المعرفي.
فضمنوا من ناحية تواصل ارتباطه بأصوله، من كتاب وسنة ونموذج تأسيسي، إذ كانوا يسهرون على انتقال معانيه من جيل إلى آخر، مفترشين أمامها دلائل الصوابية المنطقية، وبراهين تماسك السند.
وعكفوا من ناحية أخرى على اتساقه بالعصر، فكانوا يرابطون على ثغوره للتصدي لكل محاولات الاختراق الفكري، وتفنيد كل عنصرهجين يسعى إلى التسلل إليه، كما عملوا بشكل متوازٍ على استيعاب كل ما يتلاءم مع الخطوط العريضة للمنظومة المعرفية الإسلامية من منتوجات الحضارات الأخرى. بما مكن بأقدار من المحافظة على النقاوة الأصلية، دون التفريط في فرص التجدّد والإثراء التفاعلي، بشكل يستديم الانسجام بين مختلف مكوناتها في ظل استراتيجية للانفتاح الصحي.
ولم يمثّل النموذج المعرفي المنسجم، وما أنتجه من إدراك سليم للذات، المرتكز الرئيسي لوحدة أنسجة المجتمعات الإسلامية فحسب، إنما ساهم كذلك في كبح ما كان يقوم بينها من توترات والتخفيت من إمكانية حدوثها، مما جعل المركز الحضاري للأمة، إذا تهاوى في بلاد انتقل إلى أخرى، وعاود التشكّل فيها مستندا إلى أنظمة سياسية واقتصادية جديدة، تشترك مع سابقاتها في العمق والجذور، إذ أنها لا تعدو أن تكون في سمتها العام، تعبيرة أخرى للمنظومة القيمية ذاتها، ومحورا مستحدثا للنموذج الحضاري نفسه.
إلا أن ما يجري على الأمم الأخرى من سنن، ما كان ليستثني أمة الإسلام، التي أخذ الترهّل يَنسَلُّ اليها كلّما تحوّلت التقاليد والأكداس التراثية إلى حواجز تحجب نصاعة الأصول والمنطلقات، وأخذ رصيدها الحضاري ينضب كلما تمكّن منها التكاسل والتكلّس، فأقعدها عن ركب التعصير وأخّرها، حتى أضحى الفقه الاسلامي غريبا عن واقعه منفصما عن تحدياته، وتحوّل الداخِل إلى حلقاته، الطالب لعلمه، كمن يسيح في أروقة إحدى المتاحف أو المبحر في نوستالجيا الأساطير.
ولا عجب إذا تعمّقت حينئذ الهوّة بين العلماء والشباب، الذين تُرِكوا لبراثن الحيرة دونما مرشد أو دليل، ليتخطّفهم المتغلّب الغربي بأطروحاته المغرية، ويطوّع جَمعا منهم، خنجرًا في خاصرة النموذج الفكري للأمة، ومعولا ينخر في نسيجها القيمي والمعرفي، فما الذي هدف إليه الغزو الجديد من وراء ذلك؟ وكيف انطلق هذا المسار الحديث وإلى أين كان مآله؟
2) التغريب القسري: مراحل ومآلات
أ- صعود النخبة المستنبتة: تونس نموذجاً
مع فجر القرن التاسع عشر، كان الغرب بصدد الانتقال بصراعه مع المسلمين من حقبة المغامرة التوسعية والغزو باسم الدين، التي كانت حروب الاسترداد والحملات الصليبية خاتمة لها، إلى مرحلة التوسع العقلاني والغزو باسم التنوير، التى لم يكن عتادها الرمح والسيف والمنجنيق فقط، إنما أتت الغارة هذه المرة مدجّجة بكاسحة حضارية شاملة، تقودها زبدة من المستشرقين والقناصلة، والتجار والجواسيس وغيرهم، ممن خبر خرائط قوة الأمة الإسلامية ومكامنها، كحضارة كثيرا ما نجحت في ترويض غزاتها، وتطويعهم بعد هضمهم داخل ميكانيزماتها، مثلما كان مع المغول، وتتقن إعادتها لهندسة حيويتها الحضارية بعد كل انكسارعسكري، كما حدث بتتقّل مركزها الحضاري مرات عديدة، على امتداد جغرافيتها الشاسعة من الهند وصولا إلى الأندلس.
ولهذا فقد قدم عليها المحتلون هذه المرة ملثّمين بالمسوغات الأخلاقية، متلبّسين بعباءة المنقذ للشعوب من ظلمات التخلف، ومُخرجِها إلى أنوار التحديث، ليبرروا بهذه الشاكلة، غايتهم في تذويب الهوية الإسلامية باعتبار وقوفها معيقا لذلك، وإطلاق مسار من التغريب القسري، حرص في بداياته على محاصرة الحركة الإصلاحية وإجهاض كل محاولاتها لعصرنة منظومة التعليم الديني، كما حدث مع تجربة العلامة الجليل محمد الطاهر بن عاشور في تطوير جامعة الزيتونة العريقة على سبيل المثال، حيث حوصر خرّيجوها في سوق الشغل بحرمانهم من الالتحاق بالوظيفة العمومية، رغم تحصيلهم إضافة للعلوم الشرعية، لنفس المادة العلمية لتلاميذ المعاهد الإفرنجية، الذين فتحت أمامهم في المقابل أبواب الدولة والإدارة على مصرعيها، من خلال تحويل لغتها الرسمية إلى الفرنسية، ليكون المحتلّ قد جعل من لغته محكّ للفرز وآلة الفلترة، التي تحجب مسالك المصعد الاجتماعي عن كل من لم يخضع لعملية فرمَتَة فكرية غربية، أثناء مروره بمسالك التنشئة الخاصة بهم.
ولعل أدق ما ورد في توصيف هذا المسار، كان ما جاء على لسان الأستاذ عياض بن عاشور، إذ قال: "لقد خرّجت فرنسا جيلا غرّب الحياة، وغرّب الإدارة والثقافة، بينما ظل جامع الزيتونة مشرّقا."
إذ مثّل هذا التمشي، الآلية الرئيسية لما عرف بالتغريب القسري، الذي عمد إلى اقتلاع زرع يافع من فلذات أكباد المجتمع التونسي، ليعيد غرسهم في قمة الهرم الاجتماعي، بعد أن يكون قد أخضعهم للتلقيم والتدجين، حتى يكونوا أداة التحول الحضاري القسري في جبهاته المختلفة، وقناعه الذي تتخفى وراءه الإمبريالية الغربية، أثناء تلاعبها بجينات البنية التحتية الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتونسيين...
ولئن نجحت هذه النخب المستنبتة، بعد مخاض أليم دام طيلة القرن التاسع عشر واستهلكت فيه كل ضروب الدهاء والتعنيف، في اكتساح كل مساحات الفعل النخبوي وإزاحة النخب الأصيلة عن كل مراكز القوة والتأثير، كما وقع مع الدستوري القديم، ومنظمة صوت الطالب الزيتوني أو جمعية الشبان المسلمين وغيرهم.
ب- مساعي الانتليجنسيا الاحتكارية
إلا أنهم ومع بداية القرن العشرين، وجدوا أنفسهم أمام تحديات جديدة سواء في تونس أو غيرها من البلاد الإسلامية التي كادت مساراتها في سمتها العام تتماثل.
إذ شهدت جميعها محاولة نخبها المستنبتة للقفز على التاريخ الإسلامي برمته، من خلال التنقيب فيما سبقه من حقب غابرة، بحثا عن مرابط أمجاد قومية، حتى تربطها بشكل مباشر بحاضر شعوبها، من خلال نسج سرديات وطنية مصطنعة، تتعمد تهميش العصور الإسلامية، ساعية من خلال ذلك، لمحو الحنين الجمعي للضمير المسلم، الحالم باستعادة الوعاء المؤسساتي الجامع للأمة. وفي هذا السياق تنزلت مساع متشابهة في جل الأقطار المسلمة، بمحاولة إحياء تراث بابل في العراق، والفراعنة في مصر، أو قرطاج في تونس، أو مزاعم اشتراك الإثنيات التركية والهندو-أوروبية في أصل مشترك.
كما أن هذه الانتليجنسيا المتغربة طمحت إلى هندسة مشروعية شعبية، من خلال تحقيقها لمنجزات داخلية تارة، تتمحور حول ملامسة المواطنين في يومياتهم ومقتضياتهم المعيشية عبر السعي لتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، أو عبر التجييش النفسي وتعبئة المشاعر الوطنية طورا، على نهج السياسة الأمريكية في تصدير العجز الداخلي إلى الخارج. ويظهر ذلك جليا في الحضور القوي لديماغوجيا تفخيم مواقع أنظمتهم على الساحة الدولية وإظهارها على غير حقيقتها، مما جرّهم في أحيان كثيرة للانخراط في صراعات غير محسوبة أو متكافئة، لا تحمل في أجندتها من هدف مقدّمٍ على الاستهلاك البروباغندي.
ج- النخب المتغربة في أوطانها
إلا أنه ومنذ منسلخ القرن العشرين، وبدرجة أوضح في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، تواترت وبنسق تصاعدي، إرهاصات فشل المشروع التغريبي، لتبلغ ذروتها مع بزوغ الربيع العربي.
ويمكن ردّ ذلك بالأساس إلى فشل البيروقراطية المستنبتة، في تجسير الهوّة بينها وبين مجتمعاتها، وفي انتكاس كل مساعيها لصناعة مقبولية جماهيرية لها ولسياساتها الإقصائية، حتى انتهت محاولات التغريب المصطنع للشعوب المسلمة، إلى نخب مغتربة بين شعوبها وفي عقر أوطانها.
إذ أنهم قد أخفقوا على جميع الأصعدة في تحقيق أي منجز حقيقي، يمكن أن يشرعن لمواصلة استبدادهم على مدى قرنين من الزمن، لكل مواقع السلطة السياسية، واحتكارهم للوجاهة الاجتماعية والثروة الاقتصادية، فلم ينُبهم في صراعاتهم الخارجية غير الهزائم والاذلال، وأما داخليا فقد تتالت الاضطرابات والأزمات، إذ قصر باعهم عن إرساء نظام يزاوج بين الأمن والحرية والرخاء على الطريقة الغربية.
وإن كان هذا لا ينفي تحقق جملة من النجاحات المادية، إلا أنها كانت معدودة ومحدودة، ولم تملك من البريق ما يخوّل لها تبديد حرارة التاريخ، والوهج الروحاني، الكامن في أعماق المجتمع، فكانوا كلما مضوا قدما في تكوّر مشروعهم وتطوّره المعكوس نحو التأزّم، انزلقوا إلى منحدرات القمع ومحاججات الحديد والنار، فكلما تضاءلت قوة شرعيتهم عند الجماهير، إلا وجنحوا أكثر نحو شرعية القوة في التعامل مع شعوبهم، فزاد ذلك في تسريع، ما بدأ فعلا يطال الأسس التسويغية للحملة التغريبية من تفكك وتحلّل، حتى لم يكد يبقى لها من بناء نظري يسندها، إلا ما نُسِج في المخيال الشعبي، من أساطير حول وحشية آلتها القمعية، وما يحدث من مآس في أقبية أجهزتها السيادية.
وبالإضافة إلى تعثّر مسيرها، وإخفاقاتها في بلوغ الغاية المنشودة في استجلاب النموذج الغربي، وفرض ما يستلزمه تنزيله العمودي، من تحولات قسرية مؤلمة في المجتمع، فلم يزد بعد كل ذلك من عزلة تلك الانتليجنسيا المستحدثة، إلا تواتر أزمات النموذج الرأسمالي الليبرالي، في دفق تصاعدي خلال ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، والتي تفاقمت حدّتها مع انبلاج القرن الحادي والعشرين، بما لم يعد يترك مجال للشك، في احتواء المنظومة المبشّر بها كنهاية لمراحل التقدّم الانساني، في حدّ ذاتها على مساحات من التوتر البنيوي، وكمّ معتبر من التناقضات التي تهدد تماسك بنيانها.
فلما تكشّف ذلك، خفتت الجاذبية الأسطورية للقِبلة المنشودة، فضلا عن ثبوت فشل محاولات بلوغها، زاد النفور من تجشّم تكاليف الترحال إليها، فاضطربت صفوف القافلة، وتعالى اللغط وتضاربت دعوات ركبانها، حتى لم يصبحوا نهارهم إلا وكانت لكل نفر منهم وجهة هو مولّيها، ولعل تلك أبرز سمات مرحلة الفوضى الفكرية.
3) فوضى فكرية بلغت ذروتها مع ثورات الربيع العربي..
لعل الربيع العربي من أوضح مشاهد هذه المرحلة تعبيرا، فقد ارتفعت الأصوات وبحّت الحناجر، وتناقضت الأقوال بين بشير ونذير، إذ أضحى الفضاء العمومي لبلدانه، أشبه بحفل عقيقة الوليد، في موكب عزاء الفقيد، فاختلط التبريك بالنحيب، ولم يعد من معنًى مشترك يجمع بين جزئيات الصورة المتلاطمة، إلا الدلالة على انبلاج تحوّل أو دورة حضارية جديدة للأمة وانقضاء أخرى قديمة.
فرغم ما تعرضت إليه المجتمعات على مدى قرنين من الزمن من ضغوط، إلا أنه لم يُضِع فكرته الإحيائية، ولا هو استسلم لمحاولات طمسها. إذ لم يثنه تهميش المؤسسة الدينية التقليدية، وتحويل العلماء تدريجيا من قادة للمجتمع إلى طبقة من الموظفين الصغار، يُفتون على مقاس الحكم الجبري وتحت طلبه، بل إن الساحة المسجدية، تحولت إلى ورشات مقاومة ثقافية، انبرت تنافس ما تحتكره النخب المستنبتة من مسالك رسمية للتنشئة الاجتماعية، بانبثاق أخرى رديفة، متمثلة في تيارات وحركات سوسيودينية، عمّت كل أرجاء البلاد الإسلامية، وأخذت تنتشر في ساحاتها الطلابية والنقابية والثقافية وغيرها، يقودها جيل جديد من الأكاديميين، أخذ دورهم في التصاعد، حتى نشب الصدام المحتوم بينهم وبين النخب التحديثية على النمط الغربي، ليوصلوا سويّا كتابة فصل جديد، من مسلسل الاستقطاب الحاد، بين ثقافة نخبوية مستنبتة من جهة، وأخرى جماهيرية ذات مرجعية إسلامية في الجهة المقابلة.
ولا بد أن حالة الصراع هذه التي امتدت منذ القرن التاسع عشر، فتباينت فصولها بين تهدئة وتصعيد، بين عنف وحوار، قد تركت في النفوس والأفكار كفعلها في الأجساد، كدمات عميقة وتشوهات سميكة، حتى وصلت الشعوب المسلمة، إلى حالة من انفصام الوعي التاريخي، واضطراب الذاكرة الجمعية، جعلتها تدرك ذاتها وترى محيطها، من خلال "هوية مزيفة"، وهذه حالة مرضية لدى المجتمعات، نظّر لها البروفيسور أوغلو في كتاب العمق الاستراتيجي، كمرادف لنظرية "لاينغ" لانفصام الشخصية لدى الأفراد.
ولعل من أبرز تجليات ذلك على المستوى الداخلي، تحوّل جلّ الرموز والأعياد الوطنية، عن دورها الطبيعي كمثبّتات للمشترك ووحدة النسيج المجتمعي، إلى محطات للصارع وتأجيج التجاذب ونار الفرقة. أما على المستوى الخارجي، فقد ظهر ذلك في القصور عن إرساء منظومة إقليمية مستقرّة، فاتصفت كل محاور التحالف أو الصراع في المنطقة على حد سواء، بالهشاشة، ولم تكد تنتهي أزمة إلا لتبدأ أخرى تتلوها. وهذه المسألة الخليجية وحالة الصراع المستدام فيه، كأوضح التجليات السياسية، لإشكالية الفكر في العالم الإسلامي، فما هي آفاق التجاوز والتغيير؟ وكيف هو السبيل للاستئناف الحضاري للأمة؟
لا شك أن أزمة العالم الإسلامي أزمة شاملة، إلا أن إشكالية الجانب الفكري منها، يمكن إجمالها في ثلاث نقاط رئيسية: تتمثل الأولى، في تشرذم النخب الفكرية وتفشّي التنافي بينها، مع غياب أي قاسم مشترك قادر على لمّ شملها وتجميعها. وأما الثانية، فتكمن في الافتقاد لأي نوع من التنسيق الأفقي بين دائرة صنّاع القرار ودوائر صناعة الفكر والذكاء. ومن ثمة عدم اتساق قادة الفكر بنبض الشعوب المسلمة، وانعدام رؤية فكرية قادرة على توحيد الشارع وتمثيله مجتمعا، وتلك هي النقطة الثالثة.
فإن زدنا على ذلك أن الصيرورة التاريخية، قد وصلت إلى منعطف، لم تعرف الحياة البشرية مثيلا له في الغموض ولا الجموح منذ أن اكتشف الإنسان النار، فإن الإصلاحات المجزأة والمبعثرة، أو الاستغراق في زاوية والتقصير في أخريات، لا يتماشى بحال مع مقتضيات المرحلة.
4) كيف السبيل إلى خروج الأمة من أزمتها الفكرية الخانقة؟
إن الاستئناف الحضاري، يقتضي تجديدا شاملا، يكون للفكر كغيره من الجوانب فيه نصيب، يعيد استنطاق المعاني وتعريف المفاهيم، متمحورا حول الجذور التأسيسية للنموذج الفكري الإسلامي، ومتموقعا في العصر بمنطقه وعقله ومعارفه، موليّا وجهه إلى الأمام، متخفّفا من تكلّسات الماضي، لعله يخرج من بين فرث ودم، لبنا نقيّا خالصا، يستيغه الجميع ويجتمعون حوله.
وأن المجتمعات المسلمة، هي اليوم أحوج ما يكون إلى إنتاج وعاء للإجماع الاخلاقي، تنبني جدرانه على المشتركات الكبرى التي لا يدور أي اختلاف وطني إلا داخلها، ولن يكون ذلك إلا من خلال هيكلة المساحات الوسيطة بين المجتمع والسلطة، بإرساء مؤسسات فكرية مستقلة، متحررة من كل معيق أو مكبّل، فتكون عبارة عن فضاءات هادئة لا تنجرف مع المستجدات ولا تكون ملزمة بمجاراة إيقاعها، إنما تعمل بتؤدة وتأنٍّ على تعميق حوارات جادة مفتوحة أمام كل النخب، حول ما تلتقطه من مشاغل مُتموّجة بين حنايا المجتمع، فيشترط ذلك امتلاكها لأدوات عالية الجودة، للسبر والبحث والإحصاء.
كما أنه لن يكون لكل ذلك معنى، إلا إذا توفرت لهذه المراكز الفكرية، قنواتها السالكة مع صنّاع القرار، في سياق استشاري تشاركي، ينظمه تعاقد مرقوم، يضمن فصل كلا الدائرتين عن بعضهما البعض، على أن يبقى الاعتراف بالشرعية فيما بينهما راسخا ومتبادلا.
وعلى نفس النحو، تنضاف إليهما دائرة ثالثة، تعنى بصناعة الرأي، بنفس مواصفات الاستقلالية العلائقية، متمثلة في منظومة إعلامية ذات حرفية وموضوعية عالية.