نؤمن جميعًا نحن معاشر المسلمين بأنَّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا ونقرأ آياته كلَّ يوم من أيام رمضان هو سرٌّ جوهريٌّ في تحويل الشعوب من قوانين الهمجية والفوضى والعبث إلى مبادئ العقلانية والنظام والعمل الرشيد، هو السرُّ المركزي في نقل شعوب وقبائل وأقوام من ميدان الظلم والعدوان والانحراف الأخلاقي والانتكاس القيمي إلى ميدان التفكير العملي الفاعل والإصلاح الديني والنفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وفي كل مفاصل الحياة، بل وتوجيه هموم وهِمم هذا الأقوام نحو بناء حضارة مُهابة، تُزاحم حضارات الدنيا عبر التاريخ، وتتفوق عليها بما تمتلكه من ثوابت قيمية ومبادئ أخلاقية مثالية، وشاهد هذا لا يحتاج إلى بحث طويل، فالتجربة العملية الفريدة لمسناها في تأسيس أول دولة في الإسلام، وها نحن اليوم نرتوي من نبع خيرها وبركتها ونهتدي بنورها بعد قرون طويلة.

نزل القرآن الكريم بين أقوام غلاظ أجلاف، قساة في طباعهم ومعاملاتهم وجميع سياقاتهم، تمامًا مثل بيئتهم التي ينتمون إليها، البيئة الصحراوية القاسية، التي استمدوا منها جزءً كبيرًا من طباعهم وخصالهم، حتى بالغ ابن خلدون (ت808هـ) في وصف مظاهر من أخلاقهم الهمجية حين قال في مقدمته: "إنهم لطبيعة التوحش الذي هم فيه أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر... وهم إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأنهم أمة وحشية، فينقلون الحجر من المباني ويخربونها لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، وليس عندهم من أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه". انتهى ص 151

هذه السمات إن صحت –وهي ليست على إطلاقها- سرعان ما تبددت وانحسرت، وصارت هذه الأمة الصحراوية القاسية ذات قيم رفيعة، ورسالة سامية، ومبادئ هي في ذروة العقلانية والحكمة والسمو، تفوح بركة تلك الرسالة في كل نواحي الحياة، على مستوى نظام الفرد والأسرة، وفي تنظيم حركة المجتمع والدولة، وفي إدارة النظام العالمي وعلاقاته، حتى شاركت تلك المجتمعات في تأسيس دولة غاية في العدالة والإنسانية والرشد، وصار بعض أولئك القوم قادةً وسادةً وبناةَ حضارة عتيدة، مبنية على أسمى ما تعرفه الإنسانية من خير ونبل وعدل وأمانة ورحمة. 

كل ذلك التألق تحقق ببركة هذا النور المبين، ورسائل هذا الكتاب العزيز، والدستور الخالد، الذي نزل على قلب سيد الخلق وإمامهم، محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتمثله  صلى الله عليه وسلَّم في حياته عمليًّا، وبلَّغه أصحابه وأمته، وتربى على هديه جيلٌ كامل من الأصحاب، ثم لحقت هذا الجيل أجيالٌ كثيرة، تنطلق من ذات المبادئ، وتهتدي بذات النور الذي شعَّ في عصر الرسالة الأول.

نحن اليوم وفي هذه المحطة من التاريخ، نحتاج الربط بين صورتين –عتيقة رائدة وعصرية مشوهة-، كما نحتاج إعادة تقييم للصورة التي نحن عليها اليوم، ليتكشف لنا بعض الداء، ونقف على مكامن العلة، ويجب أن يكون التشخيص منطقيًّا عقلانيًّا؛ لنستطيع فهم الواقع، وتمييز الخلل الذي يتسبب في كثير من إشكالات العصر التي يقاسيها مجتمعنا المعاصر. 

بإمكاننا أن نتساءل بعد أن عرفنا سر نهضة الجيل الأول، وسر تألقه ونموه ونجوميته: كم عدد الذين يقرأون القرآن في رمضان على وجه الخصوص من أبناء الأمة اليوم؟ بل ويُكثرون من تلاوته وترداد آياته وربما حفظه وختمه مرات عديدة. كم أعدادهم؟ في تقديري هم كثير. نعم كثير جدًا. وفي مختلف البلدان والأوطان.

لكن السؤال الأعمق! أين أثر هذه القراءة في سلوك المجتمعات؟ أين أثرها في أفكار المجتمعات ومبادئها والقيم التي تستند إليها؟! هل نرى تحولًا حقيقيًّا في بُنية الأفراد الفكرية والأخلاقية في رمضان على الأقل؟ أم أنَّ الحال واحد!

 في رمضان وفي غيره، حتى مع كثرة القُرَّاء في هذا الشهر الفضيل، إذًا أين أثره في البيوت والشوارع والأسواق ومواقع العمل؟! أين فعاليته في القيم والأخلاق والأفكار والتصرفات العامة؟ هل نجد فارقًا جوهريًا كما رأيناه واضحًا في تشكيل الجيل الأول؟! وأين المشكلة؟!

أُدرِكُ مثل غيري أنَّ الجواب واضح! لا تغير جوهري وحقيقي في كل هذه المحطات! يبقى الجهد منصبًا على جواب "لماذا؟"، وقد استطعت أن أصل إلى جواب ربما يصل إليه كلُّ متأمل منا، وقد أدركه الأولون والآخرون، وأكثروا من التنبيه عليه، العلماء والمفكرون والمصلحون في كل زمان ومكان، رصدوا هذه المشكلة ونبهوا عليها بصريح الكلام.

الحقيقة الواضحة أننا نقرأ آيات القرآن بلا وعي غالبًا؛ لذلك من الطبيعي أن لا نجد أثرًا لما نقرأه، ولا يمكن أن نجد الأثر المرجو من القراءة في التغيير الجوهري، كيف ونحن نقرأ القران هذًّا وهذرمةً؟! نقرأه على عجل كما يُراجع الحُفاظ المتقنون حفظهم معتمدين على قوة الذاكرة مهتمين بسلامة اللفظ وضبط القراءة صوتيًّا فحسب! وهذا ما يجعلنا بعيدين عن معانيه ورسائله وقيمه الكبرى، ولا أعرف كيف نستبعد الغوص في أسراره وأنواره ونحن نريد أن نتربى على مبادئ القرآن ونعي دروسه ومعانيه؟! لذلك كان السلف يمنعون من هذه القراءة التي تُفقد المرء روح ما يقرأ، وتعدم الأثر على القلب والجوارح، الذي هو المقصود الأعظم من قراءة القرآن الكريم.

قال النوويُّ (ت676هـ) في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" ص 90: "وقد نُهيَ عن الإفراط في الإسراع، ويُسمى الهذرمة"، وفي شرحه على صحيح مسلم 6/104 "باب ترتيل القراءة واجتناب الهذِّ وهو الإفراط في السرعة". والهذرمة: هي كثرة الكلام، ويقال: هو السرعة في القراءة والكلام والمشي. والهذ: "سرعة القراءة، يقال: هذَّ القرآن هذًّا، ويهُذُّ الحديث هذًّا أي: يسردُه".

إن من مصائب قلوبنا مع كلام الله هو أنها لا تعي معانيه، ولا تتدبر آياته، وعلى هذا لا تتعظ ولا تعتبر، ويسير جدًا أن تخالف عمليًا ما تقرأه وتسمعه من الذكر الحكيم. يقول الله منبهًا المؤمنين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) الأنفال 21.

 قال الطبري (ت310هـ) في تفسيره 13/458: "وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه, وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبرونه. فجعلهم الله إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بآذانهم بمنـزلة من لم يسمعها".

ويُعلمنا القرآن نفسه آداب قراءته، ويربينا على الاغتراف من مائدته، فيقول الله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ سورة المزمل آية 4؛ قال الشافعي في الأم 1/132: "وأقلُّ الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة".

ويحرص الجيل الأول على فقه القرآن وفهمه وتطبيقه بطريقة سرعان ما تؤتي ثمارها في بناء العقل والقلب والنفس الإنسانية، ويفيض الأثر على الجوارح سلوكًا عمليًا منضبطًا بقوانين وآداب تلك الآيات القرآنية، فيقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل".

إن هذا النمط من القراءة هو الذي تفتقده الأمة في تعاملها مع القرآن، لذلك يخفى الأثر حتى مع كثرة القراءة والسماع، ونعجز عن التحول والتغيير وإعادة البناء في الفكر والقيم والسلوك مع كثرة التالين للقرآن، وقد أدرك العلماء عبر القرون هذه الحقيقة بصورة لا تقبل اللبس، فقال النووي في (المجموع) 2/165: "واتَّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع، ويسمى الهذُّ؛ قالوا: وقراءة جزء بترتيلٍ أفضل من قراءة جزأين في قدر ذلك الزمن بلا ترتيل. قال العلماء: والترتيل مُستحبٌّ للتدبر، ولأنَّه أقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشدُّ تأثيرًا في القلب، ولهذا يستحب الترتيل للأعجميِّ الذي لا يفهم معناه".

وقال الآجُرِّيُّ (ت360ه) في (أخلاق أهل القرآن) ص 169: "والقليل من الدرس للقرآن؛ مع الفِكر فيه وتدبُّره؛ أحبُّ إليَّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبُّر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وقول أئمة المسلمين".

وقال ابن الجزريّ (ت833هـ) في (النشر) 1/ 208- 209: "والصحيح؛ بل الصواب؛ ما عليه معظم السلف والخلف، وهو أنَّ الترتيل والتدبُّر مع قلَّة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأنَّ المقصود من القرآن فهمُه والتفقُّهُ فيه والعملُ به، وتلاوتُه وحفظُه وسيلةٌ إلى معانيه".

ولعلَّ من أبرز هذه العوائق والصوارف عن فقه آي القرآن وتدبرها ما يأتي:

أولًا: الغفلة عن مصدر الخطاب: من المؤسف أننا لا نستشعر عند القراءة بأن هذا المقروء هو خطابُ الله إلينا، لذلك لا تهزنا معانيه، ولا تردعنا نواهيه، ولا يملأ مشاعرنا فقه الوعد والوعيد فيه، حتى عندما نسمعه ونبكي ونخشع يُثيرنا النَغَم غالبًا.

ثانيًا: التصحر اللغوي: فقه الخطاب مبني على فهم النظام اللغوي لذلك الخطاب، بما يتضمنه ذلك النظام من الثروة المعجمية والنظام القواعدي نحوًا وصرفًا وبلاغةً، والمصيبة المريرة هو أننا لم نعد من أبناء اللغة كما كان الجيل الأول، وهذا ما يجعلنا بعيدين عن إدراك المعاني، أو قل: مغيبين عن الغوص في أعماقها ودلالاتها.

ثالثًا: العجلة في تحقيق النتائج: فالقارئ يتعجل بعدِّ الآيات والسور، وتقليب الصفحات على طلبًا للآخر، دون النظر إلى الجواهر والمقاصد، ودون مراعة لتأمل المعاني وإدراك روح الخطاب القرآني للبشر.

رابعًا: التكاسل عن طلب المعاني: وذلك أن إدراك المعنى المراد من الآيات يتطلب -في أحيان كثيرة- مراجعة كتب التفسير أو اللغة، وهذا ما يعجز أو يتعاجز عن طلبه أكثر القراء، فيكتفون بترداد الألفاظ ولو من دون فهم لمعانيها. 

خامسًا: الجهل بمقصود التلاوة: فقد يجهل القارئ أن الغاية من تلاوة القرآن هو الوصول إلى المعاني؛ ليتحقق بها الأثر، كما قال الله تعالى: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ سورة ص آية 29.

سادسًا: غياب الجو القرآني: وذلك حين نقرأ مع وجود الشواغل والضوضاء وزحمة الأفكار، فمن الصعب -والحال هذه- أن نُوَطِّن العقل على الفهم والقلب على التفاعل، وبذلك يكون اللسان وحده مشغولًا بتحقيق الألفاظ ونطقها.

سابعًا: ندرة مجالس الذكر: المجالس التي تعنى بتفسير آيات القرآن في حياتنا اليومية، وذلك على مستوى المجالس العائلية وجلسات الأصدقاء والأقارب وغيرها، فالرفقة الإيمانية والمُدارسة الجماعية تساعد كثيرًا على التنبه لروح القراءة، وتستثير الأسئلة والاستفهامات التي تدفع نحو التعلم وطلب الفهم.

ثامنًا: الانغماس في الحياة المادية: وتغييب دور الروح في الحياة، مع كثرة الأعمال اليومية وزحمة الأنشطة الحياتية العامة، كل هذا العبء يجعل القلب بعيدًا عن الحضور والإصغاء إلى ما يردده اللسان.

تاسعًا: ضعف في تبني قضية الفهم: لذلك نجد في الحِلَق المسجدية والمراكز القرآنية ما ينظم ويدعم الحفظ وإتقان التلاوة، وقلما نجد مشاريع تصل إلى العامة وجيل الشباب تعنى بفهم القرآن وتختصُّ بمسألة تدبره.

عاشرًا: غياب مشروع الفهم عن المسيرة الأكاديمية: حتى لا نكاد نجد مقررًا جامعيًّا أو كتابًا مدرسيًّا مخصصًا لفهم القرآن وبيان آلياته ووسائله، مع ما نجده من مقررات للحفظ أو التلاوة، وهذا ما يعزز في نفوس الصغار والكبار غياب البحث عن الفهم وطلب المعاني القرآنية.

أخيرًا أقول: لماذا لا يكون قرآن رمضان هو بداية التحول والتغيير؟ بداية علاقة جديدة مع القرآن، ومع الحياة كلها في ضوئه وتحت نوره، لعلنا ننجح في صياغة أمة مهابة، كما نجح الجيل الأول في تحقيق هذا الحُلم، ولنسلك ذات الطريق الذي سلكه، وننطلق من ذات المصدر الذي انتصر به، والله يتولَّانا بعونه وتوفيقه.