يعد التأليف مرحلة هامة في تاريخ نشأة العلوم وتطور مساراتها، حيث تم الانتقال من الثقافة الشفهية إلى تقييد العلم بالكتابة، وفي سياق العلوم الإسلامية نتحدث عما يسمى بإعمال القواعد قبل أن تدعو الحاجة إلى إفرادها بالتأليف، سواء تعلق الأمر بالفقه وأصوله أو التفسير وقواعده أو الحديث وعلومه، وهي نقلة نوعية بحيث ساهم ازدهار حركة التأليف في إطلاق سراح الإرث الإسلامي من الأمانة في الصدور إلى الكتابة في السطور، وبدأ التدوين النسبي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 20 ه، كما أن مرحلة جمع القرآن في الصحف على عهد الخليفة أبي بكر -رضي الله عنه- تعد استجابة آنية وتفاعلا حكيما مع واقعة موت القراء في معركة اليمامة، بعد أن خيف ذهاب القرآن بذهاب حفظته، ليشكل بذلك التدوين والكتابة وسيلة لحفظ القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع.
ولا شك أن للتأليف مقاصد، فالإقبال على الكتابة لا يخلو من أن يكون تفاعلا مع إشكالية أو استجابة لحاجة الناس إلى معرفة أمور دينهم أو ردا على اتجاه فقهي أو عقدي معين وتصحيحا نابعا عن قناعة فكرية مختلفة. "كتب الردود"
أهمية التأليف: "فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج"
هذه الأخيرة هي عبارة الخطيب البغدادي -رحمه الله- في حديثه عن أهمية التصنيف حين قال: "ينبغي أن يفرغ المصنف للتصنيف قلبه ويجمع له همه، ويقطع به وقته"، وكان بعض شيوخنا يقول: "من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ وليأخذ قلم التخريج".
وهي عبارة تدعو طالب العلم أن يتوقف بعد مرحلة معينة عن الطلب وعن التلقي المحض إلى التصنيف والتأليف لإفادة نفسه قبل إفادة الناس، وقد تحدث حاجي خليفة عن هذا المعنى في كتابه "كشف الظنون" في معرضه كلامه عن أغراض التأليف فقال: "ومنهم من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة، فلا حجر عليه، فإن العلماء قالوا ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه...".
ولا يفوتنا أن نذكر في هذا السياق تجربة العلامة يحيى بن شرف النووي صاحب التصانيف الكثيرة والذي بدأ مسيرته العلمية في التأليف في سن متأخرة حيث جعل تصنيفه تحصيلا وتحصيله تصنيفا، فاشتهرت طريقته هاته بالتصنيف التحصيلي.
سياق ظهور كتب الشروح وأهدافها:
لقد زادت الشروح للتآليف كبير نفع وعظيم فائدة وكان لها أثر في دفع مسيرة التقدم العلمي في عصر النهضة الإسلامية وفي إثراء الفكر البشري، ويمكن القول إن كتب الشروح في التراث العربي الإسلامي جاءت لتحقيق غايات ثلاث:
- الأولى تعليمية تستهدف تبسيط المعرفة وتقريب المفاهيم للمتعلمين ونقل العلوم الشرعية من خصائصها الإبستمولوجية في مستواها العالم إلى مستويات تعليمية قابلة للاكتساب، وتقريبها للأذهان بغاية الإفهام، وهي غاية فرضتها طبيعة التحولات المنهجية والبيداغوجية في تدريس هذه العلوم،
- والثانية غاية علمية تستهدف تعميق البحث في العلم وتطويره وتفريعه،
- وأما الثالثة فهي قراءة كتب التراث قراءة نقدية ومناقشة أفكارها ومضامينها على اعتبار ممارسة النقد آلية هامة جدا في توجيه وتطوير مسارات العلوم.
فهم الكتاب في ضوء مقاصد المؤلف:
من الإشكالات العويصة في كتب التراث الإسلامي تأويل كلام المؤلفين لينسجم ويخدم اتجاها معينا سواء وافق ذلك قصد المؤلف أم خالفه، وغالبا ما تُطرح هذه الإشكالية في الدرس العقدي وذلك لأهمية علم العقائد وعدم تعددية الحق فيه، وهذا وجه من الوجوه التي تفسر الجدل الكبير في علم العقيدة، والذي أفرز طوائف وفرقا متعددة اختلفت فهومها لنصوص الوحي، فنتج عن ذلك تبديع وتفسيق وتكفير وغيرها من الاصطلاحات التي كونت جهازا ونسقا مفاهيميا خاصا بالبحث العقدي، اهتم بها وبالبحث فيها مَن دَوَّن في الملل والنحل.
وإذا كان من أدبيات البحث العلمي احترام أفكار المؤلف وعدم التصرف فيها بما قد يخرجها عن قصدها وينحرف بها عن مغزاها فإن الأمر يصبح أكثر خطرا وتعقيدا عندما يتم التلاعب بكلامه لتصفية حسابات راجعة إلى معارك عقدية أو فقهية عن طريق الممارسة التأويلية غير المنضبطة والتي قلَّ ما تسلم من تأثير المرجعية الإيديولوجية والنفسية للمؤول، كما وقع مع رسالة ابن أبي زيد القيرواني وإبانة أبي الحسن الأشعري.
جناية الشراح على مقاصد المؤلفين: رسالة القيرواني وإبانة الأشعري
لا يخفى على كل مهتم بالتراث الفقهي المالكي بالغرب الإسلامي ما حظيت به رسالة ابن أبي زيد القيرواني من احتفاء علمي، فقد ترجمها المستشرقون إلى الفرنسية والإنجليزية، وانكبت عليها الشروح المغربية والمشرقية، ولكن الأهم من ذلك والجدير بالذكر أن الأبواب الفقهية في الرسالة لا تطرح إشكالا على مستوى الشرح بقدر ما تطرحه القضايا العقدية نظرا لما قررناه آنفا في أن الحق في العقيدة لا يتعدد، فقد تضاربت الآراء في شرح كل كلمة في المقدمة العقدية بشكل دقيق بحيث قد يؤثر حرف الجر المستعمل من طرف المؤلف في توجيه كلامه وتحريف مساره.
ومن أمثلة ما استشكل على المؤلف في هذا السياق قوله: "وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه" لماذا قال فوق ولم يقل على؟؟ ولماذا قيد المعية بالعلم؟؟ وغيرها من التساؤلات التي استشكلها الشراح بحسب مرجعياتهم.
بل وحتى قاعدة الإمام مالك في الصفات التي يفترض أن توحد الكلمة والصف لم تكف فرق أهل السنة هذا الاختلاف ولم تسلم هي نفسها من التأويل.
وإذا ما تركنا الكلام جانبا عن رسالة القيرواني وانتقلنا إلى إبانة الأشعري فإن أول ما يعترضنا قبل إشكال التأويل هو ما أُريد له أن يكون إشكال نسبة الكتاب إلى صاحبه، ثم بعد التدقيق والتحقيق وحل الإشكال الأول يأتي إشكال تأويل الإشكال، أي تأويل نسبة الكتاب إلى صاحبه وتقييده زمنيا بأنه من أوائل ما أُلف ثم نُسخت أفكاره بآخر ما أُلف، وهذا تقول عن المؤلف إذا لم يكن مصحوبا بقرائن وأدلة علمية تؤكد هذا الادعاء.
وفي الختام نؤكد على أن الغرض من هذا المقال ليس هو التحيز لاتجاه عقدي على حساب آخر بقدر ما هو تمحيص وتدقيق في أعمال الشروح ومدى احترام أصحابها لضوابط وأمانة البحث العلمي، خاصة في الدرس العقدي وفهم الكتاب في ضوء مقاصد مؤلفه. وعدم التكلف في التأويل والانحياز وراء العصبيات الجغرافية في قراءتنا للتراث الإسلامي، إيمانا منا بأن العمل على رفع الخلاف بين الفرق العقدية هي محاولة محكوم عليها بالفشل، إنما المطلوب هو التأصيل لفقه تدبير هذا الاختلاف.