يُعتبر الوقف من أهم معالم الحضارة الإسلامية ومن أبرزها تأثيرا في حياة المجتمعات الإسلامية، وقد عرفت منطقة الغرب الإسلامي ظاهرة الوقف منذ القرون الإسلامية الأولى وظلت هذه الظاهرة في حالة توسع ونماء مستمرين إلى أن بلغت أوجها خلال القرون الثلاثة الأخيرة من العصر الإسلامي الوسيط.
وتجدر الإشارة أن اهتمام الباحثين بالأوقاف لم يكن إلا في العقود الأخيرة باعتبار أن هذا المجال كان في نظر البعض ضمن تخصصات العلوم الشرعية، لكن مع تطور المناهج التاريخية وظهور اتجاهات ومدارس تؤكد على ضرورة الانفتاح على العلوم الأخرى لكتابة التاريخ بطريقة أكثر شمولية، انكب العديد من المؤرخين لدراسة تطور سيرورة ظاهرة الوقف في العالم الإسلامي.
أولا: المصادر التي يعتمد عليها المؤرخ لدراسة الأوقاف في المغرب
تعج المصادر التاريخية التي كتبت في القرنين 13 و 14 بمعلومات عن الأوقاف زمن المرينيين و من أهم هذه المصادر نذكر:
- الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية لابن أبي زرع الفاسي.
- أنس الفقير وعز الحقير لابن قنفذ.
- روضة النسرين في دولة بني مرين لأبي وليد إسماعيل ابن الأحمر [1]
ومن المصادر التي يمكن للباحث أن يعتمد عليها في دراسة تاريخ الأوقاف ما يسمى بالحوالات الحبسية. وهي عبارة عن سجلات رسمية تدون فيها ممتلكات الأوقاف ومعلومات أخرى مرتبطة بها، وقد سميت بالحوالة لأنها حولت إليها وثائق فردية، أو ضمت إلى ديوان شامل لها أو لعلها آتية من الحول بمعنى العام. وقد كانت الحوالات تتجدد كل سنة في أكثر الظروف التي مرت بها الأوقاف كما كانت تتعرض باستمرار للمراجعات والمتابعات.
والجدير بالذكر أن الوثائق المذكورة لم تحظ بدراسات كافية بالرغم من إحاطتها بالكثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية وهي مادة مصدرية خام لا يجب على الباحث أن يستغنى عنها كما أنها تضم معلومات نادرة ودقيقة قد لا نجدها في المصادر الأخرى.
ثانيا: الدولة المرينية وغياب الشرعية
بنو مرين هي السلالة التي حكمت بلاد المغرب الاقصى من منتصف القرن 13 حتى منتصف القرن 15 كانوا في بداية الأمر جنودا عند الموحدين وقد شارك زعيمهم محيو ابن أبي بكر معركة الأرك الشهيرة في الأندلس وهلك على أثرها سنة 1195 [2].
وبعد تقهقر الدولة الموحدية وتقلص رقعتها الجغرافية، ظهر في شمال إفريقيا تقسيم جديد للغرب الإسلامي فقد ظهرت أربع قوى: الحفصيون في المغرب الأدنى، وبنو عبد الواد في المغرب الأوسط، والمرينيون في المغرب الأقصى، وبنو الأحمر في غرناطة جنوب الأندلس.
استغل المرينيون ضعف الدولة الموحدية، وبدؤوا في التوسع لكنهم واجهوا إشكالية كبيرة، تتمثل في عدم وجود دعوة دينية وسياسية كسابقيهم من المرابطين والموحدين، ولهذا السبب نجدهم قد لجؤوا إلى إيديولوجيات معينة. فقد أعلنوا أنفسهم حماة للدولة الموحدية وذلك بإعلان ولائهم للخليفة الحفصي ونهجوا في البداية سياسة التبعية للدولة الحفصية.
إن افتقاد المرينيين لدعوة دينية وإصلاحية خلق لهم معضلة حقيقية لشرعنة سلطتهم السياسية، فالولاء للحفصيين لم يكن كافيا لتبرير سلطتهم وبذلك اعتمدوا على وسائل أخرى كمحاولة تشبيه أنفسهم بالمرابطين (مجيئهم من الصحراء والبركات والكرامات التي كانت تحكى عن يوسف ابن تاشفين تتشابه إلى حد كبير مع مؤسس الدولة المرينية عبد الحق بن محيو). هذا بالاضافة لمحاولة الانتساب للبيت النبوي فقد حاول بعض المؤرخين أن يبرروا أحقية المرينيين في السلطة بحكم أنهم من آل البيت وقد ساق ابن مرزوق في كتابه المسند الحسن، خبرا مفاده أن السلطان المريني أبا الحسن المنصور تلقى وثيقة أوفدها إليه بعض النسابين الأندلسيين تثبت أن الأسرة المرينية منحدرة من الرسول ﷺ [3].
ثالثا: الوقف وسيلة لتعزيز الشرعية عند المرينيين
اهتم المرينيون بترميم وبناء المساجد وأغدقوا عليها أوقافا وافرة للإنفاق على أئمتها وقد عنيت هذه المساجد بعناية مباشرة من السلطة المرينية ومن أهم المساجد التي شيدت في هذه الفترة نذكر الجامع الكبير لمدينة فاس الجديدة، الذي كانت نفقة بنائه هذا من مال معصرة مكناسة، بالإضافة إلى المسجد الأعظم بمدينة وجدة سنة 1296.
كما عمل المرينيون على إصلاح جامع القرويين وأوقفوا عليه أموالا كثيرة وقد انبنت سياسات المرينيين تجاه هذا الجامع في كثير من مراحلها على سياسة الاحتواء، فقد احتوت السلطة المرينية المناصب الدينية للجامع وحصرتها في نخبة من الفقهاء الموالين لها، واحتوت كذلك مردودات أوقاف القرويين التي كانت بحاجة إليها لبناء توازناتها [4]. فمردودات أوقاف جامع القرويين كانت ضخمة جدا. حيث وصلت خلال النصف الثاني من القرن 8 الهجري إلى 10 آلاف دينار فضية في بعض الأعوام.
كما نما عدد المدارس المرينية بشكل لافت وعمت مختلف الجهات وخاصة الحواضر ومن أهم المدارس نجد مدرسة البيضاء بفاس الجديد والصهريج والعطارين وكذلك المدرسة المصباحية والبوعنانية، وقد حظيت كل واحدة منها بقائمة طويلة من الأملاك التي حبسها عليها السلطان المؤسس لها. والجدير بالذكر أنه يمكن معرفة أسماء جل تلك الأملاك الوقفية بفضل حسن التوثيق الذي تميز به المرينيون وحرصهم على رعايتها، ذلك أنهم سجلوا الكثير من المعطيات المتعلقة بالأوقاف.
وقد وضعت السلطات المرينية برامج دراسية إجبارية داخل هذه المدارس، وذلك بهدف تكوين نخبة جديدة من العلماء يأخذون على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن مشروعية هذه السلطة التي لم تحظ بالتزكية من جانب بعض فقهاء القرويين، ويذهب البعض في هذا الصدد إلى الاعتقاد بأن الأوقاف وبناء المدارس كان يهدف إلى امتصاص المعارضة الشعبية [5].
وموازاة مع التفاعل بين الوقف وسياسة الدولة المرينية، ظهرت حركة علمية نشيطة في المغرب. فقد تخرجت من هذه المدارس نخب من العلماء في ميادين متخصصة، فالمجالس والكراسي العلمية الخاصة بدراسة اللغة والآداب والتاريخ والسير كثيرة ولها جمهور عريض من الطلبة. وحظيت أيضا الحقول العلمية بنصيب وافر في مدارس فاس كعلم الحساب والتوقيت والطب والتنجيم.
نستنتج مما سبق ذكره أن الأوقاف كظاهرة اجتماعية وثقافية ودينية تتفاعل مع السيرورة التاريخية وتأثر فيها، فإذا كانت مؤسسة الأوقاف تساهم في نهضة الأمم وتقدمها من خلال التركيز على التعليم والمساعدة الاجتماعية، فلا يجب أن ننسى أن الأوقاف يمكن أن تستعمل لأغراض إيديولوجية وسياسية، وقد تبين هذا جليا من خلال الدولة المرينية التي سعت من خلال إنشاء الأوقاف، خاصة المدارس، إلى اضفاء المشروعية على حكمها، وقد نجحت إلى حد كبير في إيجاد مبررات تشرعن له ولبقائها في السلطة.