اللغة وطن، نستوطنه ونستقر فيه، وننتمي إليه، وندافع عنه ونحمي أمنه وحدوده، ونؤّدي فيه ما استوجب علينا من واجبات، ونتحّمل مسؤولية تنميته وتطويره، فيه ينطلق تفكيرنا وتفضفض نفسياتنا وبه نغّني آمالنا وأحلامنا. قد نهجره في لحظة ما إلى لغة أخرى بحثًا عن العمل أو المصلحة، لكننا نظل مسكونين بالحنين إليه والاعتزاز به. وقد شبّه الكاتب الجزائري الكبير مالك حداد رحمه الله بُعده عن اللغة الأم بالمنفى حينما قال: "الفرنسية منفاي"، وظل يحترق بنار البعد ولظى الحنين، ولم يختلف ذلك عن اعتزاز الشاعرالبرتغالي فرناندو بيسوا بلغته: "وطني هو اللغة البرتغالية".
أما وطننا نحن فهو اللغة العربية، أثرى الأوطان وأغناها وأجملها وأبهاها وأبقاها ما دامت السماوات والأرض، فهي بنت اختيارها كأثر خالد في إحدى رحلات السفر التي هي من الإعجاز السماوي الخالد وقد برر بذلك الأديب الفرنسي Jule Verne حكاها في أدب الخيال، إذ لم تعد سردية الإعجاز والخلود حبيسة تتردد فقط لدى العرب والمسلمين وحدهم بدافع الحماسة الدينية.
فقد وردت في شهادات غربية لمسشرقين وكتاب وأدباء وأكاديميين من أمثال: يوهان فك، وجاك بيرك، جورج سارتون والفرنسي ريجي بلاشير حينما يقول متعجبّا من قوة اللغة العربية: "إن من أهم خصائص اللغة أنها ثانوية لا تعرف الشعوب الغربية كيف تعبر عنها" وغير هؤلاء كثير.
العربية قدرتها على التعبير عن معانٍ غير أن عامل الثراء والغنى وأسرار الجمال ومكامن القوة لم يشفع للعربية عند بعض نخبها وّظل حالها لا يختلف كثيرا عن حال أوطاننا الجغرافية، عندما جنى عليا جمالها وغناها فنالها الاحتلال والاستعمار والغزو والقهر، فظلت ذات النخب تغدر بها وتقصيها وتمارس الوشاية ضدها وتتعاون مع اللغات على حسابها تارة باسم التنوع والانفتاح. والتعايش وتارة أخرى باسم المواكبة والتقنية والتطور.
إن اللغة مركب حي من مركبات الهوية وتجّل من تجلياتها، فهي لم تعد مجّرد وسيلة تواصل في عصر "الضربة الاستباقية" و"العولمة" و"الإمبريالية" ومع تنامي الحديث عن "الأمن اللغوي" و"المواطنة اللغوية"، وإذا كانت اللغات الأخرى وسيلة تضمن وصول الآخر إلينا في ما يسّمى "الانفتاح"، فإن وصولها على ظهر القوة يعد شكلا من أشكال الغزو والعداء والاختراق الذي يهدد أمننا وحدودنا اللغوية والهوياتياتية والثقافية، والتي بدأت تواجه فعليا تحديات، "الصهر والتبديد والتليين في حدودها الوطنية لصالح "العابر للحدود"، وإذا قدرنا دائما أن اللغة وطن نسكنه وندافع عنه؛ فإن الإضرار بلغتنا من طرف النخب المستلبة باحتقارها أو تهميشها جرم يرقى إلى الخيانة والوشاية وخذلان الواجب الوطني. ولعل التجلي الأبرز لما يطالها من غدر بقاؤها مختنقة بغصة التعميم في الحدود الوطنية.