من أجمل اللحظات هي تلك التي يروي فيها أبي عن قصص التهجير في فلسطين، وكيف عانى هو وعائلته من تبعات هذه النكبة، حيث كان عليهم الاعتماد على أنفسهم رغم صِغر سِنِهم وقِلّة خِبرتهم. وكيف أن العائلة بأكملها كانت تجتمع ليتعلّم أحدهم ويُخرجهم من كابوس التخييم في خيمة ليست بيتهم وأرض ليست أرضهم. لقد عانى هذا الجيل الكثير، ولكن واجه هذه المحنة بصبر وعمل دون كلل وملل. وأكثر ما يُبهرني كيف أن الكثير من هذا الجيل تمكّن من تحدي الظروف وكيف أن الكثير منهم استطاع أن يستخدم مهارته، إما للعمل في شتّى الجهات أو لإكمال دراسته والحصول على شهادات كانت في ذلك الحين من المستحيلات بسبب سوء الأوضاع..

وجئنا نحن -أبناء جيل التهجير- حيث كانت حياتنا هادئة جميلة، ولم نكن نعاني من أي محنة. إذْ أنّ أباءنا استطاعوا تخطي كل الصعوبات لنعيش نحن بنعيم وسهولة. لم يكُنْ في حياتنا الكثير من التحديات غير تلك التي كان يضعها آباءنا علينا لنجمع العلامات ونكون من الأوائل في المدرسة، خصوصا لأنهم كانوا يدفعون المبالغ الكبيرة لندرس نحن بمدارس "خاصة" تُعلّم اللغة الإنجليزية ومناهج إضافية غير تلك التي يقدمها المنهج الحكومي.

في مدارسنا بدا التباهي بتعلّم اللغات الدخيلة شيئا واضحا، وكان جلّ همّنا أن نُشاهد الأفلام الأمريكية على التلفاز وسماع الأغاني الأجنبية تماشيًا مع "التطور" الذي يحدث بين أبناء جيلنا.

وجاء الجيل الثالث والرابع بعد التهجير، أبناءنا الذين نعِموا بالوَفرة والكثرة، يدرسون في المدارس "الانترناشونال" التي نثق فيها أكثر من ثقتنا بأنفسنا. ثقة جعلتنا نعتقد أن هذه المدارس ستُخرج جيل النخبة، لِما في هذه المدارس من أنظمة أجنبية صنعتها عقول غربية "متطورة". من المؤكد أنها أنظمة أفضل بكثير من أنظمة التعليم في البلاد العربية التي ما زالت تُعلِّم بطريقة لا تُجدي نفعًا ولا تواكب التطور الهائل والسريع.

ولكن سؤالي للأهالي.. ما هدف تدريس أبنائنا بهذه المدارس؟ هل لأننا نريد أن نصل لما توصل له الغرب من علم؟ هل لأننا لا نثق بمناهجنا؟ أم لأنها أصبحت "بريستيج اجتماعي"؟ 

أبنائنا الآن لا يتكلمون العربية، بل إن حصص اللغة العربية هي أصعب وأثقل حصة وكأن المعلم يتحدث الطلاسم.

مع العلم أنني معلمة منذ 16 عامًا، أُعلّم العلوم باللغة الإنجليزية لقناعتي أنها بلا منازع لغة العلوم لهذا العصر وقناعتي أن التعليم بهذه المدارس بلا شك أفضل من تعليم المدارس الحكومية أو الخاصة. ومع ذلك فإنني حرصت ألا أُعلّم بناتي في المرحلة الابتدائية بِالمدارس "الانترناشونال" وذلك لأنني أعرف مدى أهمية تعلّم اللغة العربية منذ الصغر. وأرسلتهم للمدارس "الانترناشونال" في المرحلة المتوسطة، اجتهادًا منّي في أن المزج بين هذا وذاك هو الحل السليم.

أما الآن وأنا أسمع ابنتي وهي تتحدث مع صديقاتها بلغة غير لغتها أتسائل مع نفسي، هل يا ترى يتحدث الفرنسيون اللغة الإنجليزية؟ أم يتحدّث الألمان باللغة الفرنسية؟ أو يتحدث أي من بني العجم باللغة العربية؟

أليس استخدام لغة دخيلة هي من سِمات الشعوب المتخلفة التي سيطرت عليها عقول مستعمريها؟ هل هذا هو مبلغ علمنا؟ ألم تصنع هذه المدارس أشخاصا ينتمون للحضارة الغربية أكثر منها للعربية؟ وهل العلوم التي تدرس في المدارس "الانترناشونال" ستصنع جيلا يُحررنا من التخلف والجهل الذي تقبع به الشعوب العربية؟ أم أنها ستزِيدها تخلفًا بسبب انفصال الجيل الجديد عن كل ما يُوثّق رباطهم بهويتهم؟

أليست اللغة هُوية؟ أليس انفصال الشعوب عن لغتهم هو انفصال تام عن تاريخهم؟ أليست الكتب التي تُدرّس في المدارس "الانترناشونال" تحمل في طيّاتها بعض الأفكار التي لا نحتاجها كشعوب عربية؟

لقد علّمت وتعاملت مع النظامين الـ IGCSE والـ IB والتقيت في مسيرتي التعليمية الكثير من الأهل جلّ اهتمامهم هو أن يتكلم أبنائهم اللغة الأجنبية وكفى، متناسيين أن الهدف الرئيسي للتعليم في مدارس "الانترناشونال" هو تعلم العلوم التي وصلت إلينا من الغرب وترجمتها وتطبيقها بحيث ننتج جيلا يصنع التطور والتقدم في بلادنا. فهل هذا ما حدث فعلًا؟

وأنا كمعلمة أقتنع أن ما نحتاجه الآن هو إنشاء جيل جديد "ثنائي اللغة" أي يُتقن اللغتين، اللغة الإنجليزية والتي هي لغة العلم، وكذلك العربية. نعم بهذه الطريقة يستطيع هذا الجيل ثنائي اللغة ترجمة كل ما تعلمه من علوم إلى لغتنا العربية. لنبدأ مسيرة تطورنا بطريقتنا نحن وليس كما يُملى علينا.

ولنعمل معًا على أن يكون هدفنا من تعليم أبنائنا في مدارس "انترناشونال" هو إنتاج جيل مفكر، منفتح على العالم، مهتم بقضايا عصره، مبدع، مجازف، متواصل مع الماضي ومندفع نحو المستقبل، يتأمل ما حوله من أحداث ليحدث التغيير. والأهم من هذا كله أن يكون منتميا لأمّته ولغته فكَم عُزّ أقوام بعِزّ لغات.

*مدارس انترناشيونال: مدارس دولية عادة تُنجزها وتشرف عليها السفارات الأجنبية بالدول العربية. مثل المدارس الأمريكية في القاهرة أو الجامعة الأمريكية في بيروت.