مرض العقول وآفة العصر هو الغباء، والغباء يختلف عن التغابي، فالأول هو فقدان الفهم الواعي لمتغيرات الواقع، والثاني يعني التغافل عن متغيرات الواقع لحاجة في نفس المتغابي.

وللغباء آثار على الفرد والمجتمع وعلى جميع جوانب الحياة وليس له دواء معين بحد ذاته، إلا تكثيف الوعي للتخفيف من حدته فقط. ومشاهد الغباء كثيرة في حياتنا، وتكاد تكون ذات طابع يتسم بالعادة، ويتنوع ولكن صفاته لا تتغير.

ويقول الشاعر:

لكـل داء دواء يستـــــــطب به

إلا الحماقة أعيت من يداويها.

وقال أينشتاين:

"هناك شيئان لا حدود لهما ...الكون وغباء الإنسان".

المتعارف عند الناس أن أساس جميع المشكلات الاجتماعية والإنسانية والسياسية هو الغباء، فهو يعبر عن أفعال الناس السيئة والغير واعية من المكلفين والعقلاء بخلاف من ليسوا مكلفين كالطفل والمجنون، ومن لديه أمراض عقلية أخرى.

والغباء هو قصور في الفهم ونقص في الاستيعاب وكسل في نشاط العقل الهامل عن الفهم والعاجز عن الإدراك لمجريات الأحداث.. والإنسان الغبي هو الذي يفقد القدرة على الربط بين الواقع الربط الصحيح ليصل إلى نتائج صحيحة ويتخذ القرارات التي تصل به إلى الفائدة المرجوة وصولاً إلى تحقيق مصلحة مجتمعه وبيئته" قاموس "وبستر".

والغبي لغة كما جاء في "مختار الصحاح" هو قليل الفطنة.

وهناك نظريات تشير إلى الغباء وكيفية صناعته، ومن هذه النظريات نظرية القرود، التي تشرح عملية صناعة القرود، وسأذكرها نصا نقلا عن موقع هافنغتون بوست، وهي كالتالي:

"فهل عندك فكرة كيف تتم صناعة الأغبياء؟!

مجموعة من العلماء وضعوا 5 قرود في قفص واحد وفي وسط القفص يوجد سلم وفي أعلى السلم هناك بعض الموز.

في كل مرة يطلع أحد القرود لأخذ الموز يرش العلماء باقي القرود بالماء البارد، بعد فترة بسيطة أصبح كل قرد يطلع لأخذ الموز يقوم الباقين بمنعه وضربه حتى لا يرشون بالماء البارد.

بعد مدة من الوقت لم يجرؤ أي قرد على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الإغراءات خوفا من الضرب.

بعدها قرر العلماء أن يقوموا بتبديل أحد القرود الخمسة ويضعوا مكانه قردا جديدا.

فأول شيء يقوم به القرد الجديد أنه يصعد السلم ليأخذ الموز ولكن فورا قام الأربعة القردة الباقين بضربه ويجبرونه على النزول..

بعد عدة مرات من الضرب يفهم القرد الجديد بأن عليه أن لا يصعد السلم مع أنه لا يدري ما السبب.

قام العلماء أيضا بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد وحل به ما حل بالقرد البديل الأول حتى أن القرد البديل الأول شارك زملائه بالضرب و هو لايدري لماذا يضرب.

وهكذا حتى تم تبديل جميع القرود الخمسة الأوائل بقرود جديدة حتى صار في القفص خمسة قرود لم يرش عليهم ماء باردا أبدا...

ومع ذلك يضربون أي قرد تسول له نفسه صعود السلم بدون أن يعرفوا ما السبب.

وهكذا تتم صناعة الغباء الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي.

ولو سألنا القرود لماذا يضربون القرد الذي يصعد السلم؟

سيكون الجواب : لا ندري ولكن وجدنا من سبقنا على هذا الطريق".

وهكذا في كل مجتمع، تكون الذرائع جاهزة، ونص قولهم "قالوا لنا كذا وكذا، أو قيل لنا كذا وكذا"، ولسان حالهم سؤر وفضلات هذا إن علموا حقيقة الأمر فيداهنوا، وان اِستمروا فهم كالقردة ولا فرق في ذلك، والغباء قد أخذ نصيبه كاملا منهم متمكنا في تفكيرهم وجميع مفاصل حياتهم.

وهكذا تتم صبغ العقول وتغليفها، دون اختبار للأسباب ودون إدراك الصواب وتعتيم الرأي العام، وجعله مستعبدا لقرار من سبقه، دون وعي أو فهم لحقيقة الواقع، وهكذا تتغير الأجيال المتعاقبة، تحت مسمى الآباء والأجداد.

قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)) (170) سورة البقرة.

ولابد من إعمال العقل والتفكير تفكيرا منطقيا، مع أخذ الشواهد من الواقع، والمسببات، لتكوين رؤية واضحة للخروج من بوتقة الغباء ونظرية صناعة الأغبياء، وحتى لا يكون الإنسان أداة يتحكم بها المجهول...

فليرتقي الإنسان بنفسه، وليدرك حقيقتها أولا حتى يفهمها، ثم ليفهم حقيقة واقعه جيدا.

وهذه قصة أخرى، ولكنها أيضا تتسم بوجهات النظر لدى بعض الناس، فلكل إنسان زاوية أخرى لرؤيته، ونادرا ما تجد من تكون له رؤية شاملة في جميع النواحي، وهذه القصة كالتالي:

كان هناك عشرة أطفال وكانوا يلعبون بجوار سكة حديدية.. تسعة منهم اِختاروا أن يلعبوا بجوار خط يمر عليه القطار كل فترة، بينما اِختار الطفل العاشر اللعب بمفرده بجوار خط مهجور للسكك الحديدية.. وحين لمح عامل السكة الحديد القطار القادم أصابه الهلع خوفاً على حياة الأطفال التسعة، الذين يلعبون على خط السكة، الذي سيمر عليه القطار.. فكَّر الرجل بسرعة، وقرر تحويل مسار القطار ليسير على الخط المهجور، حيث أنّ هناك طفلاً واحداً فقط يلعب هناك.. فبذلك هو أنقذ حياة التسعة أطفال.. أي أن هذا القرار حقق أقل خسائر ممكنة". 

للوهلة الأولى يتبين لنا أن عامل السكك الحديدية قد اِختار القرار الصحيح بمنطق الكم.. ولكن حين نفكر بمنطق الكيف سنكتشف أنه قد أخطأ.. فالطفل الذي ضحى به عامل السكة الحديد كان أذكى الأطفال العشرة، لأنه الوحيد الذى فكر واختار القرار الصحيح باللعب فى المنطقة الآمنة.. أما البقية الذين أنقذ العامل حياتهم فهم الأغبياء والمستهترين الذين لم يفكروا بطريقة صحيحة، واختاروا اللعب في منطقة الخطر.

ربما يبدو أن هذا التحليل غير منطقي وغير عاطفي لدى البعض، إلا أن هذا هو الفارق الشاسع بين المجتمعات التي تصنع الذكاء والغباء بين أفرادها، فالمجتمعات الغبية تضحي بالأذكياء والأكفاء، أما في المجتمعات الذكية فتلهث القيادات وراء العقول وتنفق عليها؛ لأن الأذكياء والعقلاء والنابهين يقودون المجتمع ويصنعون السعادة حتى للأغبياء أيضاً، وهي مهمة ليست سهلة.. 

والدول الذكية هي التي تستثمر في العقول؛ لأن العقول هي التي تبني الدول وتدعم استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وتدفع إلى النمو والتقدم وتبحث عن المتفوقين، وتدفع بهم للواجهة؛ لأنهم بعقولهم سيدفعون المجتمع للأمام.. 

أما الدول الغبية، فتقتل المواهب وتئد الأفكار، وتدفع بالأغبياء للصفوف الأولى لصناعة شعوب بلهاء تسهل السيطرة عليها، إنه فن صناعة الغباء؛ ليسقط المجتمع في الهاوية..

وهذه القصة الأكثر إنتشارًا في أوساط أصحاب الرؤية المجزوءة والبسيطة، والذين يصدرون أحكامهم المسبقة، أو الحالية في ضوء قصور رؤيتهم فيما يرونه من أحداث، والحياة مليئة بنماذجهم.

وأختم ذلك بحث إخواني على الفهم الواعي، والإدراك لمتغيرات الحياة، والإلمام بالمعرفة الإيجابية المؤيدة لأفكارنا والرؤية الشاملة لما يدور حولنا.

أسأل الله أن يرزقنا الفهم السليم والسلوك القويم، والهداية والإجادة والتكريم، وأن يجعلنا مما يقولون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا مما يستجاب لهم في قوله تعالى" وقل ربي زدني علما" وزدنا علما، حكمة وفهما.

وأسأل الله أن يصرف عنا الغباء والبلاء والوباء، وسوء الأشقياء، إنه سميع الدعاء، وإنه على كل شيء قدير.