لماذا يتعيّن على الشباب تشكيل الخارطة الفكريّة الخاصّة بهم؟ وما هي النماذج الفكريّة المتأصلة في الفكر الإسلامي التي تدفع بالوعي الحضاري؟ وكيف تُحرّك التشكلاتُ الفكرية العميقة الواقع السياسي وتنطلق به من مستوى "التصوّرات" إلى "الممارسات" في الواقع؟ للإجابة على هاته التساؤلات وغيرها استضاف عمران الحضارة بالشراكة مع منتدى كوالالمبور الأستاذ عمر قرقماز الكاتب والمفكر والمحلل السياسي التركي وكبير مستشاري رئيس الوزراء التركي السابق في برنامج ساعة فكر في جلسة بعنوان “البناء الفكري في صعود الدول وآفاق التغيير الراشد في العالم الإسلامي: تركيا أنموذجا” وذلك يوم الخميس 21 يناير 2021 وقد أدار الحوار الأستاذ شمس الدين حميود، فيما يلي نص الحوار كاملا.

قبل أن نتوجه صوب موضوع اليوم ولبه، في البداية نريد من ضيفنا الكريم أن يعطينا نبذة عن نفسه فمن هو د. عمر قرقماز؟ 

  السؤال صعب جدا فليس من السهل أن يتكلم الشخص عن نفسه لكني سأذكر سيرة ذاتية:

أنا اسمي عمر قرقماز ومعروف لدى الشباب بعمر فاروق قرقماز، ولدت في مدينة إسبرطة مدينة قريبة من مدينة أنطاليا الساحلية لذلك في بعض الأحيان أقول مازحا: أنا من أحفاد أرسطو لأن أرسطو كان من إسبرطة وربما لم تكن نفس إسبرطة لكن تلك "الإسبارطة" كانت مدينة يونانية قديمة أيضا، لذلك عندما أقول من أحفاد أرسطو أي أنه كان فيلسوفا، فأنا من أحفاده لكني مسلم أما هو فلم يكن مسلما ولم يعرف عن الإسلام شيئا.

ترعرعت في إسطنبول، فقد أتيت إليها عام 1970 ودرست هناك في معهد شرعي والذي تخرج منه كثير من القيادات الفكرية والسياسية منهم أردوغان وبعض القيادات الموجودة في الوزارات الآن وفي البرلمان، وبعد التخرج من المعهد الشرعي ذهبت إلى باكستان ودرست في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، كانت دراستي هناك دراسات إسلامية (أصول الدين) وكان لدينا في الحقيقة أساتذة ممتازون جدا جدا، لأن الذين كانوا يختارون هؤلاء النخبة من الأساتذة كانوا مخلصين للإسلام وللدين وللوطن وللأمة، وبالتالي أنا لابد أن أذكر اسم هؤلاء الأولياء إن صح التعبير: د.أحمد غسان ود.حسان الشافعي، في الحقيقة هما اللذان كانا يختاران الأستاذة الذين يأتون من مصر، وأيضا أساتذتنا من باكستان كانوا ممتازين واستفدنا منهم كثيرا.

بعد أن تخرجت من كلية أصول الدين، بدأت ماجستير في أصول الدين تخصص أديان، وفي هذه المرحلة درست مواد إسلامية مع بعض المواد التي لا تُدرس في المنطقة العربية مثل الدراسات الإقليمية، فقد كنت أدرس تخصص الأديان وأدرس الدراسات الإقليمية في نفس الوقت. أما لغة الدراسة في الماجستير فقد كانت 60% باللغة الإنجليزية و40% باللغة العربية وفي الليسانس عكس ذلك فقد كانت 60% باللغة العربية و40% باللغة الإنجليزية.

درست أيضا دساتير الدول مثل الدستور الأمريكي والدستور الروسي ودساتير أخرى، كل هذا أعطاني آفاقا جديدة، بالإضافة إلى بعض الاتجاهات الأساسية في العالم والأديان درسناها كلها تقريبا. ودرسنا علم الكلام بشكل تفصيلي، كما درسنا التفسير والحديث. كل هذا كان منهجا وضعه حسن الشافعي حفظه الله وأطال عمره، وقد كان مصري الأصل ورجل أمة بنفسه. 

درست البيان السياسي لكارل ماركس باللغة الإنجليزية وبعدها درست العقيدة وعلم الكلام وهذه الاتجاهات الجديدة أعطتني آفاقا جديدة.. لماذا نقول هذا الكلام؟ كثير من الناس يسأل كيف تكونت شخصيتك؟ فأقول لهم الشخصية ليست معجونا يتكون خلال شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، هذه كلها مسيرة حياتي دَخَلت فيها تجارب عديدة وكثيرة.

وهناك نقطة لابد أن أذكرها: قبل أن أسافر إلى باكستان كنت عضوا في الحركة الطلابية وفي باكستان أيضا لم أستطع أن أهرب من هاته التجربة فبقيت جزءا منها أي الحركة الطلابية، وأنهيت رسالة الماجستير وكتبت الرسالة عن مكانة المرأة النصرانية في الإسلام.

وتخرجت سنة 1992 ومنذ ذلك الوقت وأنا أهتم بموضوع النساء والأخوات وطبعا الشباب، وكنت دائما ألتقي ببعض القيادات الطلابية خاصة، وكان يأتي إلينا بعض الأساتذة من "الإفسو" وهي حركة طلابية عالمية لا تنتمي إلى أي دولة، وكنت أقول والله لو كنت يوما رئيسا لهذه المنظمة سأفعل كذا وأفعل كذا، وقدر لي يوما من الأيام وأصبحت رئيسا لهذه المنظمة العالمية وكانت مهمة صعبة لأن في تلك الفترة كانت تركيا تشهد مداخلة عسكرية (شبه انقلاب عسكري) وكنت مستشارا لأربكان في نفس الوقت والأيام كانت صعبة جدا بالنسبة لنا.

وفي نفس الوقت كنت أستاذا في الجامعة ومستشارا لدى رئاسة الوزراء وكانت لي مهمات كثيرة، وبعد هذه المداخلة العسكرية دخلت إلى السجن لفترة وجيزة، ومن إحدى الاتهامات التي وجهت لي هي من أنا!؟ فقد كانت لي ارتباطات كثيرة، فقلت أنا العبد الفقير أحب أن أكون يوما من الأيام وزيرا للخارجية لذلك أنا أرتبط بالعالم وأشكل أرضية على المدى البعيد.. هكذا كانت التحقيقات الأمنية في المخفر.

على كل حال هذه المرحلة تجاوزناها، والحمد لله فهؤلاء الذين كانوا يخافون منا ويتهموننا بأشياء كثيرة وكانوا يقولون "قضينا عليهم ولن يكون لهم دور على مدى الألف سنة القادمة وبعد ألف سنة قد يعودون أو لا يعودون".. كما كانوا يقولون بطريقة أخرى: "قتلنا أربكان ودفناه ووضعنا عليه الإسمنت ولا يستطيع الخروج منها على الأقل لألف سنة قادمة" يقصدون مدرسته الفكرية. 

لكن بعد أربع سنوات تقريبا أو خمس سنوات نبت غصن جديد من هذه الحركة وغير المعادلة كلها في تركيا، أما الذين قاموا بتلك المداخلة العسكرية (شبه انقلاب عسكري) منهم من سجن ومنهم من هرب من تركيا لكن بقيت تركيا هي تركيا وبقينا نحن في هذا الوطن، فنحن وطنيون ولسنا قوميين ولن نترك هذا الوطن مهما كانت الظروف، نحب الوطن ونحب الأمة الإسلامية.

فنحن نعتقد أنه كلما قويت إمكانياتنا في هذا الوطن فهي مصلحة للأمة الإسلامية حيث ما وجدوا سواء كانوا في بورما أو في أفغانستان أو في الجزائر أو في أي بقعة على الأرض، لذلك أي مسلم ينمو وينهض في أي مكان نحن فورا نمد يدنا إليهم ونقول لهم تعالوا يا إخوتنا نتعاون فيما بيننا، إذا كان لديكم ما تتقدموا به علينا أفيدونا وإن كان عندنا شيء نتقدم به عليكم خذوه منا، هذه نظرية أساسية ربما ندخل فيما بعد في تفاصيلها.

أريد أن أسأل د.عمر عن الذي شكل خارطتكم الفكرية من الداخل التركي ومن الخارج الإسلامي وحتى الغربي؟

  لا شك أن لدينا مفكرين أتراكا وقد ساهموا كثيرا في الفكر الإسلامي المعاصر مثل علماء الشريعة ومشايخ الصوفية وكلهم ساهموا في هذا الإطار، لكن لابد أن نعترف بشيء مهم جدا وهو أنه في الخمسينات لم تكن لدينا أدبيات كثيرة عن الفكر الإسلامي المعاصر، ولم نعرف شيئا عن المنطقة العربية فقد كنا مشغولين بقضايانا الداخلية، تركيا كانت شبه مغلقة للعالم العربي والإسلامي وهذا كان مقصودا ومتعمدا في الحقيقة، أن تقطع تركيا علاقتها مع العرب وتنظم إلى المعسكر الغربي وتبقى هناك ولا تعود إلى العرب مرة أخرى أو إلى المسلمين، لأن تركيا إذا عادت مرة أخرى إلى المسلمين وإلى العرب لهو أمر خطير بالنسبة لبعض الأطراف السياسية والدولية وما إلى ذلك، لذلك هم فعلا اشتغلوا جيدا وغيروا النسيج الفكري الاجتماعي في تركيا، وغيروا لغتنا، وغيروا أدبياتنا وكتبنا وكل شيء، يعني خرجنا بعد الخمسينات عراة من الفكر الإسلامي تقريبا.

حركة الترجمة ودورها في فك عزلة تركيا الفكرية 

خلال هذه الفترة بدأت تدخل بعض الترجمات باللغة التركية فتعرفنا أولا على كتب حسن البنا وسيد قطب، وبمرور الزمن تعرفنا على كتب من اللغة الأردية للأستاذ المودودي، وأبي الحسن علي الأدبي وفيما بعد تعرفنا على كتب الأستاذ مالك بن نبي، وتعرفنا على كتب مصطفى السباعي وبدأت تترجم الكتب الأساسية مثل صحيح البخاري والكتب العقائدية والفكرية، وبدأنا ندرك بأن هناك تراثا لنا لا بد أن نقرأه وكلما قرأنا أحببناه كثيرا، وبدأنا نتعلم اللغة العربية وكثير من الشباب ذهبوا إلى المنطقة العربية فمنهم من ذهب إلى مصر وسوريا والسعودية ورجعوا وشاركوا في حركة الترجمة. 

حركة الترجمة أفادت كثيرا الفكر الإسلامي المعاصر في تركيا لكن في نفس الوقت أثرت سلبا أيضا، ربما نسبة الفائدة كانت 80% وتأثيرها السلبي أقل من 20%، لكن لماذا؟ في بعض الأحيان المشاكل الموجودة في تلك المنطقة كانت موجودة في تلك الكتب وهذه الكتب عندما ترجمت للغة التركية نقلنا هذه التجربة برمتها.

بدأنا نناقش مثلا بعض القضايا الموجودة في مصر وفي باكستان وفي بلدان أخرى مثل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وما إلى ذلك، كنا نناقش أشياء كثيرة، لكن الأستاذ أربكان -رحمه الله- علمنا أن هذه المناقشات بيزنطية كما يقول العرب، ولا تفيد شيئا في الحركة الاجتماعية والحركة السياسية والحركة الفكرية والحركة العلمية وأبعدنا تماما عن هذه المشاكل. 

في الثمانينات تقريبا كانت هناك حركة طلابية متصارعة مع بعضها يسارية يمينية لكن الإسلاميين لم يدخلوا في هذه الصراعات المحلية إن صح التعبير هي حرب أهلية فقد كان وراءها ما وراءها وفهمنا الموضوع فيما بعد كما فهمنا الأحداث الأخرى في بلدان أخرى، وفهمنا أن نفس المصدر ونفس المرجع كان يروج لهذه الأحداث حتى يكون هناك انقلاب عسكري.

المهم أربكان حافظ على الشباب، وهذا الموقف الذي كان قد اتخذه منذ ذلك اليوم إلى أن توفي -رحمه الله- أفاد كثيرا الدولة وأفاد أيضا المجتمع والشباب الذين لم يدخلوا في هذه الصراعات الداخلية، ففي الجامعات كلهم درسوا بشكل جيد وتخرجوا ودرسوا الماجستير والدكتوراه ولا يهمهم من يحكم، لكن الذين كانوا يدخلون في صراعات محلية أو دوامات محلية لا فائدة منها هولاء كلهم منهم من اضطر لأن يترك الجامعة ومنهم من لم يترب بشكل جيد، وبالتالي العمل الإسلامي أو الشباب الإسلامي بهذا قطع شوطا جيدا لا يقل عن بقية الاتجاهات الفكرية في تركيا في المستوى والعمق والإستراتيجية، لذلك كانت هناك صعوبة في أن يتنافس معنا بعض الناس من الأطراف الأخرى فلسفيا وفكريا وتاريخيا وحركيا.

دكتور عمر، أحسبك وأنت ذكرت لي في دراستك للأديان أنكم اطلعتم على كثير من الفلسفات والأفكار التي سادت في العالم ومنها في أوروبا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وهذا كان أثره جليا وواضحا ومفيدا فلمن قرأ د.عمر على المستوى العالمي؟

  يعني في مرحلة الماجستير درسنا بعض الأشياء وفي مرحلة الدكتوراه تعمقت أكثر في الفكر الإنساني المعاصر، لا أقول في الفكر الإسلامي المعاصر لأن الفكر الإسلامي المعاصر لا يتطور ولا يتقدم إلا إذا قرأ وقارن مع ما هو موجود عند الآخرين، أو تطور مستواه من خلال تجربة الآخرين كما أنتم تفعلون الآن. 

في مرحلة الدكتوراه أيضا قرأنا كثيرا عن الفكر الغربي خاصة الشخصيات الرمزية لدى الغرب، وتجربة الفاتيكان كانت بالنسبة لي مهمة جدا كإدارة دينية وكيف أنها وحدت الكاثوليك في العالم. ودرسنا أيضا شيئا من إدارة أردوثوكسية وكيف أنها أيضا وحدت الأرثوذكس نوعا ما. كما درسنا أهمية إسطنبول عند الأرثودكس ودرسناه بشكل تفصيلي، والصراعات الموجودة بين أتباع الأديان، ومن الذي يشعل النيران بين أتباع الأديان وما إلى ذلك. أما عن تجربتي في مرحلة الدكتوراه فالمواد الدراسية في مرحلة الدكتوراه كانت ممتازة.

وأيضا درسنا مادة أذكرها لكم كفائدة ولن أنسى هذا الموضوع فهو مهم جدا وهو أن الفاتيكان في فترة من الفترات أرسل رسالة لجميع القساوسة يسأل في هذه الرسائل كيف نتعامل مع المسلمين؟ ومن هولاء القساوسة تقريبا اختيرت 150 رسالة من هذه الرسائل وكانوا قد قدموا فيها أطروحة واضحة جدا عن كيفية التعامل مع المسلمين، بمعنى آخر كما تقولون أنتم في العربية "كيف يؤكل الكتف مع المسلمين" يعني، فعلا هذا الكتاب كان مهما جدا بالنسبة لي، وكيف أنهم اهتموا بتراثنا وكيف أدركوا واستدركوا ودخلوا في تفاصيل ثقافتنا وطوروا الفكر وطريقة التعامل مع المسلمين. 

الاستغراب في مواجهة الاستشراق

لذلك عندما يأتي المسيحي الذي تتلمذ على هذا الكتاب أو قرأ هذا الكتاب لا يشتم الإسلام ولا يشتم محمدا ولا ينكر التاريخ الإسلامي، له باب آخر لأن لديه خارطة الطريق، لذلك لا بد أن نتعلم من هذه التجربة على الأقل، التجربة التي أنصحها لكم أنتم كحركة شبابية أنتم الشباب خاصة من في الجامعات أو يهتم بالتراث والثقافة لابد لكم أن تؤسسوا في بلادكم مراكز للاستغراب. هم أسسوا الاستشراق وتعلموا منا والآن حان الوقت -بل تأخرنا- لنؤسس مراكز للاستغراب، وندرس الثقافة الغربية بشكل دقيق، فالشباب من أهل المغاربة الجزائر المغرب تونس وموريتانيا وليبيا نوعا ما لديكم لغة فرنسية ولغة إنجليزية تستطيعون أن تؤسسوا مراكز للاستغراب وتتابعون الثقافة الغربية من رموزهم مباشرة بلغة الرموز.

وليس هذا غريبا عليكم مثلا طه عبدالرحمن المغربي فهذا ما فعله وغيره من المفكرين أيضا يفعلون، وأنا تشرفت كثيرا في إحدى المخيمات الفلسفية التي استمرت عشرة أيام في إحدى الفنادق في إسطنبول ورغم أني لست فيلسوفا لكن ربما حبا للأتراك أدخلوني بين هؤلاء الأفذاذ أو هؤلاء القيادات الفلسفية منهم كان طه عبد الرحمن، وقد كان يختلف عن بقية الأساتذة أمثال أبو يعرب المرزوقي وغيره كل هؤلاء كانوا في نفس المستوى وكانت هناك شجارات عنيفة، أنتم تعرفون أن الفيلسوف إذا التقى فيلسوفين يؤسسون ثلاثة أحزاب سياسية.

فالذي أقصد أن كل فيلسوف لديه خبرة وتجربة وتصور وكان الأستاذ عبدالرحمن ينظر إلى الحضارة الغربية باستعلاء كبير، يعني من خلال الفلسفة القرآنية فكان الآخرون يقولون له نحن نؤيدك يا أستاذ ونحبك لكن أنت أيضا درست في المدرسة الفكرية الغربية! كنت في فرنسا لماذا تفعل هكذا!؟ هذا لا يليق بك أنت إنسان مسلم ومعتدل والأفضل أن تعترف بالمساهمة الغربية فيما تشكل عندك! 

فكان يرد عليهم: الفرق بيني وبينكم هو أنكم دخلتم في قصر الفلسفة الغربية وتجولتم في غرفها وانبهرتم وبقيتم فيها وما زلتم فيها! أما أنا دخلت في قصر الفلسفة الغربية وتجولت فيها واستفدت منها وخرجت منها، الآن أنا أنظر من السطح إليكم وإليهم جميعا هذا هو الفرق بيني وبينكم.

د.عمر آخر سؤال قبل أن نعرج على موضوعنا الرئيسي اليوم، "القنطرة: الأصول العمرية في تعليم اللغة العربية" صدر لكم سنة 2017 ما هي قصته؟ وهل تنوون إصدار مؤلف آخر مع العلم أنكم كتبتم عشرات المقالات، فهل من جمع لها في كتاب؟

  أولا عندي تقصير في الكتابة أنا أسمي نفسي أبا الكلام لا أبا القلم، بمعنى أنني أتحدث أكثر مما أكتب وهذا خلل في الفكر الإنساني، لابد أن أكتب وأركز على الكتابة لكني أدركت أن شعبي (الشعب التركي) بشكل عام يحبون اللغة العربية ويحبون الثقافة الإسلامية ويحبون أن يدرسوا الثقافة الإسلامية باللغة العربية لكن هناك عوائق كبيرة أمامهم منها اللغة العربية، ولكن الآن هناك كتب كثيرة والحمد لله بعد أن ألفت كتابا وقبله أيضا.

خلال العشر سنوات أو العشرين سنة الأخيرة تقريبا تطورت المناهج الدراسية بالعربية أكثر مما كنت متوقعا لكن مع ذلك لي تجربة شخصية في تعلم اللغة العربية حيث أنني عانيت كثيرا في تعلم هذه اللغة، تصور أنني درست سبع سنوات اللغة العربية في معهد وما كنت أعرف ما معنى "تفضل"! هذا ظلم على الإنسان لذلك كنت أقول أن الأتراك من كثر حبهم للغة العربية كرهوا الشعب التركي في أن يتعلم هذه اللغة. طبعا هذا مزاح لكنه واقع، فعلا الأتراك يحبون اللغة العربية أكثر مما تتصورون، وهناك جهات تقدس اللغة العربية إلى حد كبير، فقبل أن نختلط مع العرب كثيرا مثلا في السبعينات كانوا إذا وجدوا غلاف سيجارة مكتوب عليه بحروف عربية يظنونه قرآنا فكانوا يقبلونه ويضعونه على الجدار! إلى هذه الدرجة كان لديهم حب للغة العربية لكن لم نستطع أن نطور منهجا سليما سريعا في تدريس اللغة العربية للأسف، الآن هناك تحسن كبير وأفضل مما كنا عليه، لدينا الآن ضيوف كرام من المنطقة العربية ربما أكثر من 5 آلاف من الجزائريين والعراقيين والمصريين واليمنيين ربما الكل يظن أنهم فقط سوريون لا طبعا ضيوف كثيرة يعني الحمد لله الأمة الإسلامية رجعت إلى عاصمتها من جديد.

أبو يعرب المرزوقي أستاذنا الجليل -حفظه الله- كان يقول إذا سألوني ما هي الكرامة أو المعجزة في هذا القرن لقلت عودة المسلمين إلى إسطنبول من جديد، فعلا تجد كل التيارات الفكرية والإثنية والقومية والإسلامية موجودة الآن في إسطنبول ويتعايشون في ظل الحكومة القائمة بكل حرية ولا أحد يتدخل في شؤون الآخر، وأيضا لا يتصارعون كما كانوا يتصارعون في الخارج، وهذا دليل على أنه إذا وجدت بيئة مسالمة وجيدة فإن الفكر يتقدم أكثر ولا يكون هناك تشنج في مواقفنا الشخصية أو الفكرية.

بالنسبة لكتاب "القنطرة" كتبت فيه ميزة واحدة ربما أو فيه مميزات كثيرة ولكن هناك ميزة واحدة أذكرها، هذا الكتاب كتبه تركي بصيغة عربية بتجربة شخصية وصححه عرب، بمعنى آخر لا يوجد هناك عُجم في الكتاب يعني الكتابة. 

ثانيا، ألغيت في الجزء الأول كل ما لا يفعله العرب في أولادهم ويفعله الأتراك في تدريس اللغة العربية لأولادهم، ما معنى هذا الكلام؟ يعني أنك عندما تُدرس ابنك في مرحلة الابتدائية في السنة الأولى والسنة الثانية قد تكون في السنة الثالثة في المنطقة العربية لم أسمع أن الأولاد يقولون للنساء "أنتن يا نساء"! "أنتن يا أيتها الأخوات"! كل هذا ألغيته إلى أن يتعلم ويتذوق الطالب اللغة العربية بشكل جيد بعد ذلك في الجزء الثاني والثالث دخلت قليلا في صيغ مختلفة في الصرف ولم أذكر أي قاعدة صرفية أو نحوية، لأنني ألفت كتبا أخرى في الصرف والنحو بالعربية والتركية ولكن هذه الكتب لم يتم طباعتها.

إذا سألتني كم كتابا أظن بأنه ليس جيدا أن أذكر عدد الكتب، هي كثيرة وإذا الله سبحانه وتعالى أعطاني عمرا سيخرج شيء جيد، فقط كتب الإنجليزية التي ألفتها لتعلم اللغة الإنجليزية أكثر من عشرة مجلدات نحن نستخدمها للتدريس، وهناك سبب لتأليفي كتابا لتعليم اللغة الإنجليزية وهو أن ابني كان يدرس في مدرسة خاصة وكل الكتب مستوردة من جامعة أكسفورد، بعد ست سنوات اكتشفت أن ابني لا يعرف شيئا عن اللغة الإنجليزية، وهذا أغضبني كثيرا وشعرت بأنني مستعمر، لماذا أنا أدفع دائما نقودا لأكسفورد وابني لا يتعلم شيئا، فقلت له أنا سأبحث لك عن مَدرسة لا تدرس اللغة الإنجليزية ونقلت ابني إلى مدرسة أخرى لا تدرس اللغة الإنجليزية وقلت له سأكتب كتابك وستكون جيد جدا في اللغة الإنجليزية وفعلت ذلك وفعلا هو جيد في اللغة الإنجليزية.

أيضا لي قصة لطيفة هي أنني عندما كتبت بالإنجليزية وأمي -رحمها الله- كانت امرأة صالحة غير متعلمة ولكنها حكيمة جدا قالت لي يوما يا ابني أنا أرسلتك إلى باكستان للدراسات الإسلامية وأنت تعلمت الإسلام وكنت تقول لي أنك ستقوم بتدريس الفقه والحديث والدين والإسلام والآن أنت تكتب كتابا في اللغة الإنجليزية! (لغة الكفار بتعبيرها) وتكتب رسالة الدكتوراه غير الإسلامية بالزرادشتية! ما هذه الزرادشتية واللغة الإنجليزية؟ أنا أريد منك شيئا في خدمة الإسلام يا ابني. هذا الكلام في الحقيقة قهرني فأنهيت كتاب الإنجليزية وفورا ألفت كتابا وطبعت بالعربي ولم أطبع الإنجليزي. 

لكن ما زال يُدرس من هذا الكتاب، أيضا لم أطبع الزرادشتية ولم أناقش رسالة الدكتوراه في الزرادشتية، أنا أنهيت كل موادي الدراسية وكنت طالبا ناجحا في الدكتوراه ولكن لسبب ما لم أناقش رسالة الدكتوراه لأن أحد الإخوة نبهني فقال لي يا أستاذ أنت عندما تكتب عن الزرادشتية أنا متأكد من أنك ستكتب شيئا إيجابيا وإذا خرج أحد عن الإسلام ودخل في الزرادشتية فأنت المسؤول عن ذلك، ربما ليس هذا السبب لكن هذه أحد الأسباب المخفية ربما التي لا أدركها.

سيتحدث الدكتور عمر في مداخلته حول موضوع البناء الفكري ودوره في توضيح آفاق التغيير في الأمة ولكم أن تطرحوا أسئلتكم وسننقلها للدكتور. 

  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على رسولنا وآله وصحبه أجمعين أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الشباب في العالم يا شباب الأمة أولا يسرني جدا أن ألتقي بكم بقيادة شبابية جزائرية وأنتم بالعالم حيث ما وجدتم أنا أحييكم أنكم تقومون بعمل حضاري فكري إنساني، وهذا مطلوب في مرحلة الشباب وما سأقوله غالبا سأخاطب به الشباب فقط، طلب مني أن أتكلم عن تجربتي وإعطاء التوجيهات التي أراها صحيحة للشباب لكن في نفس الوقت الكلام للكبار وللآخرين إنما للشباب بالدرجة الأولى.

إخواني هناك حضارات كثيرة مؤثرة في الإنسانية مثل الحضارة الصينية والحضارة الهندوسية والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية، وهناك حضارات صغيرة اندثرت وما زالت تعاني مثل بعض الحضارات الموجودة في أمريكا اللاتينية وما إلى ذلك، لكن الحضارات المعروفة لدينا هي الحضارات التي ذكرتها آنفا. طيب هذه الحضارات تنطلق بمبادئ معينة بخلفية معينة يعني الحضارة اليونانية مثلا تهتم بالعقل والقوة وتعترف أن العقل والقوة هما الأساس، أما الحضارة الصينية تهتم بالعلم والثقافة والتراث وتحاول أن تحافظ عليها وتهتم بالعقل أيضا، أما الحضارة الهندوسية فتهتم بالروحانية أكثر وتهتم بالتربية الروحية بطريقتها الخاصة، أما الحضارة الإسلامية فتجمع كل هذه الخصائص الإيجابية في بوتقتها وبدأت تربي أجيالها وأبناءها في ضمن هذه البوتقة.

وكل ما نعرف أن الحضارة الإسلامية ورسولها محمد -عليه الصلاة والسلام- بدأ في مكة وكان البدء صعبا جدا لأن الأقارب لم يعترفوا به في البداية وعانى كثير منهم لكنه استهدف الشباب من البداية، والسؤال لماذا استهدف الشباب؟ إن كل الحضارات المتقدمة والكبيرة تستهدف الشباب حتى الجيوش المعاصرة لا تقبل العجائز، ما رأيت جيشا يقبل العجائز في الخدمة العسكرية مهما كان مثقفا وقويا إذا كان فوق الأربعين، بل يقولون له أنت اجلس في بيتك ستفيدنا بطريقة مختلفة، لكنهم يستهدفون الشباب لماذا؟ لأن الشباب فيهم طاقة وقوة فهم يستوعبون الجديد والتغيير بسرعة.

التغيير في التربية النبوية: اِنطلقَ من التعليم وتَوجّهَ إلى الشباب 

النبي عليه الصلاة والسلام أيضا بدأ مع الشباب، صحيح أنه قد كان هناك بعض الكبار لكن بدأ مع الشباب وانطلق معهم، وبعد أن وجد الطريق مسدودا حاول كثيرا في الطائف وفي مناطق أخرى وأرسل وفودا كما تعرفون، وكل هذه الأشياء لم تؤد المطلوب وبالتالي تقريبا بعد ثلاثة عشر سنة انتقل إلى يثرب التي كانت فيها تعددية إثنية وتعددية دينية وكان يفكر أنه يستطيع أن يعيش فيها ضمن هذه المجموعات الدينية والفكرية وفعلا هاجر إليها بأمر من الله سبحانه وتعالى طبعا.

انتقل إلى يثرب وكان فيها استقبال جيد وهو الذي أسس المبادئ الأساسية للتعايش ووضع دستور التعايش بين الإثنيات والأديان، هنا أشير إلى نقطة مهمة قد تلفت نظركم ربما هذا المصطلح لم أسمعه من غيري لذلك أنا أقول أن كل هذه الأمور أو التغيير يجب أن ينطلق من التعليم والتربية، هكذا فعل عليه الصلاة والسلام في مكة وجهز جيلا وغير كثيرا من المفاهيم والمصطلحات الأساسية. فمثلا مصطلح الحج كان موجودا في أيام الجاهلية، ومصطلح الصلاة كان موجودا أيضا قبل الإسلام لكن عندما أتى النبي عليه الصلاة والسلام لم يحارب هذه المصطلحات وإنما أعطاها بعدا جديدا، ما معنى الحج ثم علمهم معناه وما معنى الصلاة وعلمهم وأعطاهم بعدا جديدا وتغييرا جديدا والشباب كلهم استقبلوا هذه المصطلحات الجديدة وبالتالي رموز الجاهلية والقيادات السياسية في مكة كانوا ينزعجون منه لأنه يأتي بشيء جديد وتعريفات جديدة وبتعليمات جديدة، رغم أنهم في البداية كانوا يحترمونه ويحبونه ويصفونه بأنه رجل أمين ..إلخ، إلى الأربعين لم تكن هناك مشكلة بينه وبين قومه لكن بمرور الزمن شعروا أن هناك خطرا وأنه إذا استقوى هذا الرجل وكبرت جماعته وأتباعه، هذا سيسبب مشكلة إدارية وفنية وقومية مع أنه كان يقول إذا تمسكنا بهذا سوف نكبر لكن ما كانوا يصدقون، لأنه في ذلك الوقت لم يكن المجتمع العربي متعلما كما نعرفه اليوم، كان كل شيء مبنيا على الشعر والثقافة الشفهية.

لذلك من هذا المنطلق أنا أقُسّم التعليم يا شباب إلى قسمين. وهو كذلك أيضا في التعليم المعاصر فما هما هذان القسمان؟ التعليم المكي والتعليم المدني، لماذا سميته التعليم المكي والتعليم المدني؟ التعليم المكي له ظروف خاصة ومنهج خاص وتربية خاصة، فبعد أن دَرس الشباب الجدد الذين استقبلوا الإسلام ودخلوا في الإسلام بتربية خاصة مكية بعد أن انتقلوا إلى المدينة لم يخرج منهم أحد عن الإسلام ولم ينافقوا للمشروع الإسلامي أبدا، لكن بعد أن دخل بعض الناس في المرحلة المدنية في الإسلام وكانوا كبارا منهم من كان يكتب وحيا في بعض الأحيان مثل المغيرة وغيره خرجوا عن الإسلام بل حاربوا الإسلام في فترة من الفترات والرسول عليه الصلاة والسلام عفا عنهم في فتح مكة وأصبح شخصية عسكرية فيما بعد لكن أنا أقصد أن الذين دخلوا الإسلام في المدينة منهم من ارتد ومنهم من ترك الإسلام مع أنهم كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام. فالتعليم كما قلنا يجب أن ينقسم إلى قسمين مرحلة مكية ومرحلة مدنية، والمرحلة المكية هي الأساس.

المرحلة المكية مرحلة تأسيسية لا غنى عنها للراغبين في بناء مشروع حضاري جديد

في بعض البلدان العربية يسمون التعليم إلى آخر الثانوية التعليم الأساسي وهذا مصطلح صحيح، إذ لابد أن نركز في مرحلة التعليم الأساسي (من الابتدائي إلى المتوسط إلى آخر الثانوية)، بعد ذلك أطلق ابنك يذهب حيث يشاء، يذهب إلى المدينة أو نيويورك أو سريلانكا أو لندن لا مشكلة في ذلك، وسيبقى مسلما متمكنا لأنه أخذ تربية صحيحة في المرحلة الأساسية، أنا أركز على هذا الموضوع.

طيب ماذا ستعطي في المرحلة الأساسية؟ وماذا سنعطي في هذه المرحلة!؟ أريد أن أؤسس حضارة ثالثة، الحضارة الإسلامية الجديدة التي كانت تقدم شيئا كبيرا للإنسانية، هذه النقطة مهمة جدا جدا ولا بد أن نشير إليها بالتفصيل وبشكل واضح.

الرسول عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة في ذلك الوقت ركز على تغيير المفاهيم والمصطلحات فأعطى بعدا جديدا -كما ذكرت- للمصطلحات أي غَير الأذهان، اللغة العربية نفس اللغة والثقافة نفس الثقافة لكنه أعطى أبعادا جديدة وهذه الأبعاد الجديدة هي التي نقلت الشباب إلى بوتقة أخرى جديدة، وهذا كله كان تجهيزا لبناء الحضارة وبناء مشروع جديد.

فالذين يبحثون عن بناء مشروع جديد عليهم من الابتدائية بل من الحضانة إلى آخر الثانوية أن يتمسكوا بالمرحلة المكية، أرجع وأقول أكثر من مرة، ماذا سنعطي في هذه المرحلة؟ أهم شيء يا شباب اللغة العربية اللغة العربية.

والجزائريون لديهم تجربة عميقة أكثر مني فأول ما جاء المستعمرون إليهم حاربوا اللغة العربية ولذلك جعل بعض العلماء في تلك الفترة تعلم اللغة العربية واجبا، لأنك بدون اللغة لا شيء، فحاول المستعمر أن يمحي كل شيء من أذهان الشباب، التراث والحضارة والفكر والإسلام والحديث والفقه والقرآن. اللغة العربية حافظت على الثقافة العربية والإسلامية في المنطقة العربية نوعا ما، لكن في بلادنا نحن فقدنا اللغة التركية وفقدنا اللغة العربية فكانت تجربة مؤلمة أكثر مما حدث عندكم، إذن في المرحلة الثانوية (المكية):

أولا لا بد أن نركز على اللغة العربية، وأيضا أن نجعلها محبوبة ولا نجعل الطلاب يكرهون الصرف والنحو كما أنتم تعرفون، لابد أن نجعلها لغة محبوبة، أنا رأيت تجارب كثيرة رأيت طالبا أفريقيا لا يعرف شيئا عن اللغة العربية في جامعتنا في إسلام آباد بينما رأيت شبابا تركستانيين يأتون إلى جامعتنا الإسلامية في إسلام آباد وبعد ستة أشهر يتحدثون اللغة العربية ويكتبون بها، إذن إذا كان المنهج صحيحا لن يكره الطلاب هذه اللغة.

والغربيون أيضا يستخدمون وسائل كثيرة في تعليم لغتهم ونشرها في العالم، والآن بعض الأطراف العربية بدأوا يستفيدون من هذه التجربة، فالموسيقى مثلا لعبت دورا كبيرا في نشر اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وما إلى ذلك، يعني أن الموسيقى الهادفة مفيدة للأطفال الصغار سيفرحون كثيرا عندما يرددون الحروف الأبجدية العربية بطريقة النغم الموسيقي وبعض الأشعار، من الممكن أن لا يفهموا لكن العقل يخزنه تخزينا في أذهانهم وفي قلوبهم وعندما يتعلمون اللغة العربية يتذكرون، والله الأستاذ الفلاني هو الذي علمنا هذه الأشعار الهادفة والأشعار اللطيفة، ليس بالضرورة أن نشرح لهم بالتفصيل وهم صغار كما هو الأمر عندنا، حيث نرى أن بعض الطلاب الأتراك يحفظون القرآن بلا فهم وبعد أن كبروا ودرسوا في الجامعات الماجستير والدكتوراه يراجعون حفظهم وينقلون لك الآيات القرآنية من حفظهم ويترجمون بالحفظ، إذن الشيء الأول تعليم اللغة العربية، ثانيا  القرآن في المرحلة الأساسية، المرحلة المكية.

ثالثا تعليم الأدب والأخلاق والسلوكيات، فالتعلم قد يتم في أي مكان لكن تعلم السلوك والأخلاقيات لا يتم إلا في أجواء جيدة نظيفة في هذه المرحلة، وهذه النقطة مهمة جدا.

وأخيرا نركز على تعلم اللغة الأجنبية لكن في مرحلة متقدمة لا في المرحلة الأولى، لا في مرحلة ابتدائية ولا في مرحلة متوسطة، سوف يأتي البعض ويقول لك: الأطفال لن يتعلموا بعد أن كبروا! لا في المرحلة الثانوية لا تعتبر مرحلة كبيرة أنا تعلمت اللغة الإنجليزية واستطعت أن ألقي محاضرة بالإنجليزية بعد أن تخرجت من الثانوية، لأن اللغة هي جسر في نقل الثقافة والعادات والهيئات والتحركات للإنسان يمينا ويسارا فاللغة هكذا. أنا شخصيا عندما أتحدث بالعربية جسمي وكيميائي تختلف عن تحدثي باللغة الإنجليزية لأن اللغة لها حركات وتحركات خاصة.

ليس بالضرورة أن تكون اللغة الأجنبية لغة إنجليزية أو الفرنسية لكن احتياج البلد إلى لغة جديدة تحدده حاجات ذاك البلد، لا نستطيع أن نقول اليوم كل شيء بالإنجليزية ولا بد أن نتعلم الإنجليزية، قد تكون اللغة الإنجليزية اللغة الأجنبية الثانية أو الثالثة أو الرابعة لكن على حسب الحاجات، يعني إذا كانت الجزائر مثلا تريد أن تؤسس منشآت نووية تحتاج إلى شباب يعرفون اللغة الروسية، ولا تحتاج الإنجليزية وسيكون على الشباب الجزائري أن يذهب إلى روسيا وأن يتقن هذه اللغة، أو مثلا يريد أن يتقن الأدب الروسي والثقافة الروسية ويريد أن يترجم من الروسية إلى اللغة العربية يجب أن يتعلم الروسية، ومن يريد أن يتعلم الفلسفة ولغة الفلسفة لابد له أن يتعلم الألمانية مثلا، ومن يريد أن يتعلم الفن والأدب يحب أن يتعلم اللغة الفرنسية، أقصد أنه على حسب الحاجة نحدد اللغة الثانية والثالثة والرابعة، اللغة التركية أيضا جيدة لمن يجد الفرصة في أن يتعلمها إذن هذه النقاط مهمة جدا.

ونقطة أخرى لابد أن نقول للشباب نعم حضاريا كأبناء الحضارة الإسلامية فقد حدث شيء من التراجع وإن كان وضعنا أحسن من الكثير من البلدان ما عدا بريطانيا وأمريكا وفرنسا لكن وضعنا كمسلمين جميعا أفضل من كثير البلدان الموجودة في العالم، نعم هناك تراجع في الحضارة الإسلامية صدقوني نحن نستدرك رويدا رويدا كل الفوارق الموجودة بيننا وبينهم، أنا أتكلم عن التجربة التركية نحن نستدرك كل النواقص الموجودة عندنا حضاريا وقد نسبقهم على المدى القريب لذلك نحن نُحارب كثيرا.

فكلما تقدمت علميا وأدبيا لا يقولون لك ماشاء الله أنت تقدمت أنت رجل تقدمي أنت رجل مثقف وجامعتك دخلت بين الجامعات الخمسمائة والجامعة الفلانية في تركيا ترتيبها التاسعة والستين بين مائة جامعة في العالم! لا لا يقولون ذلك، لكن نحن الآن نعرف اللعبة ونتمنى أن تتغير هذه العقلية الغربية ونتعاون معهم في كل شيء، أنا دائما أحزن كمسلم وأقول أن الكثير من الغربيين يستحقون الإسلام أكثر من بعض المسلمين، هذا أقوله بقناعة إذ أن لديهم قابلية العيش كمسلمين، لكن هناك دعاية سلبية كثيرة مثل بعض التصرفات وبعض تدخلات المخابرات الدولية فهم يخافون من الإسلام والمسلمين.

أنا أقول للغربي أنت مسلم بـ 90 % أنت نظيف ومثقف وتحب والديك وتحب وطنك تحب كذا وكذا ... هل أنت تفعل هذه الأشياء كلها؟ يقول نعم، إذن هذه الأشياء إسلامية كلها، فيقول وماهي %10 أقول له شفرة فقط أنت لا تعرفها، فيقول ما هي هذه الشفرة؟ نقول: له لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذا عرفت أن تنطقها فأنت مسلم مثلنا لا فرق بيننا وبينكم.

هناك آية قرآنية يجب أن نتذكرها -هكذا فهمت الآية الكريمة لكن بعض المشائخ والعلماء قد يفسرون بطريقة مختلفة- الآية هي ((ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا))، هم يريدون أن يدخلوا في الإسلام ولكن بسبب تصرفاتنا وأخطائنا لا يدخلون في الإسلام. قد لا يكون هكذا التفسير لكن أنا فهمته هكذا وأشتغل على هذا المنوال، أهتم بالأقليات المسلمة وأهتم بالغربيين وأهتم بالاستغراب، طبعا لست وحدي فأنا عضو مجلس الأمناء للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذين لديهم اهتمام كبير بالأقليات المسلمة وشؤون المسلمين في الغرب وشؤون المهتدون الذين اهتدوا إلى الإسلام وهكذا.

إذن باختصار الشباب هم الأساس، الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم بالشباب في مرحلة أساسية (المكية)، وفي المرحلة المكية الدراسات الأساسية لا بد أن تكون متينة وصحيحة، لا نريد أي تلبيس في أذهان الشباب ولا نريد أية أفكار دخيلة، فقط نطلع على فلسفتهم قليلا ونطلع على المنطق الموجود عندهم قليلا، نطلع على تاريخهم لا بأس لكن الأساس في هذه المرحلة هو تراثنا الأصلي لابد أن نركز عليه.

أيها الطالب في المرحلة المكية كن مثل موقف الخضر مع موسى، الخضر كان يطلب من موسى أن يصمت ويسمع فقط أي يتعلم لكنه كان يستفسر كثيرا، لذلك أقول إن موقف الخضر في المرحلة المكية مهم جدا، فالطالب الجديد الصغير يتعلم حتى عندما يسأل للتعلم وليس للمناقشة، أنا أسميه موقف الخضر في المرحلة المكية، أما في المرحلة المدنية لابد للموقف أن يتغير في هاته المرحلة نريد موقف موسى وليس موقف الخضر، هنا الطالب يتحقق ويسأل عن الدليل يسأل عن الحجة ويناقش الأستاذ: لماذا أتيت هكذا ويدخل في مجال المتناقضات.

كل هذا يربي بشكل جيد. لكن إذا غيرنا المعادلة وجعلنا المرحلة الثانوية موقف موسى والمرحلة الجامعية موقف الخضر فإن موقف الخضر لا يربي قائدا ولا يربي شخصا متمردا، في المرحلة الجامعية علينا أن نتخذ موقف موسى الذي كان يسأل كثيرا ويستفسر كثيرا وإن لم نفعل ذلك فلن نستطيع تغيير الفساد في بلادنا ولا نستطيع تغيير الطغاة في العالم ولا نستطيع أن نتقدم حضاريا إلى الأمام، نريد موقف موسى للتغيير لكن دون مصادمة.

الخلاصة هي أن التجربة التركية جزء منها مما ذكرته لكن النقطة الأساسية في التجربة التركية للشباب في كل مكان هي أن المصادمة مع القوى الحاكمة ممنوعة في تجربتنا.. نعم، قد تسجن وقد تظلم ولكن وحدك، لكن إذا أخطأت في المجتمع قد يسجن المئات بسببك، قد تقتل أنت وحدك لكن إذا أخطأت في المجتمع قد يقتل بسببك العشرات والمئات بل الآلاف، فالمصادمة مع القوى الحاكمة ممنوعة في تجربتنا والاهتمام بالثقافة والدراسة مهم جدا حتى نهيئ الشباب ونقول لهم أنتم الذين ستحكمون في هذا البلد، أنتم الذين ستديرون قضايا الأمة الإسلامية في كل مكان، يا شباب أنتم مسلمون والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، أنتم مؤمنون يا شباب والمؤمن رجل أمين، هكذا يجب أن نربي الشباب وكما ذكرت أيضا أن نقسم الدراسة إلى مرحلة مكية ومدنية، هذا ما فعلناه في تركيا.

تنزيل الأفكار على أرض الواقع.. التجربة التركية أنموذجا

أيضا هذه الأفكار إذا لم تتحول إلى تشكيلات أو شيء منظم فإن إنزال هذه الأفكار على الواقع لن يتحقق وستبقى معلقة على الأجواء أجواء الوطن نقرأها كتراث لكن إذا أردنا إنزال هذه الأفكار على الواقع لابد من التشكيلات وإنشاء شبكة مع الجميع لكن نبقى وطنا. الكل، حتى الذين يخالفوننا نقول هذه المجموعة نعم نختلف معهم عقائديا وفكريا وفلسفيا لكن هؤلاء الشباب وطنيون يحبون الوطن ويحبون الإنسان وليسوا عدوا للإنسان ويحبون التعايش مع الأطراف الأخرى.

هذه الأفكار التي أتحدث عنها تعتبر جزءا من التجربة التركية لكن لم تكف هذه الأفكار وإنما أردنا إنزالها إلى أرض الواقع فدخلنا في السياسة في فترة من الفترات عن طريق البرلمان في ذلك الوقت ودخلنا في الإدارة المحلية وأخذنا بعض البلديات وقدمنا نماذج جيدة في البلديات، فالشعب هذه المرة وجد خدمة مختلفة وشبابا مختلفا وإدارة مختلفة، وبالتالي بدأوا يقتنعون بالمشاريع الموجودة في هذا الاتجاه وبمرور الزمن بدأوا يؤيدون الأحزاب السياسية التي كانت تمثل هذا الاتجاه.

لماذا لم أقل الحزب السياسي وقلت الأحزاب السياسية؟ لأن الأحزاب السياسية التي أسسناها في بلدنا أغلقت عدة مرات وفي كل مرة لم نشعر بالهزيمة أبدا ولم نستسلم، مثلا حزب الرفاه كان فيه أربعة ملايين عضو يعني كان أكبر من الجيش التركي، وكانوا يتخوفون من إغلاق حزب الرفاه وفي اليوم الذي أغلق فيه حزب الرفاه الدكتور أربكان -رحمه الله- عمل مؤتمرا صحفيا وكان الناس ينتظرون ماذا سيقول أربكان هل سيقول يا شباب اخرجوا إلى الشوارع فقد أخذ حقنا منا بالقوة؟ لا لم يقل أي شيء من هذا وإنما قال أيها الشعب التركي إخواني وأخواتي يا شباب الحزب الكل يلتزم بيته، وكان الجنود مجهزين وعلى استعداد للقضاء على هذا الاتجاه بالكامل لكن د.أربكان لم يعطهم تلك الفرصة، أما ما حدث اليوم فهي نقطة بسيطة في مسيرتنا التاريخية هذا الذي حافظ على أردوغان هذا الذي حافظ عليّ وحافظ على أربكان وحافظ على جميع عناصر الحزب.

فعلا أغلق الحزب فقام الإخوة بتأسيس حزب جديد في البرلمان ولم يحدث أي صدام في الشارع، كان هناك جنرالان يشاهدان هذا الحدث -أي البيان الصحفي لأربكان- وكان أحدهم يقول أظن بأننا أخطأنا في حق هذا الرجل فهو يبدو إنسانا وطنيا ولا يريد تخريب وطنه، وكان الثاني يقول له أنت مخطئ هذا الرجل كبلنا ولا ندري كيف نتصرف معه هو يفكر في أبعاد أخرى.. وذكرنا لكم بداية اللقاء كيف أن الأمريكان كانوا يقولون "قتلنا أربكان ودفناه ووضعنا عليه الإسمنت ولا يستطيع أن يخرج هؤلاء في أقل من ألف سنة".. وبعض الجنرالات التركية قالوا أيضا أن هذا الوضع سيبقى ألف سنة.. في أقل من خمس سنوات يا شباب حتى جاء أردوغان وأسس حزب العدالة والتنمية وأيضا بعض الأخوة أسسوا حزبا آخر وفي أول انتخابات تغيرت المعادلة ولم يستمر الأمر ألف سنة كما كانوا يقولون، فقط خمس سنوات لكن استعينوا بالصبر والصلاة واستعينوا بالتمسك بالقوانين الموجودة في هذا البلد، تلك القوانين قد لا تعجبك وقد تختلف معها لكن إذا أردت أن تغير القانون حاول أن تغيره بالقانون.. هذه في ما يخص التجربة التركية باختصار.

أما في المرحلة المتقدمة هناك طبعا تجارب كثيرة حول النهضة التركية اقتصاديا وتكنولوجيا وعلميا وجغرافيا أيضا، نحن لدينا تصور واضح ولدينا مسؤولية تاريخية تجاه شعبنا، لدينا مسؤولية جغرافية تجاه أمتنا ولدينا مسؤولية إقليمية وأمنية إصلاحية في المنطقة. 

انتهى عهد الإمبراطوريات والسلطنة في تصورنا لن تأتي تركيا المعاصرة كما أتى أجدادنا إلى الجزائر وإن كان قد أتى الأتراك إلى الجزائر وتونس بطلب من أهل المنطقة خوفا من الصليبيين، نحن نعرف التاريخ جيدا، لن تكون هناك إمبراطوريات من جديد لكن لابد من التوافق والاجتماع في قضايا مشتركة.

والأستاذ أربكان من هذا المنطلق أسس مجموعة دول الثمانية منها تركيا ومصر وإيران وباكستان وبنجلاديش ونيجيريا، لماذا أسست هذه المجموعة الاقتصادية؟ حتى نغطي احتياجات بعضنا البعض، ولا أنسى أحد الصحفيين عندما قال لأربكان في تلك الفترة أنت أسست هذه المجموعة "D8" عنادا ضد مجموعة الدول الغنية "D7" بمعنى أنك أسست ناديا للفقراء.. أربكان مهندس ذكي يفهم المعاملات التجارية والاقتصادية، فقال لهم نحن أسسنا سوقا كبيرة جدا وقوة الاستهلاك أقوى دائما من قوة الإنتاج، نحن إذا رفضنا الاستهلاك، هذه الدول الغنية لن تستطيع أن تبيع لنا شيئا. لدينا قوة الاستهلاك.

لذلك على حسب اتفاقية مجموعة دول الثمانية، كانت ستُطور أسطول الطائرات لدول الثمانية، فأي دولة مثلا تحتاج إلى طائرة تشترى من هذا السوق، لكن في البداية اتفقوا على أن يتفاوض باسم الدول الثمانية مع الأمريكان شركات بوينج وغيرها أربكان وتركيا، بمعنى إذا كانت ماليزيا تحتاج إلى طائرات والشركات الأمريكية على علم بهذا الموضوع فعندما يتصلون بأي من هذه الدول في مجموعة الثمانية ويقولون لهم نحن على علم بأنكم تحتاجون الطائرات يردون عليهم لا نحن في مجموعة الدول الثمانية اذهبوا إلى أربكان واتفقوا معه فهو من يحدد الأسعار والسوق.

وإن كانت هناك ثلاثة أسباب لإسقاط حكومة أربكان في ذلك الوقت، إحداها هي تشكيل مجموعة دول الثمانية. طبعا الحمد لله نحن تجاوزنا كل هذه المراحل وأتى عهد أردوغان وتطورت تركيا كثيرا في مجالات كثيرة يعني الآن في داخل تركيا مثلا طرق السير أفضل بكثير من الدول الغربية وإمكانية الدولة المادية أصبحت أفضل من بعض الدول الغربية والإمكانيات الدفاعية أفضل بكثير من كثير من الدول الغربية والشرقية، نحن نعمل وسنعمل حتى يرى الله سبحانه وتعالى أعمالنا. بارك الله فيكم. 

مع التسليم بضرورة هذا التعليم بشقيه المكي والمدني وخصوصياته ومراحله وبالطبع مع مركزية معرفة ألف باء التعليم والفكر لكل من يسعى للإصلاح، هل نحن بحاجة لأدوات ومنهجيات مُواكبة لتحديات اليوم تراعي التدرج كما ذكرت وفي نفس الوقت تفكك وتحلل الأفكار الجديدة؟

  في مجال التعليم من الخطأ أن نقول على كل الشباب أن يصبحوا فقهاء في الدين أو مفسرين أو محدثين، لكن من الخطأ أيضا أن نهمل هذه التخصصات بأكملها، يعني جزء من الشباب خاصة الأذكياء لابد أن يتفقهوا في الدين ولو كانوا قلة لا إشكال في ذلك، أما الباقي فيمكن أن يدرسوا في تخصصات أخرى لأننا نتكلم عن نهضة إسلامية وحضارة إسلامية، والفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية هي تخصصات تحتاج إلى شباب عباقرة ومتميزين هذه نقطة أولى لكن من الخطأ أيضا أن نزج بكل الشباب المتميزين في دراستهم ونقول لهم لا بد أن تدرسوا الحديث والفقه، لا ليس كذلك، هناك فرق بين فرض العين وفرض الكفاية حتى ينزل الموضوع إلى فرض الكفاية، فروض العين يجب أن يتخصص فيها شباب في أي مجموعة أو في أي وطن. 

ثانيا، لا بد أن نتخصص ونركز على التعليم الأكاديمي، الماجستير والدكتوراه في العلوم الإنسانية خاصة وجزء منهم يمكن أن يتخصصوا حسب حاجة البلد، أيضا لا بد أن نراعي حاجة البلد، فمثلا هناك بلد صغير له دور ما في الأمة لكن ماشاء الله الأخ العزيز يتخصص في الطائرات الحربية، فهذا الأخ إما أن يخرج من بلده ويخدم الإنسان والأمة في بلد آخر أو يكون عاطلا في بلده، يجب أن نفهم هذه المعادلة. طيب في ماذا يفيد هذا البلد؟ لديه قابلية في ما ينقص الأمة في تخصصات كثيرة.

المغاربة مثلا لديهم اهتمام بالفكر الإنساني والمقاصد، نحن نغبطكم كثيرا في هذا المجال ما شاء الله فأنتم متقدمون في هذا الموضوع ونحن نستفيد منكم، إذن على حسب ظروف البلد وإمكانية البلد وإمكانية الشباب في تلك البلد، فالتعليم يجب أن يدار بطريقة استراتيجية وتجربتنا التاريخية ليست بقليل.

كثير من الناس يتكلمون عن التجربة الفلندية في التعليم، وقد درست التجربة الفلندية وهناك كتب ومنها المترجمة للتركية وتعمقنا فيها فأقول هذه التجربة لا تختلف كثيرا عن تجربة المدارس العتيقة في الجزائر وفي المغرب.

وفي هذه التجربة تكون الحرية كاملة للطالب فيختار ويدرس ما يريده ولا يجد أي ضغط أو أي التزام ولا يجد أي امتحان، فالطالب حر لذلك يحب الأستاذ لأنه لا يجبره على شيء وبمرور الزمن نجد الطالب البصير الفقير الذي يحضر في المدارس العتيقة بعد عشر سنوات يصبح عالما أفضل بكثير من الدكاترة في الجامعات الأمر غريب فعلا، فيمكن أن تنظم هذه الأمور بطريقة معاصرة إيجابية أكثر يعني لا أقول لا بد أن يصل الشباب إلى المدارس العتيقة ويدرسوا في المناطق البعيدة عن أسرهم، لا، لا أقصد ذلك لكن أقصد هذه التجربة يجب أن تطور لما هو موجود عندنا. 

وأيضا في الدولة العثمانية كانت هناك تجربة تسمى تجربة (أندرون) أسست في البداية لأبناء غير المسلمين حتى يدرسوا في سلك التعليم العثماني ليصبحوا موظفين وشخصيات كبيرة في الدولة خاصة من منطقة البلقان وغيرها، وفعلا أصبحوا يديرون الدولة إلى حد كبير بمرور الزمن وبعد نجاح هذه التجربة جعلوها للعامة وكانت تربية ناجحة والتعليم ناجح جدا، فماذا فعل بعض الناس الذين أسقطوا السلطان عبد الحميد في 1909؟ بعده بشهر أغلقوا كل هذه المدارس، لماذا؟ لأنها كانت جيدة تخرج قيادات فكرية وشخصيات بيروقراطية في الدولة.

أنا أقصد أن التقسيم الذي وضعته أمامكم مهم جدا لكن في المرحلة الثانوية لا نكتفي بالكتب الدراسية الموجودة في المدارس ولكن نضع كتبا إضافية للتربية والأخلاق والسلوك وكل هذه الأشياء لا تتم إلا للشخص الكبير، بمعنى أكبر من الطالب الذي يدرس في الثانوية أو المرحلة المتوسطة أو الابتدائية حتى يرى سلوك هذا الشخص فيقتدي به.

التنوع في التعليم وصناعة القائد

فالتعليم والتربية في بداية الطريق تبدأ بالتقليد والرؤية والتصور لكن في مرحلة جامعية لابد أن ننفتح على كتب كثيرة مثلا من الكتب التي لابد أن نقرأها (روجيه جارودي) الفرنسي هذا الرجل الذي أسلم في الجزائر وسبب إسلامه عدالة الجندي الجزائري الذي لم يطلق النار على بعض الناس، إذن هذه الكتب مهمة جدا وهناك كتب كثيرة، ففي مرحلة الجامعة اقرأوا ما تشاؤون لا تخافوا لكن إذا كان هناك توجيه أفضل، مثلا من لديه قابلية في العلوم الاجتماعية فليتصل بأستاذ علم الاجتماع ويستفيد منه ويستنصحه بما يفيده في علم الاجتماع، أو يتصل بأستاذ علم النفس ليستفيد منه أيضا، إذا كان لا يدرس في العلوم الشرعية يتصل بالفقيه يقول له أريد أن أتعلم مدخلا في الفقه الإسلامي أو مدخلا في أصول الفقه أو مدخلا في علم الحديث أو كذا من مداخل العلوم الإسلامية فقط، وبالتالي هذه العلوم ستفيده طوال حياته.

إذا لم يكن في ذهن الإنسان تنوع في التعليم أو التعلم لن ينجح في حل القضايا السياسية والاقتصادية والدولة، فهذه التراكمات كلها نعتبرها ضوءا في حل المشكلة، في الجدران يوجد ضوء علم فقه وعلم حديث وعلم اجتماع وعلم فلسفة ومنطق رياضيات.. كل هذه الأشياء وكل هذه الأضواء الموجودة في الغرفة تنير الغرفة بشكل أكبر، وبالتالي حل المشكلة سيكون أسهل.

فإذا كان رئيس الدولة مهندسا أو فيلسوفا أو فقيها كيف سيحل كل هذه المشاكل؟ هل درس كل هذه التخصصات؟ وهل لديه قابلية في إدارة الشعب بأكمله؟ لذلك الشباب هم الذين يصنعون المستقبل ويقدمون لنا ربما حضارة جديدة على المدى البعيد، فلا بد أن يدرسوا بطريقة متنوعة.

أعرف مثلا د.طارق السويدان -حفظه الله- يشجع على هذه الطريقة وأنا أشجعه ويعجبني هذا الطرح، وأيضا بعض الدكاترة الآخرين، فهكذا يجب أن نتربى كشباب وأهم شيء تربية ذاتية فإذا كان لدى الشباب علوم كثيرة وشهادات عليا كبرفسور وغيرها لكن ينقصهم الأخلاق والسلوك السوي فلن يفيدوا شيئا، لأن أهم شيء في إرث التربية الأخلاق والسلوك والأدب، وهذا لا يتم إلا على يد شخص مربٍ يهتم بهذه الأشياء، والأكيد أن المنطقة العربية زاخرة بمثل هولاء المربين.

دكتور، وأنت تتحدث قبل قليل عن ضرورة الاهتمام بالعلوم الإنسانية، قبل سنوات حدثت مقارنة داخلية بين النموذج التركي والنموذج العربي لمن ينهجون نفس النهج تقريبا ويسعون للإصلاح، الملاحظ أن الكثير من القادة والساسة الأتراك تختص في العلوم الإنسانية بينما في العالم العربي الكثير يتخصص في العلوم الطبية أو الهندسية؛ هل لهذا الاختلاف أثر في الواقع أي في قضية تشكيل العقل وفي التعامل مع الوقائع والأحداث؟

  أنا أتكلم عن المنطقة التركية نعم هناك اهتمام كبير بالعلوم الاجتماعية وهناك تخصصات كثيرة في العلوم الاجتماعية، سمعت أحد الأخوة من إحدى الدول العربية حين كنا نتناقش وعندما قلت العلوم الإنسانية قال لي لا يا أخي لا تقل العلوم الإنسانية فهذا غير مقبول عندنا! فاحترت كثيرا ثم سردت هذه القصة فيما بعد لأحد الأخوة من ذلك البلد فقال لي هل تعرف أستاذ عمر أن كثير من الكليات في العلوم الإنسانية والاجتماعية أغلقت في بلادنا! فقلت في نفسي هذه والله طامة كبرى، لماذا؟ لأن الكثير من القضايا الإدارية متعلقة بالعلوم الاجتماعية.

لذلك أقول أن التدريس باللغة المحلية أولا ثم الاهتمام ثانيا بالعلوم الاجتماعية مهم جدا، لأنه هو الذي يشكل العقل الإنساني الوطني، نعم هذه الميزة موجودة لكن أبشرك بخير يا أخي أن كثيرا من الشباب العربي الذين يدرسون الآن في تركيا بدأوا يسجلون في التخصصات المتعلقة بالعلوم الإنسانية، وأنا أراهن عليهم كثيرا ولي أمل كبير فيهم وسوف نرى منهم من سيصنعون المستقبل لنا إن شاء الله.

لأن العربي إذا تعلم يختلف عن بقية الإثنيات فتأثيره أكبر لأن اللغة العربية لغة عالمية لذلك العربي هو ملح الإسلام، بالتالي أي شيء يكتبه في المستقبل سوف يؤثر في المجتمعات الأخرى، لذلك أقول لا بد أن تكونوا أيها العرب قدوة لشباب العالم وليس فقط لأنفسكم.

د. عمر، تحدثنا عن آثار الحركة الفكرية في نهضة الأمم، التساؤل يُطرح عن العلاقة أو مدى الارتباط بين الشقين الفكري والسياسي، الظاهر لدينا في التجربة التركية هو الشق السياسي فما هو الوجه الآخر لهذا المشهد التركي؟

  الفكر ليس مجرد الفكر، الأستاذ أربكان كان يقول الإسلام المجرد ليس إسلاما، فالفكر المجرد البعيد عن هموم الأمة وهموم الإنسان وهموم الوطن وهموم البشرية ليس بفكر، ماذا يفيد هذا الفكر؟! هل نضعه في المتاحف؟! المفكر أو الفيلسوف المسلم يفكر من أجل الإنسان، ويقدم نموذجا جيدا ويشير إلى مصالح الشعب والشباب. فانتشار الفكر بين الشباب يشبه بركة صغيرة تصب فيها قطرات من الماء وبمرور الزمن لن تستوعب البركة قطرات الماء بل ستحتاج إلى بحيرة وبعد ذلك تحتاج إلى بحر وبعدها إلى محيط، وبالتالي الفكر هو الأساس لكن الفكرة يجب ألا تكون مصادمة مع الآخر فأنت قل ما عندك واطرح ماعندك ولا تنشغل أو تضيع وقتك مع الآخر، قد يكون لك معارضون كثر لكن أنت اهتم بالفكر الذي عندك وستجد حتما لنفسك ولمجموعتك سوقا جيدة لمن يشتري أفكارك، وهؤلاء هم الذين سيصنعون التغيير لست أنت أيها الكاتب أو المفكر.. فالأمر يحتاج إلى تشكيل على المدى البعيد جيل جديد من الذين تأثروا من أفكار متعددة وسيشكلون ما يحتاجه الوطن فلا تخافوا. ولذلك التشكيل دون فكر لا فائدة منه والفكر دون تشكيل فائدته قليلة لكنها ستتم بمرور الزمن

أ. عمر، مع تسليمنا بمبدأ أن النهضة لا تستورد كاملة ينتقى منها ما يناسب، الدارس والباحث عن مجالات الإصلاح في تركيا يبحث عن أوجه التشابه مع ضرورات النهضة العربية. في رأيكم ما هي مجالات الاستفادة للتجربة العربية النهضوية من التجربة التركية؟

  أولا تركيا ليست تركيا واحدة فيها أمواج عميقة ما تعرفونه وما لا تعرفونه، وما ترونه من الأمور السياسية والإدارية في تركيا هي إفرازات نهائية لهذه الأمواج العميقة، والمنطقة العربية أيضا ليست منطقة واحدة فعندما نقول نهضة عربية هل تظنون أن العربي في نهضته وفي فكره في الجزائر مثلا وفي السودان أو في مصر أو العراق على نمط واحد! طبعا لا، عقول مختلفة وبيئات مختلفة ونفسيات مختلفة وتجربة مختلفة وآلام مختلفة وحريات مختلفة أيضا، وبالتالي كل بيئة يجب أن تطور مشروعها الخاص. لا نجعل المشروع الجزائري ممتازا لمصر تلبيسا على الشعب المصري لا، ولا نقول إن التجربة التركية ممتازة جدا يجب أن نطبقها في مصر! فهذا خطأ إستراتيجي كما وقعنا نحن في بداية عهد الترجمة عندما ترجمنا كل شيء إلى لغتنا وأردنا أن نطبقه ووقعنا في بعض المشاكل، لكن لا بد من الاستفادة من التجربة التركية ولا بد أن يأتي الشباب العرب ليدرسوا في هذا التخصص أو ليدرسوا في تخصصات مختلفة يهتمون بها، فما أقصده أن كل بلد له ظروفه الخاصة وإن كان هناك تشابه، مثلا يوجد هناك تشابه بين اللائكية الجزائرية واللائكية التركية بعكس السعودية مثلا وهو ليس موجودا نوعا ما في مصر ولا في سوريا أيضا مع أن سوريا كانت في فترة من الفترات تحت الاحتلال الفرنسي لكن لائكيتنا ولائكية الجزائر متقاربة جدا.

د.عمر أي متابع للتجربة التركية يعلم أن مرحلة حزب العدالة والتنمية مرت بتطورات نتيجة تجديد متواصل في الفكر السياسي وتجربة حزب الرفاه كما ذكرت وغيرها، هي تجربة ارتقائية في الفكر والممارسة السياسية التركية، هل هذا يؤكد أن العبرة في الغايات لا في المسميات وأن التنظيم ما هو إلا وسيلة قد تخضع للتطوير في سبيل الغاية الكبرى؟

  لو درستم حكم حزب العدالة والتنمية خلال ثمانية عشر سنة تجد فيه على الأقل أربعة مشاريع إصلاح جديدة ما معنى هذا الكلام؟ أي أنه يطرح مشروعا ويَجد في بعض التفاصيل خللا ويراجع جه نفسه ويقول نحن نريد أن نجدد ما هو موجود، المعارضة تقول أنتم الذين طبقتم هذا وأنتم الذين صنعتم هذا القانون في البرلمان، أردوغان يقول نحن بشر وقد نجحنا في هذا واكتشفنا أننا أخطأنا في كذا، لذلك الميزة الطيبة في حزب العدالة والتنمية أنه يسعى دائما نحو الإصلاح والتجديد في البرلمان، فمثلا في فترة من الفترات وضعوا قانونا ينص على أن القيادات السياسية لا تستطيع أن تبقى في البرلمان أكثر من ثلاث دورات وجزء كبير منهم تساقطوا بسبب هذا القرار الحزبي ما عدا أردوغان، وبالتالي أنا أقصد أن التجديد والتغيير مطلوب بقوالب معقولة وبأساليب معقولة، فمن دون تجديد أو تصحيح لن تتقدم. 

مثلا كانت هناك موضة في فترة من الفترات وهي تأصيل الموضوع أو تأصيل الفكرة، هذه الفكرة في فترة من الفترات أعجبتني جدا، فنحن نريد أن نرجع إلى الإسلام ونؤصله فقهيا وفكريا، لكن اكتشفنا فيما بعد أن هذا التأصيل يجعل الفكرة مقدسة.

بمعنى أن هذا الإنتاج الفكري إنساني وليس مقدسا فالنص موجود لكن المنتوج ليس مقدسا وبالتالي لا بد أن يكون لهذا الفكر المنتوج قابلية للتغيير ولو بعد خمس سنوات أو ست سنوات أو حتى عشر سنوات ولا يلومه أحد.

لذلك لدينا قاعدة أساسية؛ الفتوى تتغير على حسب الزمان والمكان، نسينا هذا الموضوع وأردنا أن نؤصل كل شيء ونجعله فقها أساسيا بمعنى أنه نوعا ما تجمد، وكنا نلوم العلماء والفقهاء واكتشفنا أنهم يركزون على التجديد والتغيير أكثر من تأصيلنا نحن.

هل لتنزيل الأحكام والأفكار على الواقع منهجية ومهارة؟ وما يضمن الاتساق بين القول والفعل؟

  الفقه هو أن تعرف ما لك وما عليك والفقيه هو الذي يعرف ماله وما عليه، فالفقيه الذي لا يعرف ما له وما عليه ليس بفقيه فهو مرجع أساسي لحل الأزمات كلها الاقتصادية والسياسية والفكرية والإنسانية، هذا هو الفقيه فإذا كان فقيها فلا بد له من أن يتطرق إلى قضايا كثيرة ويعالجها حسب ظروف المجتمع لكن قد يغير فتواه بمرور الزمن على حسب الحاجة لذلك أنا تطرقت الآن لمسألة التأصيل من هذا المنطلق. 

أخي الكريم هناك تجربة تاريخية لعلمائنا منهم من طرح الفقه للمجتمع بعد ذلك قننه أو دونه وهناك فقهاء آخرون دونوا الفقه أولا وطرحوه للمجتمع وتم تطبيقه، ومنهم من طرح فكره أولا قبل التطبيق غيّر فكرته مثل الإمام الشافعي، ومن طرح الفكرة بعد ذلك طبق وهو نموذج الإمام أبي حنيفة.. وهناك أفكار لأبي حنيفة لم تطبق في عهده بل كان يطلق عليه أنه من (الأرأيتيون) لأنه كان يفترض أشياء لم يكن من الممكن أن تطبق في عهده لكن اكتشفنا فيما بعد أن أفكاره أو فتواه مقبولة اليوم في ظروفنا المعاصرة.

أقصد أن المفكر لابد أن نتركه يفكر ويخرج ما عنده لكن ليس بالضرورة أن تطبق أفكاره كلها 100%، جزء منها يمكن أن نطبقه اليوم وجزء منها لا، لكن لا نلومه على طريقة تفكيره، أهم شيء هو أن الفيلسوف لا يوجه المجتمع إلى تجربة تصادمية؛ لا بأس أن تكون لديه أفكار ثورية في الاقتصاد وأفكار ثورية في إدارة البلاد لكن ليس بالتصادم، أنا لا أخاف من الأعمال الثورية ولكن أخاف من التصادم، وتجربتنا أثبتت بأنها تضحي بكثير الشباب والشخصيات الطيبة، لذلك لا بأس للمفكر أن يطرح الأفكار وندرسها ونأخذ جزءا وقد ندع جزءا منها.

فمثلا عندنا بعض المفكرين عندهم أفكار مثالية جدا لا يحبون حزب العدالة والتنمية ولا يقتنعون به وما إلى ذلك. لكن أنا متأكد مئة بالمئة أنهم أكثر من سيحزن لذهاب حزب العدالة والتنمية، هكذا شأن المفكر فهو ناقد وله أفكار مثالية، فليقل كلمته ونحن نستمع إليه، وننظر هل يمكن أن نطبق هذه الأشياء.

قد لا نستطيع لظروف سياسية لأن إدارة البلد وقيادته تفهم هذه التفاصيل ولديها تواصل مع الداخل والخارج لكن المجتمع المدني والمفكرين مصرون!! مثلا أنا قد أريد حزب العدالة والتنمية وفي نفس الوقت أنتقده لا مانع من ذلك لأنها عملية اجتماعية وإدارية ليست مقدسة باستثناء بعض المقدسات المحدودة.

لذلك يا شباب يجب أن نكون مؤدبين في نقدنا حتى لا نصطدم ونخسر إخوتنا قبل الآخرين، لكن لابد من النقد الذاتي بهدوء ولا بد أن نفرز أفكارا متعددة ونستفيد، مثلا عندكم بعض المفكرين المغاربة الذين عاشوا في فرنسا خاصة يطرحون أفكارا خطيرة جدا بالنسبة لي على حسب ما درسته في الدراسات الإسلامية وحكمهم معروف فيما درسته لكنني أرى أن وجودهم مهم جدا ووجودهم يشجعني لأقرأ أكثر وأطلع أكثر وأقول يا فلان وجودك قيمة بالنسبة لي لأنك الذي جعلتني أتعلم الصحيح، لكن يكون هذا في إطار معين.

د. عمر لو كان هذا المفكر هو نفسه صاحب السلطة بعد فترة معينة ولكنه وجد صعوبة في تنزيل ما كان يدعو إليه عندما أمسك بزمام الأمور، هل هناك منهجية معينة ومهارة في قضية تنزيل الأحكام على الواقع؟

  هذا سؤال مهم جدا وهو أخطر الأسئلة، من خلال تجربتي أنا أُقسم الفقه إلى قسمين فقه القيادة وفقه الشعب، الشعب ليست عليه مسؤولية كبيرة نستطيع أن ننفذ أشياء كثيرة ونستطيع أن نعمل أشياء كثيرة لكن القيادة السياسية مع أنها كانت يقول سابقا الشعب مثلي ومثلك فهو جزء منا في النهاية لكن عندما وصل إلى السلطة فإن هناك عالما آخر هناك وتداخلات مختلفة عما كان يتصور، هنا نقطة مهمة جدا بعد هذا التقسيم هل هذا القائد خرج من رحم مشروع إصلاحي صحيح من عندكم؟ أو خرج من رحم آخر؟ إذا كان قد خرج من رحم مشروع إصلاحي صحيح وكان معنا مثل ما كنا نفكر سابقا نعذره ولا نتدخل في شؤونه كثيرا لأنك لست مخلصا أكثر منه فقد كان مثلك لذلك تعذره فيما يفعله لكن لا تقاطعه، تتواصل معه وتوجهه وتترك الأمر له لا تقل له افعل كذا أنت كنت عضوا في الجماعة أو أنت لا تزال تحت إمارة فلان لا، هذا مرفوض الآن هو القائد وكلنا نتبعه فيما يفعله لكن نختلف معه في فقه العامة.

هناك شباب قد يدخلون عالم السياسة دون اكتمال البناء الفكري والمنهجي والعلمي لديهم فبما تنصحهم بارك الله فيك؟

  القضية بسيطة والمعادلة بسيطة جدا كما قال قائدنا وسيدنا عمر -رضي الله عنه- تفقهوا قبل أن تسودوا، أمر واضح جدا لكن عندما تتفقه لا تكن مغفلا عما يجري في المجتمع ولا تضيع وقتك كله وتنشغل في متابعة هذه الأحداث وإلا سوف تهمل فقهك ودرسك وعلمك، بعد أن أكملت المراحل المطلوبة على الأقل مرحلة جامعية لا بأس أن تخوض قليلا قليلا في التجربة السياسية بالمتابعة وبالعضوية وبالمشاركة.

وإذا كنت مستمرا في الدراسة لا تنقطع عنها ولو شهرا لأنك إذا انقطعت شهرا بين الماجستير والليسانس معناه أنك لن تستمر في الماجستير هذه نصيحة مهمة للشباب لا تنقطع عن الدراسة بعد الليسانس وخاصة بين الماجستير والليسانس وبين الدكتوراه والماجستير هذه قاعدة أساسية ذهبية مني للشباب، وإن لديك طموح في العملية السياسية أنا أنصحك ألا تدخل لا مرشحا ولا عضوا فعالا في العملية السياسية قبل أن تكمل الدكتوراه لكن لا تقاطع، تزورهم وتتواصل معهم وتشارك في بعض الندوات وتسمع في التلفزيونات وتقرأ الأدبيات، لكي تكون على علم.

بعد أن تكمل الدكتوراه يمكنك أن تدخل في المجال السياسي وترى أن الوطن يحتاجك لا بأس أن تدخل في السياسة لكن ليس كل الأكاديميين يدخلون في السياسة خاصة المتميز منهم لا يدخل في السياسة. 

هناك نقطة مهمة هي أن المتميزين أكاديميا من الأفضل ألا يدخلوا في السياسة لأن عمر السياسة الحقيقية بلا تزوير من أربع سنوات إلى عشر سنوات، فإذا انقطعت عن الدراسة بعد عشر سنوات ماذا ستفعل وأنت متميز وضيعت كل خبرتك العلمية والأكاديمية خلال عشر سنوات وبقيت خارج اللعبة السياسية لأن الحزب لا يحتاجك؟! ومن تجربتي الشخصية هي أن المتميز في الدراسات المختلفة يبقى في الجامعة ولو كان راتبه قليلا وكان تأثيره قليلا فهو يربي الأجيال على الأقل لثلاثين سنة وعمره أكبر من السياسة.

المشتغل بهَم الأمة في العالم العربي تجده للأسف محاصرا من الجهات الأربع لا يدري بأيها يبدأ، فمن أين يبدأ هذا الساعي للتغيير وما الذي يقنعه أصلا بالتدافع في ظل واقع يدفعه لليأس أحيانا؟

  أولا وضع الأمة الإسلامية بكل المشاكل الموجودة ليس أسوأ من الحصار الذي قام به أهل مكة في الغار عندما حاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا على وشك الدخول، أن يدخلوا في الغار ويقتلوا الاثنين كلمة واحدة تكفينا ماذا وضع أمامنا الدستور؟ "لا تحزن إن الله معنا" هذه قاعدة أولى

والقاعدة الثانية "ومن يتق الله يجعل له مخرجاأما القاعدة الثالثة هي أننا لسنا مجبرين على أن نحل كل المشاكل، نحن نجاهد ونحاول بقدر ما نستطيع وبعد ذلك نترك النتيجة إلى الله -سبحانه وتعالى- ولذلك في ثقافتنا التركية نحن مسؤولون عن السفر لا عن النجاح فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

إذن، المبادئ القرآنية إذا وضعناها دستورا، لا يوجد حزن ولا توجد هزيمة، لنا الدنيا ولنا الآخرة أيضا لكن لا نهمل الدنيا من أجل الآخرة حيث نعتبر الدنيا مزرعة آخرتنا ونحن مسؤولون عن الإنسانية وبالتالي الأمل كبير وكل التشنجات والتقسيمات السياسية في المنطقة العربية هي شيء مؤقت ولن تدوم طويلا. ثانيا، إذا أهمل العرب والأتراك نهضة الإسلام ثق تماما أن النهضة الإسلامية ستخرج من بريطانيا ومن أمريكا.

أقول للشباب المغاربة خاصة والمشارقة أيضا اهتموا بإخوانكم الموجودين في الغرب وخاصة في فرنسا فعددكم هناك ليس بقليل ولا تنقلوا مشاكلكم الموجودة في بلدانكم إلى هناك لكن اهتموا بهم وكل سنة يجب أن يعود أولاد المغاربة ليبقوا في بلادهم شهرا ويتعرفوا على بلدهم ويشعروا بأنهم ينتمون إلى هذه الحضارة وأنهم مسلمو أوروبا، فلا نقول هم مسلمو الجزائر أو مسلمو تونس وليس بالضرورة أن نقول هؤلاء هم مسلمو أوروبا لكن يجب أن يأتوا إلى بلاد الأجداد ويتعرفوا عليها. هكذا نحفظ الهوية. لذلك قبل يومين في trt العربية كنت أتحدث عن زيارة وزير الخارجية الألماني إلى تركيا وقلت للأخ الذي كان يدير الجلسة لن يتخلى الألمان عن مدينة أنطاليا لأنهم يحبونها كثيرا لكن في نفس الوقت يجب أن يعرف الأوروبيون أن الأتراك من مسلمي أوروبا (الجيل الثاني والثالث والرابع) سيحبون تركيا ولن ينسوها مهما كان لأن لهم أجداد وأقارب هنا وتراث ولغة وما إلى ذلك لذلك أنا أوصيكم بأن تهتموا بإخوانكم وهم بحاجة إليكم.