لم تكن النهضة فرصة يتم استغلالها في وقت ما، ولكنها خطة مدروسة تنفذ فعليا على أرض الواقع، أو يتم البناء على ما سبق من خطط، ومشاريع لتطويرها، وترجمتها بشكل ملموس أكثر من الوعود الخطابية، والنظريات المؤقتة التي لا تخدم المجتمعات ولا تساعد على تنميتها، ورغم الاختلاف العرقي والتعدد إلا أن للقيادة الرشيدة دور كبير في سير خطة النهضة على أكمل وجه، والتوجه الإسلامي يعد عاملاً من عوامل النهضة في الدولة، خصوصا في المجال الاقتصادي.

الانطلاق من الماضي لبناء المستقبل.. مبدأ القيادة الرشيدة في ماليزيا

بخلاف مجتمعاتنا العربية وخصوصا النامية، التي فيها الهدم لما سبق، وإعادة البناء مجدداً -ولهذا يستمر التخلف ويتغلغل في المجتمعات، ويصبح ثقافة سائدة- نجد أن خطط التنمية التي نفذها وأدارها رائد النهضة الماليزية الحديثة مهاتير محمد لم تكن إلا امتدادا لمن سبقه، وخصوصا بعد الاستقلال سنة 1957 مثل تون رزاق، وتُونكو عبدالرحمن حيث ساهما بشكل فعال في الإصلاحات الاقتصادية والقانونية، والمشاريع التنموية.

إن استكمال المشاريع التي تم التخطيط لها مسبقا من قادة سابقين، والبناء عليها وتطويرها أو التجديد فيها يعد خطة اقتصادية ملهمة تساعد في الحفاظ على الموارد العامة، والتقليل من الفساد، ولما لا الحد منه بالكامل حتى لا تضيع أموال الدولة دون استدامة للمشاريع، أو تنمية للموارد. كما أن مواصلة تطبيق الرؤية الشاملة للتنمية تساعد على توحيد الجهود وتوجيهها نحو مشاريع نهضوية تحقق التنمية، وتقلل من نسبة الصراع بين الحكومات المتعاقبة، أو السياسة المعارضة، إذ أن الشعور والمسؤولية الاجتماعية والمشاركة في البناء عامل مهم في الوعي النهضوي، الرامي إلى السلام الداخلي في المجتمعات ووحدة الصف والمضي قدماً نحو تنفيذ خطط التنمية، التي تعود بالربح على الفرد أولا ثم المجتمع وجيل المستقبل ثانيا.

من بين ما تم العمل عليه قصد تحقيق أهداف النهضة الماليزية:

  • العمل على تكوين التحالف بين القوى السياسية في ماليزيا.
  • توفير فرص العمل للباحثين عنها والتوجه نحو التصنيع.
  • تخصيص الأراضي الزراعية للباحثين عن عمل لاستيعاب العمالة المتكدسة.
  • تصنيعالشرائح الإلكترونيةلما تتميز به من استخدام أيدي عاملة كبيرة (وعلى هذا الأساس تم إعطاء إعفاءات كاملة من الضرائب لهذه الصناعات، التي عمل بها الآلاف، وتم اكتساب المهارات من خلال تلك الصناعات كالمايكروإلكترونيك أو المايكروتشيبس). 
  • تقديم إعفاءات ضريبية تصل حتى عشر سنوات.
  • تزويد المناطق المختلفة بالبنية التحتية.
  • السماح بالاقتراض للمستثمرين الأجانب من البنوك المحلية. 
ما هي ركائز السياسة الاقتصادية للنهضة الماليزية؟

حققت الاستراتيجية الصناعية التي تم وضعها نتائج مقبولة في بدايتها، وحتى هذه اللحظة، حيث نلحظ غياب باحثين عن عمل، وجذب للعمالة الماهرة من الخارج، وارتفع متوسط دخل الفرد في المجتمع الماليزي من 350 دولار سنويا إلى 3000 دولار سنويا.

تعتبر التجربة الماليزية ملهمة للبلدان النامية التي لديها ثروات طبيعية وموارد مادية وطاقات بشرية، فمَشروع الخصخصة في ماليزيا كان مثمرا فقد قدمت الدولة القروض المُيسرة للقطاع الخاص، مع الاهتمام في ذات الوقت بتقديم أجود الخدمات إلى المواطن، لتحفيزه على بذل الجهود لتطوير أنفسهم أولا وتنمية دولتهم ومستقبلهم ثانيا، ومن عوامل النهضة الماليزية نذكر:

تحديد المهمة الأولى للنظام المالي في رفع قيمة العوائد الحكومية لتغطية الإنفاق الحكومي. وارتفعت هذه العوائد بشكل أساسي عن طريق نظام الاقتطاعات الضريبية الذي وضِعَ، بحيث يفرق بشكل مقنن ومدروس بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وأدى التطور الاقتصادي السريع الذي أعقب تطبيق هذا النظام إلى طلب كبير على العمالة لسدّ الحاجة المتزايدة للقطاعات الصناعية والخدماتية، وأدى النقص المسجل في الأيدي العاملة إلى ارتفاع محسوس في الأجور، 

ويعود جزء كبير من النجاح في حدوث هذا التطور إلى "الهيئة الاستشارية الوطنية" التي تتألف من ممثلين عن أهم المجموعات العرقية، وتم تكليفها بوضع سياسة اقتصادية جديدة وإعادة بناء الاقتصاد، بحيث يتم التوصل إلى تحقيق توزيع أكثر إنصافاً وعادلاً للثروات والعوائد الوطنية على المجموعات العرقية التي تستوطن ماليزيا. وسعت الدولة إلى تنفيذ تحسين أوضاع الفقراء وذوي الدخل المحدود، واشترطت أن لا يتم ذلك على حساب الطبقات الوسطى أو الثرية بل بشكل ملائم ومناسب مع جميع الطبقات في المجتمع.

ونبه مهاتير محمد من خطورة اتباع شروط ونصائح صندوق النقد الدولي، حيث قررت ماليزيا التعامل مع مشاكلها ذاتياً دون الخضوع لضغوطات الصندوق. 

بناء على ذلك، أصبح هناك هدفان رئيسيان للسياسة الاقتصادية الجديدة التي تم إطلاقها منذ عام 1971، والتي وضعت من أجل تطوير الاقتصاد خلال السنوات العشرين التالية وهما:

  • اجتثاث الفقر من كل فئات الشعب بغض النظر عن العرق أو المعتقد وفتح فرص للعمل. 
  • إسقاط قيمة الانتماء العرقي عن الوظيفة الاقتصادية في كل قطاعات العمل والإنتاج والإدارة والتنظيم والخدمات، والمساواة الشاملة للجميع وتوحيد الرؤية والأهداف العامة.

أدت هذه الإجراءات الاقتصادية الجديدة إلى تحفيز وجذب أصحاب الاستثمارات المحلية والدولية. كما تحولت البنوك إلى مؤسسات تدعم المشاريع الاستثمارية والعمرانية، وتشجع أصحاب الأفكار الصناعية التطورية على اقتحام ميادين العمل والإنتاج.  

 

تعكس التجربة الماليزية أهمية الرؤية المستقبلية لتحقيق أكبر قدر من النجاحات، عبر ما يعرف برؤية العام 2020، وهو نفس المنحى الذي يتبعه رجال الأعمال في ماليزيا، حيث يحرصون على وضع خطط طويلة الأمد، خاصة بعد تعرضهم للأزمة الاقتصادية في العام 1998، مع وضع خطط قصيرة المدى تساهم في التحقيق المرحلي للأهداف التنموية طويلة الأمد.

من بين الأسباب السياسية والاقتصادية التي ساعدت على نجاح التجربة التنموية في ماليزيا نجد:

  • مناخ سياسي يتميز بتهيئة الظروف الملائمة للإسراع بالتنمية الاقتصادية.
  • اتخاذ القرارات دائما من خلال المفاوضات المستمرة بين الأحزاب السياسية القائمة على أسس عرقية، ماجعل سياسة ماليزيا توصف بأنها تتميز بديمقراطية توافقية في جميع الأحوال.
  • رفض الحكومة الماليزية تخفيض النفقات المخصصة لمشروعات البنية الأساسية، والتي هي سبيل الاقتصاد إلى نمو مستقر في السنوات المقبلة لذا قفز ترتيب ماليزيا لتصبح من الدول الاقتصادية الخمسة الأولى في العالم في مجال قوة الاقتصاد المحلي.

إن الإجراءات الحكومية المساندة للتنمية البشرية والاقتصادية ساهمت في تعزيز الابتكار والإبداع وحماية ودعم مشاريع الأعمال والإنتاج والتسويق والبحوث العلمية، واعتماد سياسات الانفتاح على الاستثمارات الخارجية. كما اهتمت ماليزيا بتطوير الأنظمة التعليمية في كافة المراحل وإنشاء مؤسسات تدريب وتأهيل مهني مستمر، وتخريج قوة عاملة شابة ومثقفة وذات كفاءة.

وكما هو الحال في تجارب النهضة، انصب الاهتمام أيضا على تطوير البنية التحتية للدولة بإنشاء شبكات طرق سريعة، وشبكات قطارات ومطارات عالية التطور، وتوفير شبكات معلومات واتصالات متقدمة جدا، وخدمات معلوماتية عالية الجودة مع تطوير المراكز الصناعية والمجمعات التكنولوجية ومراكز الابتكار والإبداع، وإنشاء معاهد بحثية ومدن ومراكز بحوث علمية افتراضية.

التنوع الذي يصنع الوحدة.. هكذا نجح المجتمع الماليزي في التحدي

النظام الاجتماعي الذي استطاع الماليزيون تطويره، هو أحد عناصر نجاح التجربة، ومن أهم ضمانات استمرارها، إذ أن الوعي الذي اكتسبوه في اجتماعهم ووحدة أهدافهم ورؤاهم جعلهم ينطلقون في طريق النهضة، وإن الاعتراف بالتنوع العرقي والديني والإقرار بوجود اختلالات حقيقية في مستويات الدخل والتعليم بين فئات المجتمع، والتوافق على ضرورة معالجة المشاكل بشكل واقعي وتدريجي، كان مسببا لتوفير شبكة أمان واستقرار اجتماعي وسياسي.

أما بالنسبة لدور الإسلام في نهضة ماليزيا منذ تأسيسها، فيقول أنور إبراهيم نائب رئيس وزراء ماليزيا السابق

"إن ماليزيا نجحت لأنها أكثر قربا إلى المفهوم الحقيقي للإسلام الذي يقوم على المرونة والاعتدال والوسطية وتركيزها على بناء نظام سياسي يتفق مع الإسلام و يقوم على التنمية والديمقراطية والشورى".

ويقول عبدالعزيز التويجري الأمين العام السابق للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

"أن نجاح المسلمين في تلك المنطقة من العالم الإسلامي في التأقلم مع واقع التعدد والتنوع هو أمر يعود إلى الاختلافات الواضحة في طبيعة المؤثرات الثقافية التي خلفتها الحقبة الاستعمارية من جهة، كما يعود من جهة ثانية إلى بعض العناصر التي تتشكل منها الطبيعة النفسية لشعوب تلك المنطقة".

ومما تميزت به التجربة الماليزية هو اعتماد قوانين لحماية الملكية الفكرية وتطوير نظام الإدارة والعدل والقضاء وسن تشريعات قانونية لحماية حقوق الإنسان، وتحديد الواجبات والمسؤوليات والمساءلة والمحاسبة فيما يخص علاقة المواطن بالمجتمع والدولة، وتنظيم المجتمع المدني حتى أنها أصبحت رائدة في مجال الإدارة الرشيدة.

وهكذا استطاعت ماليزيا أن تسطر تاريخا مشرقا من الإنجازات وحُق لها أن يحتذى بنجاحها وأن تدرس قصة نهضتها في كل المجتمعات المتخلفة، والمُتناحرة داخليا والمرْتهنة إلى فتات دول المصالح، ولابد أن تكون ماليزيا تجربة ملهمة بحق وأن يكون نظام نهضتها ومراحله وعوامله حافزا لكل الدول النامية للاقتداء بها وبدء السير في طريق النهضة.