يتساءل كثيرون: كيف يعطي القرآن توصيفاً أننا خير أمة، والواقع الآن يشهد غير ذلك؟!

نلمح معلَماً مهمِّاً من فهم عمر بن الخطاب لقول الله تبارك في علاه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}.

حيث قال في تفسيرها: لو شاء الله لقال: أنتم، فكنَّا كلُّنا، ولكن قال: كنتم في خاصَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن صنَع صنيعَهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. 

وفي حجَّة حجَّها صلى الله عليه وسلم، قرأ ذات الآية ثم قال:" يا أيها الناس، من سرَّه أن يكون من تلك الأمة، فليؤدِّ شرط الله فيها".

وعندما تأملت واقع الأمة، نفَذَت لغتي وفرَغَت كنانتي وأغلقِت المعاجم وأوكئِت الجُعَبُ! تألمت وهاجت لوعتي. وكأن طريق الهدى قد استعجَم علينا! وكأن شعوبنا قد اتخذت قراراً أن لا تعود إلى منهجها!. إنه فعل الطغاة الذين أفزعتهم رايات الحرية.

ورأيت من أركان الضلال، الريح النكباء قد اشتد هبوبها! وأمواج البحر في قوة اضطرابها! والرمال يعلو غبارها، وتسفُّها الريح في وجه من صادفها.

نحن في ساحة ثقافية، يتسابق في مضامير ميدانها كثيرون، منهم عمالقة في الفروسية ومنهم دون ذلك، ومعهم أناس لبسوا لباس أقرانهم زوراً، وهم لا يتقنون فناً! ولم يصدِرِوا لنا منهجاً صافياًّ! 

لكن ساعدتهم الظروف، وعملت دولٌ وحكوماتٌ ودوائرُ مشبوهةٌ على تلميعهم، لدورٍ وظيفيٍّ يقومون به! يهدف إلى إزاحة المخلصين من ذوي التأثير وإدخالهم المعتقلات! وإحلال هؤلاء المنافقين مكانهم.

وفي السماء نجومٌ لا عداد لها * وليس يُكسَف إلا الشمس والقمر

ثم إني أتساءل بحرقةٍ، إلى متى يبقى كثير من آبائنا وأبنائنا؟! أسرى للإعلام المفلس، ولخطاب كلِّ فارغٍ عليم اللسان؟!

ومنطق الإنصاف يفرض علينا، أن نشهد أن ثمَّة أناس في جوانحهم فطرةٌ حيَّةٌ نقيَّة، تحجزهم في زمن الفتنة؛ عن التقليد ومتابعة دعاية الأشرار.

الواحد من هؤلاء من المفترض، أن يكون أحد الذين يبقون على النبضات، ويذكون المشاعر، من فرسان الكلمة في زمن التخاذل، حيث تُغتَال الكلمة، ويُغتَال معها الرجال المعبِّرون بصدقٍ وأصالةٍ عن وجدان الأمَّة وضميرها.

ونحن أهل الحق ، نعلنها والشمس طالعةٌ في رابعة النهار، لا نخشى ضربات طبلٍ فارغٍ ولا فرقعات صدى، مهما قوي رنينُها، فنفوسنا عشعش فيها الإيمان وتمكَّن، وقلوبنا أشربت بالثقة بالله وبمحبته؛ لا يهزُّها بهتٌ سارٍ أو افتراءٌ ممنهجٌ أو لعبةٌ غير نظيفةٍ. وذلك لوقوفنا على أرضٍ صلبةٍ، لا تقبل التمايل لرغبةٍ مشبوهةٍ، أو الانحناء لعاصفةٍ هوجاء، أو حملةٍ إعلاميةٍ عاتيةٍ، فأفعالنا ومواقفنا أفصح نطقاً وأجلى صورة وأوضح بياناً. وصاحب المبادئ إذا هزَّ قلمه، ساند خيراً أو أوهى نسيج شرٍّ. يمتثل الواحد منهم قول الأستاذ عصام العطار:

دربٌ سلكناه والرحمـن غايتنا *** ما مسنا قـطُّ في لأْوائـه ندمُ

نمضي ونمضي وإن طال الطريق بنا *** وسال دمعٌ على أطرافه ودمُ

يحـلو العذابُ وعين الله تلحظنا *** ويعذُب الموت والتشريد والألمُ

وغير هؤلاء يحتاجون درايةً في فهم الحياة تنبع من جذر القلب، لا من طرف اللسان، وهم في غالب أحيانهم، لا يسعفُهُم دليلٌ قويٌّ يمكن الركون إليه.

قال الدكتور عبد الرحمن العشماوي: 

وقومي نائمونَ علـى سريرٍ       تحيطُ به الكـوارث والمصائب

تحيـطُ بهم مؤامرة الأعادي       وهم يتقاتلون على المنـاصب

أقـول وفي فؤادي نار حزنٍ       تلذِّعـه ووجهُ الشعر شاحِبْ

إذا لم يفهم الأحـداثَ قومي       ومنطِقهَا الصحيحَ بلا شوائب

فسوف يـرونَ إرجافاً وبغياً       تسوء على الغُفاةِ به العواقب

أرى الأحـداثَ ليلاً مُدْلَهِمّاً          ولكني أرى فيـه الكواكبْ

 وأُبصـرُ فـجرَ أمتنا قريباً          وإنْ لعبتْ بهمّتها الرغـائبْ

يقـول المُرْجفونَ لقد غُلِبْنا         ولـكنّي أقـولُ اللهُ غالِبْ

ليست الأمَّة كلها في غيبوبةٍ، بل هناك عاطفةٌ ثرَّةٌ جيَّاشةٌ تجاه الإسلام، تتنامى بمرور الأيام، ولعل من مظاهرها امتلاء المساجد بروادها، والإقبال على حلقات القرآن وحلقات العلم، وكذا انتشار الحجاب بين المسلمات.

عاطفةٌ نلمسها في صفوف الأمة، تحتاج إلى توجيهها الوجهة الصحيحة، نحو  التغيير الحقيقيِّ، لما في النفس من جوانب عدَّة، ليشمل عالمي التصورات والسلوك؛ تغييراً يعيد تشكيل العقل المسلم، ويُمكِّن للإيمان في القلب، فيتحكَّم في شعابه، مع بذل قصارى الجهد في حُسنِ الإعداد، وامتلاكِ أسباب القوة.

هذه المهمة الجليلة، تحتاج إلى عملٍ دؤوبٍ وجهودٍ متضافرةٍ، وهنا يأتي دور الجيل المأمول، فهو الجيل المنوط به مهمة تغيير الأمة، وتهيئة أرضها لتكون ستاراً لقدر الله.

مهمِّةٌ صعبةٌ، ولن يكون الطريق إلى تحقيقها مفروشاً بالورود والرياحين، فسيقف أمامها أهواء الناس ومصالحهم الآنية الشخصية، ولكن مع الإصرار ووجود القدوة الصالحة في أبناء جيل التغيير، كل ذلك وغيره كفيلٌ أن يُعيد الأمَّة إلى منهج ربها شيئاً فشيئاً، وبخاصة إذا ما تمَّ انتهاج أسلوب الحكمة في الدعوة، وتقديم مفهوم التغيير للناس، بصورة مشروعةٍ ومنضبطةٍ يستطيعها الجميع.