بعد نهاية الحرب الباردة سنة 1989 وإعلان الزعامة الأمريكية والتوجه نحو الأحادية القطبية ظهرت مقاربات نظرية في حقل العلاقات الدولية لمواكبة التحول الواقع في النظام الدولي (تحول على مستوى الفواعل المواضيع)، هذا التحول عبرت عنه نظريات توسعية تهتم بدراسة ما سيكون بدلا ما هو كائن في حقل العلاقات الدولية وجاءت بعض الإسهامات النظرية في صيغة النظرية النقدية لما سبق طرحه من قبل النظريات الوضعية (الواقعية والليبرالية بشكل خاص) ودراسة أوجه القصور في هذه النظريات.
رغم ما قدمته النظريات الموسعة في حقل العلاقات الدولية وبالأخص في الدراسات الأمنية إلا أنه يمكن اعتبار جزء كبير منها كنظريات رد الفعل بدل من أن تكون نظريات مستقلة في حد ذاتها، وحجتنا في ذلك أن عدد من منظري ما بعد الوضعية (يقصد بما بعد الوضعية نظريات النقدية الاجتماعية وما بعد الحداثة والنسوية وكذلك البنائية رغم أن هناك من لا يصنفها كذلك وغيرها من النظريات) الذين ينتمون إلى النظريات الوضعية أو يشتركون مع بعض الباحثين في تفسيرهم للواقع الدولي، كما أن أصحاب النظرية الوضعية أعادوا بناء تصوراتهم تماشيا والواقع الدولي الجديد لفترة ما بعد الحرب الباردة والتي تدور في مجملها حول أفكار القوة، النفوذ، النظام الدولي، الأمن والتهديدات، والاختلاف الحاصل يقع في البعد الذي تنظر منه كل نظرية، أما باقي النظريات الأخرى التي ظهرت مؤخرا على غرار النظرية الخضراء وما بعد الاستعمارية وغيرها فلا يزال ينظر إليها بأنها مداخل فكرية وليست بالنظريات القائمة بذاتها أو على الأقل لا يتم طرحها كبعد تحليلي مهم لدى كثير من الباحثين والخبراء في النظام الدولي رغم محاولاتهم توسيع هذا الحقل المعرفي بعيدا عن النظريات المهيمنة في حقل العلاقات الدولية.
يستدعي توسيع حقل العلاقات الدولية ضرورة أخذ الظواهر ودراستها من منطلقات فكرية بعيدة عن الفرضيات الواقعية أو الليبرالية أو البنائية والنقدية وغيرها، فعلى سبيل المثال لو نأخذ حالة الحراك الشعبي الجزائري الذي انطلق يوم 22 فيفري/ فبراير سنة 2019،  ونقوم بدراسته كظاهرة سياسية ونبدأ بتحليل تعامل النظام السابق للرئيس عبد العزيز بوتفليقة وقتها سنقوم بتحليل عوامل وأهداف الحراك الشعبي وفقا لمنطلقات العلاقات الدولية وهنا تظهر اسهامات صامويل هنتنجتون Samuel Huntington في كتابه الموجة الثالثة التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين الصادر سنة 1991، ومن خلال أفكار المدخل الحديث وإسهامات بعض المفكرين على غرار سيمور مارتن ليبست Lipset. S. M وغيرهم، وكل هؤلاء الباحثين ينتمون إلى حقل العلوم السياسية أو أحد فروعه، لكن وبالعودة إلى مثال الحراك الشعبي الجزائري الذي يحمل عنصر الفجائية " مقارنة بتاريخ الدولة وما عايشه الشعب الجزائري خلال فترة العشرية السوداء" يمكننا تحليل الحراك الشعبي الجزائري من خلال نقطة التحول الذي ساقت وراءها كل هذه التغيرات!
نقطة التحول التي ساقت التغيرات السياسية والعسكرية والأمنية والمجتمعية في الجزائر لا ترتبط بتفسيرات التحول الديمقراطي الذي ذكر في النقطة السابقة وفقط، والاكتفاء بتصورات مثلا صامويل هنتنجتون وإن كانت تدخل في السياق العام للفكرة، لكن نقطة التحول في مصير وتاريخ الشعب الجزائري ولنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يمكن دراستها كذلك بالرجوع إلى بعض أفكار كتاب نقطة تحول  The Tipping Point  للكاتب مالكوم غلادويل Malcolm Gladwell.


كتاب مالكوم غلادويل ليس بالكتاب السياسي ولا ينتمي صاحبه إلى مجال السياسية، والباحث عن الكتاب عبر الأنترنت يجده مصنفا في مجموعة كتب تنمية الذات، كتب علم الاجتماع، كتب إدارة الأعمال والتسيير وغيرها التي تذهب في مجملها إلى مجال التنمية البشرية، لكن الكاتب من خلال أسلوبه القصصي الممزوج  بالأحداث التاريخية واللحظات التي تصنع الفارق في حياة البشر والسلع وحتى الدول (قصة البريطانيين وانهزامهم أمام الأمريكيين في أبريل سنة 1775)، الكتاب يقوم بإثارة العقل والتفكير بأن نقطة التحول التي يعرضها الكاتب قد تفسر وبشكل جيد الحراك الشعبي الجزائري وحتى باقي الثورات العربية.


يعرف الكاتب نقطة التحول بأنها الفترة القصيرة زمنيا والتي يحدث فيها تغيير كبير، او كما يعبر عنها في قالب استفهامي: كيف يمكن للأشياء الصغيرة أن تحدث تغييرا كبيرا، يذهب الكاتب للتأكيد على فكرة رئيسية وهي أهمية الأوبئة وكيفية انتشارها من خلال تشبيه انتشار أي حدث صغير داخل الدولة ليصبح كبيرا فجأة بنظام الأوبئة وأوجه الشبه بينهما:  كلاهما يظهران فجأة، ينتشران بسرعة، ويصعب التحكم فيهما، وترتكز فكرة الأوبئة لدى ماكلوم  غلادويل حول القواعد الثلاث لنقطة التحول:  قانون الأقلية، وعامل الالتصاق، وقوة السياق، توفّر طريقة لفهم  الأوبئة.
ينص قانون الأقلية حسب غلادويل أن فئة قليلة في المجتمع تتميز بقدرتها على نقل العدوى بين فئات المجتمع بشكل أفضل عن باقي الفئات المجتمعية (وهنا تدخل فكرة القيادة كذلك) من خلال امتلاكهم لمميزات منها قدرة الإقناع، القدرة على إيصال الرسالة لدى الفئات الأخرى (الموصلون كما يصفهم غلادويل)، بالإضافة لامتلاكهم المعلومات، في الظاهرة السياسية الجزائرية المعبر عنها في الفقرات السابقة بالحراك الشعبي يظهر قانون الأقلية بشكل جيد، فئة قليلة بدأت تتداول إمكانية الخروج للمظاهرات، فئة لم تبالي بحالة الطوارئ المفروضة في العاصمة الجزائرية، واستمرت في استخدام منصات التواصل الاجتماعي لجمع الدعم اللازم والخروج بشكل أكبر يوم الجمعة 22 فبراير 2019 لرفض ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لعهدة جديدة.
ثم يقول غلادويل أن هناك تغيرات بسيطة نسبيا في تقديم المعلومات وهيكلتها، بحيث تستطلع إحداث فرق كبير في مدى تأثيرها هذا هو قانون الالتصاق حسبه، الفئة القليلة التي بدأت في الدعوة لخروج الشعب الجزائري يوم الجمعة لجأت لمواقع التواصل الاجتماعي لبناء فئة داعمة لها، والقراءة الأولية لاهتمام هذه الأقلية بهذه الوسائط لأنها تجمع عدد كبير من الشباب الجزائري الرافض للوضع السائد وتطالب دائما بضرورة الإصلاح والتغير، من جهة أخرى كان التركيز على الشباب من دون باقي فئات المجتمع الأخرى لأن فئة كبار السن ينظرون لمطالب التغيير كسيناريو "الخراب" والتصاق فكرة التغيير بالهدم وعودة الجزائر لحالة العشرية السوداء، ومن هنا بدأت المطالب الأولى في الحراك الشعبي بضرورة تراجع الرئيس السابق عن ترشحه لعهدة جديدة، لتتدرج مطالب الحراك من جمعة إلى أخرى. ويقول غلادويل في كتابه حول فكرة الالتصاق: "هناك طرقًا محددة لجعل الرسالة المعدية تدخل الذاكرة " من خلال بعض العبارات الراسخة والملتصقة بالحدث، والأكيد أن من بين هذه الرسائل في الحراك الشعبي الجزائري عبارة "يرحلوا قاع" بمعنى ليغادروا جميعا أي النظام الحاكم.
مطالبة الشعب الجزائري بضرورة تنحي النظام الحاكم وصولا إلى محاسبة كل مسؤوليه عززتها جملة من الظروف المساعدة، تأتي في مقدمتها ظروف البيئة الخارجية التي تشهدها المنطقة العربية وما يعرف بالثورات العربية التي انطلقت في الدولة الجارة تونس لتعم بعض الدول الأخرى، بالإضافة إلى أوضاع البيئة الداخلية التي يعبر عنها الوضع الاقتصادي الهش للبلاد ومؤشرات الفساد التي عمت مختلف القطاعات والهياكل والمؤسسات، ليكون ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وفي وضع صحي لا يسمح له بتولي مسؤولية قيادة الدولة أهم العوامل التي ساعدت في انتشار رسالة الحراك الشعبي وذلك ما ينص عليه قانون قوة السياق لغلادويل والقاضي بأن الظروف والأحوال المحيطة بالعدوى تلعب دورًا مهمًا في انتشارها.

ما يمكن التأكيد عليه أن دراسة التجربة الجزائرية متشعبة المداخل والمقاربات التفسيرية لتحليل هذه التجربة الفريدة من نوعها في ظل موجة التحول الديمقراطي التي يشهدها الوطن العربي، وما يمكن التأكيد عليه كذلك في دراسة حالة الحراك الشعبي الجزائري وفقا لقانون التحول لغلادويل: أن التأثيرات الصغيرة تؤدي إلى تأثيرات كبيرة.


ما هي الدروس المستفادة؟


ينبغي التأكيد على أن دراسة فرضية إمكانية توسيع حقل العلاقات الدولية لتفسير الظواهر السياسية، لا يعد انتقاصا لمختلف المساهمات النظرية السابقة في هذا الحقل، بقدر ما هي محاولة "إصلاحية" تنموية لما قد تضيفه بعد المداخل التفسيرية وفي مقدمتها قوانين القيادة والتسيير على الظاهرة السياسية.
من جهة أخرى عادة ما يرتبط حقل العلوم السياسية وبالأخص تخصص العلاقات الدولية بمفاهيم "الصراع، محور الشر، الدول الفاشلة، الحروب، النزاعات، التهديدات وغيرها من المفاهيم الصلبة التي تستدعي بناء استراتيجيات هجومية ودفاعية والتي تدور في مجملها في صيغة الخداع «Manipulation»، في حين تُغيب في كثير من الأحيان مفاهيم " التعاون، التطور، الاعتماد المتبادل، الديمقراطية، الحوار، الشراكة وغيرها التي تجتمع في شخصية القائد الناجح إن اكتسبها، كما وتعد الأصل في العلاقات الدولية (التعاون الحالة الطبيعية، الصراع الاستثناء، السلم الحالة الطبيعية، الحرب الاستثناء)  زذلك ما سينعكس على التنظير في حقل العلاقات الدولية وليتحول وفقا لفرضية العون الجماعي بدلًا من مفهوم العون الذاتي.
وهنا نعود في آخر الدراسة لنطرح سؤال توجيهي مفاده:  لماذا يتجه قادة الدول وبعض الشخصيات والفواعل في المجتمع الدولي للوضع الاستثنائي بدلا من الوضع العادي؟ على اعتبار أننا نحتاج لقيادين أكثر من السياسيين في نظام دولي يتصف بالفوضوية.