مع ازدهار الثورة الصناعية والتكنولوجية أصبحت المنتجات المرئية أحد أهم ركائز البناء الشخصي للفرد؛ إذ بات القرطاس والحبر على حافة الأُفول وأصبحت الشاشات هي مَبصَر البصيرة ومُكوّن الوعي بالنسبة للصغير والكبير. 
تندرج تحت عبارة "المنتجات المرئية" كل ما يُبصَر بالعين وتُنتجه الأيادي البشرية. لكنني هنا بصدد التحدث عن أحد فروع تلك المنتجات وهو "الدراما التلفزيونية"، التي تتمثل في الفيديوهات والمسلسلات. إذ تعدّ الدراما التلفزيونية من المنتجات السمعية البصرية والتي هي أحد المكونات الأساسية للتراث الثقافي للمجتمعات، ففي عام 1980 اعترفت اليونسكو بالقيمة التاريخية والثقافية والمعرفية للصورة المتحركة [1] فهو مرساة لحفظ خصائص الذاكرة والتراث.

القوة الناعمة.. مستقبل الحضارة في قيادة الثقافة

الحضارة في تعريفها البسيط جمعٌ بين المدنية والثقافة؛ إذ تتمثل المدنية في العمران المدني المتمثل في التطور العمراني والبنائي في الطُرقات وميسرات الحياة. وهذا بات متواجدًا في كثيرٍ من البلدان في العصر الحديث. أما الثقافة، فهي التحدّي المعاصر والجزء الأصعب من تكوين الحضارة، فهي تأثيرٌ مباشَر للنفوس والتصرفات، وقيادةٌ قوية للمجتمعات فعلًا وقولًا وفِكرًا... و ضمن هذا المحور، ومنذ عام 1990 ظهر مصطلح "القوة الناعمة" وهي القوة غير الملموسة التي تمارسها الدولة من خلال صورتها فتكون لها الريادة بمنتجاتها وعقلها لا بأسلحتها؛ بل بالهيمنة على الأسواق بالمنتجات الغذائية والتكنولوجية فينتج عن ذلك تكوينٌ لا واعٍ للقدوات واتباعٌ للثقافات...

لذلك، كان جوهر الهيمنة الحضارية في الهيمنة الثقافية. وهذا ما أفلحت فيه الدراما والموسيقى والترندات بشكلٍ كبير، فأصبح الفن بأشكاله المختلفة محورًا لاهتمام إنسان العصر الذي وجد الرفاه المعيشي والتمدن. وأصبح الوقت ناقصًا بغير محتوًى ثابت أو معلوم يملأ عليه وقته. 

ونأتي لنجد نتائج انتشار الثقافة جليًّا في هيمنة ثقافة كوريا الجنوبية على الكثير من شباب آسيا بخاصة وشباب العالم بعامة؛ إذ اتخذت دولة كوريا هدفًا رئيسًا لها بأن تصبح المصدر الرئيس للثقافة الشعبية في العالم، وقد نجحت بشكل كبير في ذلك بإنتشار الهاليو Hallyu والتي عند ترجمتها للصينية تعني "الموجة الكورية" والتي أصبحت واحدة من أكبر الظواهر الثقافية في جميع أنحاء آسيا وكان أثره كبيرًا؛ إذ ساهم في 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا في عام 2004 بما مقداره حوالي 1.87 مليار دولار أمريكي، وفي الآونة الأخيرة حققت الHallyu ما يقدر بنحو 12.3 مليار دولار أمريكي لدعم الاقتصاد الكوري في 2019.[2]

ما هو تأثيرالدراما التركية على المجتمعات بما في ذلك الوطن العربي؟

إن العلاقة التركية العربية متعمقة في جذورها منذ تاريخٍ بعيد، مرّت فيه الحضارتين بمستوياتٍ مختلفة من العلاقة تارةً شراكة وتارةً حُكمًا ومحكومًا. لكن، يظل بينهما رابطُ الوحدة والدين الخالد الذي جمع المجتمعين ليصبحا متشابهين وقريبين في كثيرٍ من النواحي.
الثقافة التركية ومثلها العربية تمتلكان الكثير من نقاط الاشتراك، ولما كان الإنتاج الدرامي للأتراك وجد العرب فيه ميولهم الأكبر. وتحت هذه العلاقة، وجدت دراسةً تشير بداخلها إلى بعض أسباب ميول العرب للدراما التركية بدلاً عن الغربية [3]؛ وقد تناول الكاتب هنا سؤالًا مهمًا فحواه أنْ لماذا اختار المجتمع العربي المسلسل التركي وليس الغربي؟ وأسند ذلك إلى العوامل النفسية والعقلية السابقة لتكوين الفرد العربي من المشاعر السلبية السائدة للغرب في الأوطان العربية من عداء وهجمات سابقة. وكذلك، أسند القول باشتراك القواعد الثقافية بين المجتمعين العربي والتركي مثل: الترابط الأسري والدين الإسلامي؛ الشيء الذي  يسهل الإعداد للجمهور الناطق بالعربية. 
تأثير الدراما التركية وصل لأبعد من ذلك إذ أظهرت عدة دراسات تأثُر المجتمع الباكستاني بالدراما التركية، إذ توضح الدراسة [4] أن النساء الباكستانيات يتأثرن بشكل كبير بالدراما التركية في الأفعال والعادات والأزياء حتى.

نخلص من ذلك إلى أن الدراما التركية نجحت في تكوين ذاتها بين المجتمعات، وأثبتت تمكنها من غرس ثقافتها، فأصبح لدى المنتجين الأتراك قوةٌ تأثيريه كبيرة، يُحدد كاتب النص من خلالها العادات والمفاهيم التي يريد بثّها في المجتمعات. فأصبحنا أمام تحدٍ جديد مفاده "أيُّ محتوىً ستختار؟".

 

مع غياب بديلٍ يضاهيها.. هل وُفقت الدراما التركية التاريخية في صناعة الوعي؟

أثبتت الدراما التركية نجاحها رغمًا عن اختلاف رسالة المنتج. فبالرغم من كثرة المسلسلات الدرامية القصصية إلا أننا نجدها أنتجت لنا وعيًا فكريًا مجتمعيًا عالميًا بإنتاجها للأعمال الدرامية التاريخية والإسلامية بجودةٍ عالية تخطّت التوقعات. تأثر الكثير من المشاهدين بمقاطع تلك المسلسلات، وتم تداولها بصور كبيرة على نطاق الوطن العربي والعالم، بل واتخذ البعض من تلك الشخصيات قدواتٍ لهم. ومثال ذلك، نجد المسلسل التاريخي الذي احتل الصدارة في عام 2020 والذي تحدث عن بوادر تأسيس الدولة العثمانية عارضًا لنا قصة الغازي أرطُغرل من قبيلة "الكايي" وكيف نشأ وما كان يتبع... فكان نتاجُ ذلك تاريخًا إسلاميًا عثمانيًا مُحببًا للكثيرين، وانعكاسًا وجدانيًا للقيم والمبادئ التي أظهرها المنتج والكاتب (محمد بوزداغ) في شخصيات المنتَج "قيامة أرطغرل"،  وتجدر الإشارة إلى أن تعداد محاسن هذا المسلسل لم تمنع بروز مؤاخذات من طرف النقاد والمهتمين فيما يخص الصحة التاريخية لعدد من الأحداث الرئيسية في المسلسل والمخالفات الشرعية التي ظهرت فيه. تبع ذلك مسلسل "المؤسس عثمان" والذي يحكي قصة ابنه "عثمان" مؤسس الدولة العثمانية، عارضًا المصاعب التي قد تواجه المرء عند إنشاء فكرٍ جديد ودولة قوية… ليس هذا فقط، بل أبهرنا الإنتاج التركي بالكثير من المسلسلات التاريخية المتميزة مثل "كوت العمارة"، و"السلطان عبدالحميد" وغيرهم، فنجح الأتراك بهذا في صنع وعيٍ تاريخيٍ بالحضارة العثمانية والترويج للتاريخ التركي العريق. 

ختاما: الرسالةُ ميادين، وللثقافة جوانبُ أُخَر
اختيار الدراما كأنموذج للثقافة كان للفت الانتباه إلى أن الرسالة يمكن تأديتها في كل الميادين المعاصرة، فمهما كانت سبل التطور الحضاري فإن كل محورٍ ينتجُ عنه وعيٌ للإنسان هو للمسلم فرصةٌ للتبليغ. ونرى في عالمنا العربي الكثير من المخرجين المُقدّرين الذين أثمرت جهودهم وعي الشباب المعاصر بإنتاج الدراما والفن، وآخرين في تعريب وتنقية المحتوى المفيد ليكون شمعة الشباب بكلماتٍ تكافلية تشجيعية، ومبادئَ قويمة...