بينما أجالس المنفلوطي عبر"نظراته" التي جالت بي عباراتها في جنان فيحاء من لغتنا العربية، إذ داهمتني عَبرة ثم عبرات تبكي حال اللسان العربي، فجالت بخاطري أسئلة تستكشف الواقع المرير، وتستحضر الماضي السليب وتستشرف المستقبل المأمول، فلفظت تلك الأسئلة فارعوت وانزوت لتترك القلم يعبر عن مظاهر يندى لها الجبين في الجو البارد.
نعم، لقد سمعنا ونسمع عبر وسائل الإعلام عربية لا تكاد تحمل من العربية الفصحى إلا الحرف الذي لو استقدم من أمره ما استدبر ما خرج من فَي هؤلاء المتكلمين مع استثناء ثلة قليلة، تعرف للعربية قدرها، وتضبط بالنحو السليم كلامها، وتنتقي من المعجم العربي ما يسعفها، دون تقعر في الكلام أو تعال في العبارة.
ألم تسمع المتكلم أو الإعلامي ينصب المرفوع ويرفع المنصوب، ولو كان بين العرب الأول لنصبوا له نصبا يرفعونه عن بيئتهم، فلا مكان للحن الجلي عندهم، ففساد لسان واحد يورث ضعفا في لسان الآخرين وينقل إليهم عدوى اللحن، بل يعتادونه وتتلقفه ألسنتهم فما يفتأ الزمن يتطاول حتى يصبح اللحن أمرا معتادا لا تمجه الأسماع ولا ترده الطباع، بل تستهجن الصواب وتحسبه لحنا.
ولعل حال الأمة اليوم قد وصل إلى هذا المنعرج الخطير، فلا تجد إلا نزرا يسيرا من الناس يهتم بإصلاح لسانه العربي ويسعى إلى إبلاغه ما يستحق من الفصاحة.
قد يقول قائل، إن العربية بخير ويستدل علينا بكثرة المتكلمين بهذا اللسان عبر العالم إذ كثير من الإحصائيات العالمية تبوئ العربية مكانا عليا بين لغات العالم، أقول: هذا أمر لا نملك إلا التسليم به، لكن لابد من التفرقة بين التكلم باللسان العربي وبين إتقان اللسان وضبط قواعده.
قد يجد أحدنا عذرا لكثير من الفئات المتكلمة بالعربية رغم أن هذا العذر لا يعفيهم من بذل الوسع لتقويم اللسان، لكنه لا يجد أي عذر لطالب باحث متخصص في الدراسات العربية أو الإسلامية حين يلحن كل اللحن جليه وخفيه في مداخلة من عشر دقائق، أو حين يكتب مقالا من صفحات فتجد ما يتصبب منه الجبين عرقا وما يتقلب بسببه المرء ليلا أرقا.
إنها والله أزمة كبيرة أن نجد لسان قوم مبتذلا كل هذا الابتذال من طائفة من أهله، فلا لسانهم أصلحوا ولا تركوا غيرهم ينجو من اللحن، بل رسموا طريقا ووضعوا سياسات تعلمية لا يترتب عنها في الأغلب إلا لسان منفك عن قواعده بعيد عن الفصاحة، وما إجراءات إدخال الدارجة في التعليم إلا إجراء من هذه الإجراءات الظالم أهلها، أضف إلى ذلك قضية تدريس المواد العلمية في المغرب بلغة أجنبية وكأن العربية ليست قادرة على ذلك، وما ذلك إلا لضعف الإرادة العامة في جعلها لغة العلم، ولن تقصر اللغة في ذلك بل إن ثراءها وغناها كفيل بتجاوز ذلك وإعطائه حقه ومستحقه.
إنك أيها القارئ الكريم، تتساءل عن أسباب أزمة اللغة العربية وعن الحلول الكفيلة بتبويئها المكانة اللائقة بها، لن يسعفك هذا المقال بذلك، فلعل مقالات أخرى تروم ذلك وتتغياه.
وعليه، فلا أملك في الختام إلا أن أقول بلسان الواثق أيما وثوق في صلاحية العربية لكل زمان ومكان ولكن علم وفن وما أيام الأندلس وازدهار تعليم العربية وتدريس العلوم بها عنا ببعيد، فهيهات هيهات أن تخبو العربية وهي لسان القرآن الذي يستلزم حفظه بقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر : 9] يستلزم حفظ اللغة العربية والحفاظ على أمنها، لكن دائما في إطار اتباع الأسباب الكفيلة بذلك.