التعاقد أو العقد هو اتفاق بين طرفين حول مجموعة من الحقوق والواجبات من أجل تحقيق هدف مشترك، وقد ميز جان جاك روسو (1712-1778) في كتابه (العقد الاجتماعي) بين عقد يكون على حق، وآخر يكون على باطل، وقد عبر عن رفضه لهذا العقد الباطل بالقول: "إذا ما خاطب إنسان إنسانا، أو خاطب إنسان شعبا قائلا: وإني أقيم معك اتفاقية عليك وزرها، ولي أنا كل نفعها لظل هذا القول منافيا للصواب". وبالتالي "كان حق الاستعباد باطلا، ليس لأنه غير مشروع فحسب وإنما أيضا لأنه غير معقول ولا يعني شيئا".

إن العصر الحالي هو عصر العبودية الحديثة التي تفاقمت مع فرض سياسات التصحيح الهيكلي من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على اقتصادات الدول المتخلفة؛ إنه العصر الذي فقد فيه الإنسان حصانته الإنسانية وتحول إلى أداة للاستغلال، ومن مظاهر هذه العبودية إلزام الموظف بتوقيع عقد ينص على كثير الواجبات وقليل الحقوق؛ وكأن هذا الموظف يجب عليه أن يقبل أي شيء.

لقد أصبح شعار "ليس هناك قوة عمل لا يستغنى عنها، أو مهارة فنية لا يستغنى عنها" هو الذي يتألق أكثر فأكثر، حيث يتطلب تعظيم أرباح الأسهم تبني سياسة قتل الكلفة الذي يطبقه اقتصاد السوق، ومن أجل ذلك تدفع وكالات العولمة والضغط (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، اتفاقات التجارة الدولية، وكالات التنمية الدولية) إلى إنهاء الضمانات الوظيفية، وتحرير الأسواق بالقضاء على دولة الرعاية.

المغرب كان من الدول التي طبقت نظام التوظيف بالعقدة في قطاع التربية والتعليم، حيث اشترطت الحكومة المغربية، منذ نهاية عام 2016 توقيع التزام وعقد (مرتبط بزمن أو أجل محدد) قبل وبعد اجتياز مباراة التعليم، وقد اعتبرت الحكومة هذا الشرط خيارا استراتيجيا، وبأنه خطوة نحو الجهوية المتقدمة. 

قوبل هذا القرار بالرفض من طرف فئات كثيرة  ودعت إلى مقاطعته، لكن دعوات المقاطعة لم تنجح ربما لسببين، هما:

1- نسبة البطالة المرتفعة في صفوف الشباب الحامل للشهادات وحاجتهم للعمل.

2- الوهم وحسن النية: فقد ظن كثير الناس أن الهدف من عقد العمل هو هدف إنساني، الغاية منه ضبط غير المنضبط ودفعه للعمل بجد، وذلك من أجل مصلحة التلميذ، لكن اتضح فيما بعد و من خلال الممارسة أن الهدف الحقيقي من العقد هو حصار كل الأساتذة بين نارين أو  بين الاستعباد والاستبعاد. 

هذا الواقع والحصار دفع الأساتذة إلى التكتل في جسد واحد سمي التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، والذي غير أو عدل بعض الشيء من ميزان القوة؛ فقد أجبر الحكومة أو السلطة على إضافة بعض الحقوق إلى الواجبات والقيود الكثيرة المتضمنة في العقد. لكن هذه التعديلات التي جاءت متأخرة، اعتبرت غير كافية، فكل ما سبق من ممارسات تسلطية بيّن أنّ شروط أو ظروف التعاقد غير متوفرة في الدول الضعيفة؛ لأنها دول لا تحمي الضعيف بل تستقوي بضعفه، وتخرق القانون باسم القانون، كما أنها تواجه جزء من مكوناتها بقانون القوة وليس بقوة القانون؛ حيث يمكن أن يتابع الأستاذ قانونيا بتهمة التعبير عن الرأي، بينما الجهة المسؤولة عن قمع أو قتل الأساتذة بعيدة  كل البعد عن المحاسبة والمتابعة.

إن المشكلة ليست في العقد ومضامينه، بل في الجهة التي صاغت العقد وتحرص على تطبيقه، فقد تبين أن هذه الجهة لا تملك ضميرا ولا تعرف ما معنى إنسان أو إنسانية، لذلك  فقبل التفكير في إرساء نظام تعاقدي في قطاع ما من القطاعات، يجب أولا توفير أو توفر مجموعة من الشروط والظروف، لعل أهمها: 

1- الاعتراف بالإنسان وتغير طريقة تفكير الجهات المتسلطة ونظرتها إلى الإنسان والأستاذ، فتقارير التنمية البشرية تؤكد على أن الثروة الحقيقية للأمة تكمن في ناسها، وتحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وتوسيع خياراتهم لابد أن يكون محور التنمية في البلدان الضعيفة؛ إن رأس المال البشري والاجتماعي يسهم بما لا يقل عن 64% من أداء النمو، بينما يسهم رأس المال المادي والبنى التحتية بمقدار 16%، وتسهم الموارد الطبيعية بما مقدار 20%.

2- محاربة الأمية والفساد: فالتقارير الدولية، لا تزال تنظر إلى المغرب وباقي دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط على أنها شديدة الفساد، حيث تشهد تراجعا في مؤشر محاربة الفساد.

3- إصلاح الإدارة و إرساء نظام ديمقراطي حقيقي: لأن النظام المغربي رغم تقدمه في مؤشر الديمقراطية، لا يزال يعتبر نظاما هجينا، مما يعني أنه يعتمد إجراء انتخابات كأحد مظاهر الديمقراطية، لكن مع استمرار ممارسة سلطوية.

4- التوزيع العادل للثروة وإرساء جهوية متقدمة: والجهوية لا تعني التوظيف بالعقدة؛ لأن التوظيف الجهوي يمكن أن يكون بعقد أو دون عقد، لذلك فاختزال السلطة مشروع الجهوية المتقدمة في التوظيف بالعقدة  يطرح أكثر من عملية استفهام.

إن غياب كل ما سبق -من شروط و ظروف- أدى إلى زيادة منسوب انعدام الثقة في مبررات السلطة ونواياها، كما ساهم في تقوية الرأي أو الموقف الذي يقول بأن الهدف من التعاقد في قطاع التعليم هو محاولة الحكومة أو النظام للهروب من مسؤولية توفير فرص الشغل للمواطن، وذلك من خلال رمي مهمة التوظيف إلى جهات جهوية أو خاصة؛ فالأستاذ أصبح الآن تابعا لمؤسسة جهوية (الأكاديمية) وليس لمؤسسة مركزية (الوزارة)، وهي خطوة لها ما بعدها.

لكن يبقى السؤال هو: ماذا حقق نظام التعاقد بعد مرور خمس سنوات من التطبيق؟ هل ساهم في تجويد التعليم والمؤسسات التعليمية؟

يبدو من كل ما سبق أن السلطة تتحرك بشكل فوضوي وغامض، وهذا قد يعني أن توفير التعليم وتطويره لا يقوم على مشروع فعلي أو استراتيجية حقيقية وواضحة، بل هو ربما تنازلات السلطة لمنع تفاقم الوضع، فالسلطة ترى أن التوظيف بالتعاقد وفر مناصب شغل كثيرة للعاطلين على العمل، كما أنه ساهم في تخفيض نسبة اكتظاظ التلاميذ في الفصول الدراسية.

لكن في مقابل ذلك اعتبر المجلس الأعلى للتربية والتكوين بأن التوظيف بالعقدة هو توظيف يضرب في العمق عنصر الجودة بالتعليم العمومي، ودعا إلى التراجع عنه.

وقد عبر أولياء التلاميذ على نفس الموقف، إذ اعتبرت الفيدرالية الوطنية المغربية لجمعية أباء وأولياء التلاميذ، بأن التوظيف بالعقدة ساهم في الإضرار بالمدرسة العمومية، والعصف بكل مجهودات إصلاحها وكذلك تحسين مؤشرات جودتها، كما أن التوظيف بالعقدة زاد من تعميق اختلال تكافؤ الفرص بين المؤسسة العمومية والمؤسسات الخاصة من جهة، والمدارس في القرى ونظيرها في الوسط الحضري.

بعض النقابات من جهتها اعتبرت قرار التوظيف بالعقدة هجوما جديدا و خطيرا على مكاسب القطاع العمومي بهدف تفكيكه وتصفيته وخوصصته، بتوجيه من المراكز المالية العالمية.

إن كل ما سبق يؤكد بالملموس بأن احتجاج الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد لا يروم فقط إلى إسقاط التعاقد بل الدفاع عن المدرسة العمومية.