تدقيق: إيمان مقري

استضاف عمران الحضارة يوم 23 شتنبر 2021 بشراكة مع منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة الشيخ أحمد السيد في برنامج رواء الفكري في حلقة خُصصت للحديث عن موضوع "التجديد الفكري: لماذا؟ وكيف؟" وقد بُث اللقاء على قناة عمران على اليوتيوب وفي الصفحة الرسمية على الفايسبوك.

تطالعون فيما يلي نصَ المداخلة الكاملة للشيخ.

 شمس الدين حميود:

 حلقة جديدة من حلقات "رواء" مع ضيف جديد وفاضل، هذه المرة ضيفنا غني عن كل تعريف، ضيفنا هو الشيخ الأستاذ أحمد السيد المشرف العام على برنامج البناء المنهجي ومدير أكاديمية صناعة المحاور سابقا ومؤلف لعديد الكتب التي عم نفعها مختلف الشرائح، شيخنا فضلا مقدمة بسيطة ثم أحيل لكم الكلمة.

 قضايا التجديد في الفكر الإسلامي وحتميته ومجالاته وحتى ضوابطه ومستقبله أصبحت من أهم القضايا البحثية في عالمنا الإسلامي خاصة مع الاشتباكات المعرفية والتاريخية الحالية، وهذا التجديد كما تعلمون لا يأتي من فراغ ولكنه عمل منهجي يجمع التشخيص السليم مع التعرف على مواطن العلة بهدف الخروج من الأزمة التي تعاني منها الدول الإسلامية؛ ولكثرة الحديث على أن عقل المسلم قد فرض عليه الانغلاق داخل أطروحات تبلورت في أزمنة وأمكنة مختلفة أصبحت تتحكم في رؤيته للواقع وأورثته أيضا عجزا عن تجديد وتحديد أدواته من خلال هذا الواقع أيضا، يطيب لنا أن نطرح السؤال هذه المرة: التجديد الفكري لماذا وكيف؟ 

 فضيلة الشيخ أحمد السيد: 
 هذا اللقاء بعنوان التجديد الفكري: لماذا؟ وكيف؟ أو المقاصد والوسائل وما يرتبط بذلك من قضايا

 في الحقيقة إذا قيل التجديد فإن أول ما يمكن أن يطرأ على الذهن هو الحديث النبوي الذي ذكره النبي ﷺ في قضية تجديد هذا الدين وهو الحديث الذي أخرجه الإمام أبو داوود -رحمه الله- في سننه وأخرجه غيره من أصحاب الكتب المصنفة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها}، وهذا الحديث متداول تداولا واسعا بين العلماء على مر العصور من المتقدمين ومن المتأخرين. وممن تناوله بالحكم عليه من حيث الصحة الإمام السخاوي والعراقي وابن حجر، هؤلاء الثلاثة كلهم صححوا إسناده.

 هذا الحديث أفرد بالتصنيف، فالسيوطي له كتاب بعنوان "التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مئة" وهي رسالة مطبوعة وطبعت حديثا ضمن أربع رسائل أخرى للسيوطي عن المجتهدين والاجتهاد وما إلى ذلك. وهذا الحديث يطرأ تحت هذا العنوان حين تتناول القضية من الناحية الشرعية وإن كان لفظ التجديد في الواقع المعاصر يطرح في فضاءات فكرية لا تتناول التجديد من حيث الارتكاز على هذا النص النبوي وإنما تطرح من حيث النظر الفكري المعرفي المحض. قد تكون بعض هذه الأطروحات التجديدية التي تتخذ من هذه المظلة الفكرية مظلة وحيدة لها في بعض تمثلاتها تأثرا بفكرة الحداثة وفكرة التحديث.

 ولذلك من المفاهيم الخاطئة التي يمكن أن تنبت تحت هذه المظلة، مفاهيم الظن بأن التجديد هو الإتيان بما هو جديد مطلقا والسعي لإيجاد القطيعة بين الواقع وبين القديم والنظر دائما إلى ما هو جديد من حيث الإطلاق؛ أي أفكار جديدة لم تطرح سابقا وأقوال جديدة ليس لها تمثلات سابقة. 

هذه المظلة الأولى التي تحدثت عنها وهي المظلة التي تتحدث عن التجديد ضمن النص الشرعي وضمن الإطار الشرعي مثل رسالة السيوطي ومثل من تناول هذا الحديث وبعض الدراسات الإسلامية المعاصرة التي تناولت هذا الباب.

  وهناك من يتناول هذا الباب أو القضية من ناحية فكرية محضة تكاد تقترب في بعض تمثلاتها من فكرة التحديث أو الحداثة، فأحيانا تلمس أو ترى بشكل واضح في تمثلات بعض الأطروحات التجديدية أنك تستطيع أن تزيل كلمة التجديد وتضع كلمة الحداثة. وفي الحقيقة تناول مثل هذه القضية ضمن التحليل اللفظي للنص والانحصار في مساحة الألفاظ فقط التي يسمح بها الحديث دون الاجتهاد وفتح الآفاق التي يمكن أن تنبثق من هذا النص فيه إشكال ونقص. كما أن الانطلاق من ضمن هذه المظلة أو ضمن المظلة الأخرى دون اعتبار النص وما يتعلق به أيضا هذا فيه خلل وفيه إشكال، ولذلك نحتاج إلى الانطلاق من محكمات؛ هذا المعنى في الشريعة ومن هذا النص بعينه وكذلك فتح آفاق التأمل والتفكر فيما يمكن أن يدخل ضمن هذا الحديث وما يتعلق به من مفاهيم ومن قضايا معاصرة وتحديات مستجدة. ولذلك سأتحدث في العنصر الأول عن هذا الحديث من حيث التأمل في ألفاظه ومن ثم محاولة الانطلاق إلى فضاءات يمكن أن يكون مستندها هذا المنطلق.


 أولا: النبي ﷺ قال: "الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها"،

ومن الأمور التي تلفت الانتباه في هذا النص أولا كلمة "يبعث" وهذا البعث منسوب إلى الله سبحانه وتعالى، والبعث كما أشار فريد الأنصاري حين تناول هذا الحديث قال:

يطلق في لسان القرآن والسنة على معنيين أولا على معنى الإحياء "فأماته الله مئة عام ثم بعثه" ثانيا يطلق على معنى الإرسال "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"

على أنه يقول أن البعث الثاني يتضمن الأول، فالبعث الذي هو بمعنى الإرسال فيه أيضا معنى الإحياء والإحياء المقصود به هو الإحياء المعنوي وليس الإحياء الحسي وإطلاق لفظ الحياة على الانعكاسات الإيمانية على الإنسان المؤمن. 

وهذا لفظ مستعمل في الشريعة كما قال النبي ﷺ: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت"، ومن المعلوم أن الميت هنا ليس المقصود به الذي توقف قلبه عن العمل وفاضت روحه وإنما المقصود به الموت المعنوي. فأول ما يلفت الانتباه هنا ربانية هذا التجديد وهو أن الله يبعث بمعنى هو بعث موافق لإرادة الله الشرعية والكونية وبالتالي كل تجديد يناقض مراد الله -سبحانه وتعالى- في أصول ما بعث عليه الرسل فهو ليس التجديد المقصود في مثل هذا النص.

 الوقفة الثانية في هذا النص هي نقطة مهمة جدا وهي في قول النبي ﷺ (لها) في (من يجدد لها دينها)،

وهناك فرق بين قول من يجدد دينها فقط وبين من يجدد "لها" دينها. الفرق هذا ليس بالضرورة أنه مقتضى اللفظ مباشرة وإنما قد يفهم الفرق في بعض التصورات، "فلها" هذه تفيد أن التجديد هو متعلق بما طرأ على هذه الأمة من إشكالات ومن حجب ومن تحديات على أرض الواقع فهو يجدد لها وليس يجدد الدين باعتبار إضافة شيء جديد إليه، وإنما يجدد لهذه الأمة التي أصل الدين موجود لديها ولكن قد طرأ على هذا الأصل ما يمنع من حسن التطبيق له أو حسن فهمه ومن ثم يجدد لها دينها. 

 الوقفة الثالثة هي في قول النبي ﷺ (من يجدد)،

و"من" هذه ذهب كثير العلماء إلى أن المقصود بـ"من" ليس الفرد الواحد وإنما قد يدخل فيها أكثر من شخص وأسهب العلماء كثيرا في مثل هذا المعنى، مثلا الذهبي ذكر في تاريخ الإسلام: "الذي أعتقده من الحديث أن لفظ من يجدد للجمع لا للمفرد"، وكذلك ابن كثير رحمه الله تعالى، بل إن فريد الأنصاري رحمه الله يقول: "إن القول بفردية المجدد تحكم في النص". ومن العلماء من ذهب إلى الفردية لكن أغلب العلماء ذهبوا إلى أن "من" تشمل الواحد وتشمل تعدد الأشخاص الذين يمكن أن يقوموا بمثل هذا المعنى التجديدي.
 هناك بحوث داخل هذا النص تناولها العلماء ليست محل التناول هنا وهي متعلق بـ"المئة سنة" و"الرأس" وهل هو في النهاية أم في البداية؟ وهل هي من البعثة أم من الهجرة؟ وهل هي مرتبطة بالتاريخ الدقيق تاريخ القرن أو هي مرتبطة بحالات الانحسار وما إلى ذلك؟ هذا بحث فيه شيء من التفصيل يمكن أن يبحث عنه الإنسان في مقامات أكثر سعة وتفصيلا من مثل الشروحات الحديثة التي تناولت هذا الباب. إذا هذه الوقفة الأولى هي مع النص من حيث لفظه وثبوته وبعض المعاني المرتبطة به وهي أشبه ما تكون بالمقدمة أو المدخل لهذه المادة. 

 بعد ذلك ننتقل إلى العنصر الثاني وهو أنواع التجديد، قسمت أنواع التجديد في هذا السياق إلى نوعين باعتبار الإطلاق والنسبية، وإلا يمكن في داخل التفصيلات والموضوعات أن يقال مثلا التجديد الفكري والتجديد الإيماني وغيرهما، لكن يمكن أن ننظر إلى القضية بشكل عام باعتبار التجديد المطلق وباعتبار التجديد النسبي وهذا طبعا مع استصحاب ما تم تقريره في البداية وهو أن التجديد لا يساوي إضافة وإنما التجديد في أساسه هو عملية لإعادة موضعة الدين في الموضع الذي أراده الله سبحانه وتعالى وطبقه النبي ﷺ.

هذا في الأساس هو حقيقة التجديد ومحاولة إزالة الحجب والتحديات الواقعية التي تحول بين المسلمين وبين أن يكون الدين في ذلك الموضع الذي كان عليه النبي ﷺ، ومن هنا تنفتح مساحة واسعة للتفاعل مع الواقع وإشكالاته وتحدياته وإبصارها والتعامل معها بأدوات علمية ومعرفية... إذا التجديد بهذا الاعتبار نوعان: تجديد مطلق وتجديد نسبي.
 التجديد المطلق يمكن أن نصفه بأنه التجديد المتعلق بحقائق الدين الكبرى أو بالمسار التطبيقي لتلك الحقائق الكبرى للدين، فهذا التجديد المطلق له مساران بناء على ذلك؛ المسار الأول مسار معرفي علمي والمسار الثاني مسار عملي تطبيقي. فيمكن أن يكون التجديد المطلق هو في المسار العلمي والمعرفي ويمكن أن يكون التجديد المطلق هو في المسار العملي. بطبيعة الحال إذا قلنا أن التجديد المطلق المتعلق بحقائق الدين الكبرى هو تجديد معرفي في قسم وتجديد عملي، فلا يعني أن التجديد المعرفي لا يكون له تمثل عملي ولا يعني كذلك أن التجديد العملي لا يكون له مستند علمي أو معرفي، وإذا قلنا هو تجديد لحقائق الدين الكبرى وكان المسار الأساسي فيها هو المسار المعرفي فإنه ولابد أن يكون له شيء من الانعكاسات العملية. وإذا قلنا أن التجديد لحقائق الدين الكبرى عملي فلا بد أن يكون من المستندات المعرفية ما يعين على تنزيل أو على القيام بمثل هذا المشروع العملي على أرض الواقع.
 

حين يتحدث العلماء عن المجددين على مر التاريخ الإسلامي فإنك تجد بينهم اختلافات، إلا أنهم يكادون يجمعون على شخصيتين، فعلى مر تاريخ المسلمين لا تكاد تجد هناك خلافا في أن هاتين الشخصيتين من المجددين على اختلاف المذاهب حتى العقيدة الإسلامية التي تتحدث عن مسار التجديد، وهم يتفقون أو يكادون يتفقون على عمر ابن عبد العزيز -رحمه الله- وعلى الشافعي -رحمه الله-، وكل من يعد المجددين أو يشرح هذا الحديث ثم يذكر التعداد يكادون يتفقون على هاتين الشخصية ومنهم من يضيف إليهما شخصيات أخرى ومنهم من يكتفي بهما والأكثر يكتفي بهما في سياق القرنين الأول والثاني.

 إذا نظرت إلى هاتين الشخصيتين كشخصيتين متفق عليهما في ناحية التجديد ستجد أن أحدهما ينطبق عليه المسار المعرفي والآخر ينطبق عليه المسار العملي، فالتجديد الذي كان عليه عمر ابن عبد العزيز في الحقيقة لم يكن تجديدا علميا معرفيا وإنما كان تجديدا عمليا، والتجديد العملي كان مرتبطا لا بقضية جزئية وإنما كان مرتبطا بحقائق الدين الكبرى والمتصلة بإقامة الدين على أرض الواقع من جهة الحكم والسياسة وتطبيق العدل على وجه التحديد؛ العدل بمساره الإسلامي الشرعي الذي أنزله الله سبحانه. إذ لم يكن مشروع عمر ابن عبد العزيز الأساسي مشروعا معرفيا وإن قام ببعض الجهود المعرفية فهو مثلا أمر بجمع السنة وما إلى ذلك ولكن حتى جمع السنة لم يكن مشروعا تجديديا، فالسنة كانت تتداول وتتدارس ويتناقلها العلماء وهو قد أمر بوسيلة من وسائل حفظها وهو الكتاب أو الجمع. بينما مشروع الإمام الشافعي كان مشروعا معرفيا علميا، وإن كان له تمثل على أرض الواقع، هذا التمثل على أرض الواقع تمثل في تدريس الشافعي وكتاباته "الشافعي ومناظراته"، لكن مشروعه الأساسي لم يكن مشروعا عمليا.
 ومن المفارقات المهمة التي يحسن أن ننظر إليها ونراعيها حتى ندرك الإشكال الذي ذكرته في البداية في الفرق بين مساري التجديد؛ التجديد المنطلق من أصول شرعية والتجديد المنطلق من نواح عقلية محضة أو فكرية محضة أو واقعية. إنك تجد المفارقة الرهيبة لكثير ممن يتبنى التجديد بنوعه الثاني حيث يرون أن الإشكالية التي تمثل ما يضاد بالتجديد من الجمود والقولبة والتقييد العقلي كانت تتمثل في الشافعي، بينما تجد الإطار الشرعي يتفق على أن الشافعي كان المجدد في مرحلة من المراحل، وهذا يدل على أن التقسيم الذي ذكرته في البداية إذا نشأ على حالة مفارقة فهو ينتج نتائج متضادة في قضية التجديد.
 هذا الاختلاف في التقييم والمعيار والإطار والمنطلقات والمحركات أدى إلى تضاد في النتائج، حيث يرى المسار الأول أن الشافعي مجدد في مرحلة ما أما يرى المسار الثاني فيرى أن الإشكالية في جمود العقل الإسلامي، كما يقول بعض من يمثل هذا الاتجاه مثل محمد شحرور: "إن الشافعي هو المشكل في معنى كلامه ولذلك كان يتحدث عن تجديد أصول الفقه.." وهذا مسار يتخذه طائفة من الحداثيين ليس فقط محمد شحرور. لاحظوا المفارقة في هذه القضية، ومن أهم أسباب هذا الأمر قضية المعيار الذي ينطلق منه الإنسان في تقييم حقيقة وجوهر ومركزية التجديد وأين تكون.
 

خلاصة الكلام فيما يتعلق بما ذكرته إلى الآن في قضية النوع الأول من التجديد الذي هو التجديد المطلق وأنه تجديد المتعلق بحقائق الدين الكبرى وأن له مسارين مسار معرفي ومسار عملي، وأن المسار المعرفي من تمثلاته المتفق عليها في التاريخ: الشافعي وأنه يستلزم شيئا عمليا، ومن التجديد في المسار العملي عمر بن عبد العزيز وهو متفق عليه كذلك وهو يستلزم بلا شك مستندا معرفيا علميا، وعمر بن عبد العزيز كان أحد الأئمة المسلمين وعلمائهم. 

 الآن أين يكمن التجديد في هذا التجديد المطلق؟ 

نحن قلنا أنه متعلق بحقائق الدين الكبرى وحقائق الدين الكبرى من المفترض أن تكون محل اتفاق، أين يكمن التجديد في هذا النوع الذي هو مرتبط بحقائق الدين الكبرى؟ أرى أن التجديد يتمثل في صورتين أساسيتين مرتبطتين بهذا النوع؛ الصورة الأولى هي التجديد المتعلق بالخلل في مركزة هذه الحقائق، وقد هذا حصل في التاريخ، فمع الزمن كثيرا ما تنزاح تلك الحقائق الكبرى عن مركز الثقل إلى الأطراف والتجديد هنا يكون بإعادة تلك الحقائق الكبرى إلى المركز وإن كانت لم تكن في واقع الناس منكرة أو مستنكرة وإنما التجديد يكون في إعادة موضعتها. ويمكن لنا أن نأخذ شيئا من هذه الصورة التي ليست مطابقة ولكن يمكن لنا أن نقول أن المشركين في وقت النبي ﷺ وقبله كانوا يعبدون الله كما يعبدون غيره ولم يكونوا ينكرون أن الله إله حق ولم ينكروا أن الله هو الخالق الرازق، وإنما كان هناك خلل في مركزة العبودية لهذا الإله الحق، حيث كانت آخذة في طرف وأدخلت معها أطرافا أخرى فصارت للمعادلة فيها قدر من الإشكال.

 

الصورة الأولى من صور التجديد الذي يمكن أن يكون ضمن الحقائق الكبرى هو إعادة مركزة المركزيات إلى المكان والموضع الذي تستحقه من خارطة الدين. والنوع الثاني من التجديد المتعلق بحقائق الدين الكبرى ليس مرتبطا بالخلل في موازين الثقل بين المركزيات وغيرها وإنما بإزالة الحجب والحواجز والرواسب التي تشكلت عبر حالات الانحراف الفكري والعقدي وما إلى ذلك، فحالت بين الناس وبين حسن التصور وحسن الرؤيا لهذه الحقائق الكبرى وبالتالي صار نوع التجديد هنا هو نوع متمثل في التدافع مع تلك الحواجز والحجب، وبطبيعة الحال هو ليس تدافعا مع أفكار ولا تمثلات لها وإنما هي في الغالب تدافع مع حملة تلك التصورات الخاطئة التي لم يستحق المجدد أن يكون مجددا إلا بعد توجهه إلى تلك الحجب والحواجز.

 وبالتالي صورة التجديد المتعلقة بحقائق الدين الكبرى في قسمها الثاني هي التجديد المرتبط بإزالة الحجب والحواجز والرواسب والتصورات الخاطئة المرتبطة بالحقائق الكبرى وإعادة الفهم الصحيح والتطبيق الصحيح المرتبط بها، ويمكن أن يكون في زمن أو في أزمنة متعددة، وقد يكون الموجود في أرض الواقع هو صورتي الإشكال؛ صورة خلل في المركزيات وانزياح المركزيات إلى الطرف بدل أن تكون في الوسط، وصورة التصورات الخاطئة والحجب والتمثلات الخاطئة المرتبطة بتلك المعاني والحقائق الكبرى.

 فيكون دور التجديد مضاعفا وهو في إعادة الموضعة وفي إزالة الحجب سويا. وأعتقد أن هناك عديد التمثلات في واقعنا ينطبق عليها هذان المعنيان. والتجديد المرتبط بالصورة الثانية الذي يتطلب في إزالة الحجب والرواسب قدرا وافيا من المعرفة بالواقع وتاريخ تشكل الرواسب والحجب والبواعث والمحركات التي أدت إلى نشوء تلك الحجب والقدرة أو امتلاك الأدوات والعلوم والمعاني التي تعين على تصحيح وإزالة تلك الحجب والرواسب أيضا، وهذه كلها متطلبات إذا استعملنا المصطلح الأصولي مما لا يتم الواجب إلا به أي لا يتم واجب التجديد إلا به.

 وبالتالي هذا يمكن أن يكون إطارا تعريفيا تعرف به كثير العلوم المرتبطة بتاريخ الأفكار وأصول الأفكار الخاطئة وما إلى ذلك من سياقات دراسة الأفكار الغربية وانعكاساتها وبعض التمثلات الكبرى لهذه الأفكار. فلا يتم التجديد المرتبط بحقائق الدين الكبرى بصورته الثانية المرتبطة بإزالة الحجب ما لم يكن هنالك علم كاف وواف بهذه الحجب وتشكلاتها وأسبابها وملابسات كونها هي الأكثر تأثيرا، وهذا كله الآن ضمن النوع الأول الذي هو التجديد ضمن الحقائق الكبرى، هذا التجديد يمكن أن تكون له تحت الصورتين معالجة معرفية ويمكن أن يكون عملية، إلا أن طبيعة التجديد في مثل هذا الباب من الصعب أن يكون مستقلا بأحد المسارين دون الآخر؛ أي التجديد المرتبط بحقائق الدين الكبرى في الغالب لا يتطلب جهدا معرفيا فقط أو فكريا فقط وإنما يتطلب انعكاسا وتمثلا لهذا الجهد على أرض الواقع، ولذلك قد تكون بعض صور المشاريع التجديدية تحت هذا العنوان هي صور في صناعة النماذج التي تمثل مثل هذا النوع من التجديد.

 النوع الآخر من التجديد هو التجديد النسبي، وهو التجديد المرتبط بمجال ما من المجالات المتصلة بالدين بعلم من العلوم بواقع معين تخلفت فيه حقائق الدين. فالتجديد الثاني هو تجديد يمكن أن يكون تجديدا معرفيا في بعض المجالات ويمكن أن يكون تجديدا عمليا في مجالات أخرى، فهو مجال واسع. ومن جملته التجديد الفكري والأصولي والحديثي وغيره من أنواع التجديد في العمل التربوي، والتجديد في طبيعة الخطاب...

 التجديد النسبي تجديد خارطته واسعة وممتدة وكل مجال من هذه المجالات النسبية يمكن أن تكون له ضوابطه وقواعده التي تحكم التجديد في كل مجال من المجالات. إلا أن فكرة التجديد النسبي لا تتخلف برأيي عن المسارين اللذين ذكرتهما في السابق المسار المعرفي والمسار العملي. وكذلك في الفكرة الجوهرية في التجديد وهي إزالة الإشكالات التي نشأت على هذا التجديد إما من حيث التطبيق أو من حيث التصورات. وهنا يمكن أن تكون إضافة بعض الأفكار الجديدة متاحة في المجال النسبي، كالإتيان ببعض الأفكار الجديدة التي لم تطرح سابقا بينما حقائق الدين الكبرى لا مجال لإضافة أشياء جديدة لم تطرح سابقا. لكن التربية مثلا ووسائلها وما يتعلق بها وكيفية تربية النشأة والأبناء أو الطلاب أو ما إلى ذلك، فهو مجال قابل للزيادة والاجتهاد والإتيان بأشياء جديدة لم يأت بها أحد.

 بينما لما تتكلم عن علم مثل أصول الفقه نجد أن حقائق التجديد فيه تختلف عن التجديد في المجال التربوي. ولذلك إذا ذكرنا مثلا الشاطبي كمجدد في أصول الفقه ما أن تقرأ مقدمات كتاب الموافقات حتى تدرك المعاني المرتبطة بالتجديد والتي يمكن أن نلخصها في المحافظة على مقاصد هذا العلم الذي ينبغي أن تحقق عبره وعن طريقه. فالشاطبي مثلا في موافقاته يقول إن أصول الفقه وبالتالي المسائل التي لا تكون نافعة أو مثمرة أو مفيدة في الفقه فلا ينبغي أن تعد من أصوله. هذا معناه إزالة لكثير العوالق أو العواري التي تراكمت في هذا العلم وكانت من أسبابها بعض المصادر المعرفية الأخرى التي أدت إلى بعض الإشكال في هذا العلم، فهذا مجال واسع ويصعب الحديث فيه بتفاصيله لأن كل مجال له ضوابطه وقواعده المرتبطة بالتجديد فيه، أما الاختزال الشديد لفكرة التجديد في إضافة المعلومات الجديدة أو الأفكار الجديدة فهذا أيضا فيه اختزال كبير جدا.

 ننتقل للعنصر الثالث، كنت قد ذكرت أول شيء أن هناك اتجاهين في التعامل مع فكرة التجديد ثم ذكرت بعد ذلك النص الوارد في هذا الباب ووقفت معه ثم بعد ذلك ذكرت أنواع التجديد وذكرت نوع التجديد المطلق والتجديد النسبي وذكرت الأقسام ضمن التجديد المطلق وما يتعلق به وما يدخل فيه وبعض الأمثلة المرتبطة به وصورة التجديد في كل مسار من المسارات المرتبطة بهذا التجديد. بعد ذلك ننتقل إلى عنصر جديد وهو صور أو أنواع الخلل في التجديد، وأقصد الخلل هنا أو أنواع من الخلل واقعا معينا وليست تصورات ذهنية مجردة وإنما هناك خلل أو بعض الصور في الخلل في التعامل مع ملف التجديد على أرض الواقع.
 الصورة الأولى من صور الخلل وهي التي ذكرتها قبل قليل وهي الظن بأن التجديد مرادف للحداثة أو للتحديث

وأن التجديد يستلزم قطع الصلة بالماضي وإنما هو في الإضافة أن يكون هناك شيء معرفي يضاف على علم ما أو على أساس الدين أو على أي كان. وهذه الفكرة لا ينبغي أن تكون عنوانا للتجديد وإنما هذه الفكرة -أعني الإضافة- إذا أدخلناها في بعض مجالات التجديد النسبي يكون التجديد فيها عبر الإضافة، لكن قولبة التجديد في الإضافة في هذه صورة من الصور الخاطئة وما أكثر ما ترتب عليها من صور الخلل.

 الصورة الثانية من صور الخلل في التجديد وهي الظن بأن التجديد هو تكييف الدين واستحداث وسائل له تجعله متوائما مع مناخات الواقع الثقافي،

فالظن بأن التجديد هو تنزيل الدين على الواقع من جهة جعله موافقا وموائما للمناخات الثقافية السائدة فيه -فصورة التجديد في زمن الهيمنة الليبرالية الغربية هي في تكييف الدين حيث لا يتعارض مع مخرجات هذه الثقافة وتجديد الدين في زمن الاشتراكية- هو تكييفه بطريقة لا تتعارض مع المخرجات الاشتراكية وهكذا قس على ذلك. هذه صورة من الصور الخاطئة التي قد تكون مستبطنة أحيانا ولا يكون الذي استبطنها يشعر بأن هذا هو المحرك الداخلي لطبيعة التجديد الذي يدعو به. 

فأنت تجد هذا مثلا في مرحلة من المراحل التي كان العنوان الأساسي فيها بالنسبة للوسط الفكري والثقافي الإسلامي هو عنوان التقدم المادي والمدنية والعلوم الطبيعية في وقت كانت الثقافة الغربية أو الواقع الأوروبي لا يزال صاعدا وبقوة في مجال النهضة العلمية الطبيعية. فكان التجديد الذي يتمثله بعض المفكرين هو في أن يجعل الدين موافقا لمركزية التقدم المالي والتقدم المدني، فمركزيات الدين ومركزيات المدنية الأوروبية الغربية تكاد تتطابق. فهذه هي صورة التجديد التي كان يظنها البعض، وبالتالي ما لا يتواءم مع هذا التطابق فإزالته ونقده هو صورة من صور التجديد. 

وبالتالي جاءت عندنا قضية مثل إنكار المعجزات مثلا، ولما تفهم المحرك في قضية إنكار المعجزات تدرك أن هناك قدرا من التأثر بقضية القوانين الطبيعية واستعمال النهضة الأوروبية للقوانين الطبيعية للوصول إلى المكتشفات التي وصلوا إليها.

 وبالتالي حقيقة الحياة وحقيقة وجود الإنسان هي التفاعل مع هذه القوانين الطبيعية وما كان على خلاف ذلك مما يجري تحت عنوان المعجزات فهو يختلف مع هذا المعنى وبالتالي الإزالة أو التأويل هو الذي يتفق مع التجديد الذي تناسبه تلك المرحلة، هذه صورة من صور الخلل والإشكال الذي وقع. الآن نرى نفس الشيء انتشار الثقافة النسوية مثلا، فالبعض يظن أن التجديد هو إعادة قراءة الدين بحيث يتوافق مع الواقع النسوي الجديد، مثل نصوص الميراث التي فيها "للذكر مثل حظ الأنثيين" الأخذ بدلالة هذا النص الظاهرية أو بدلالة منطوق هذا النص هي رؤية قديمة والتجديد مع هذه التغيرات الواقعية والتغير في قيمة الوظائف والعمل النسائي والإنفاق يتطلب تجديد الإنسان في هذا النص، وفي الحقيقة هذه التفسيرات والقراءات الجديدة عادة ما يكون الدافع والمحرك لها هو أمر باطني وأحيانا لا يكون مستحضرا الذي يستبطن شيئا يحركه ولا تلتقط عينه إلا ما يتعارض مع هذا المحرك فتجد أن مجموعة من النصوص هي التي توضع تحت التشريح والقصقصة وحين تبصر هذه النصوص تجد أنها تتعارض مع مثل هذا المخرج. ولذلك كل من يقرأ الدين قراءة مرتبطة بواقع فكري ما يزيل أو يؤول أو يبعد عن الدين ما يتعارض مع منطلقات تلك القراءة، لذلك هذه الصورة خاطئة من صور التجديد.

 الأمر الثالث أو الصورة الثالثة من صور الخطأ هي الظن بأن التجديد إنما يكون في الوسائل،

كيف نجدد مثلا الخطاب الديني؟ لا بد من وجود أسلوب جديد يتعامل فيه المتحدث، طبعا البعض يقصد أيضا المضامين وحتى التجديد من حيث الريادة في واقع المسلمين وما إلى ذلك. كثيرا ما يتم التركيز مثلا على المهارات التي يتم التركيز فيها على الوسائل المهارية والوسائل الإدارية... وحصر التجديد في قضية الوسائل فيه إشكال، فالتجديد في حقيقته هو في إعادة المقاصد وتفعيلها ليس فقط في استحداث وسائل جديدة وإن كان استحداث الوسائل يدخل ضمن التجديد إذا كان محققا للمقاصد ويتفرع عن هذا الخلل في الظن بأن التجديد ينحصر في الوسائل ويتفرع عنه بسبب الاستغراق في التجديد في الوسائل خلل أكبر وهو التجديد في وسائل تحقق نقيض ما ينبغي تحقيقه من المقاصد وذلك عبر الاستغراق في دائرة الوسائل والظن بأنها هي التجديد الحقيقي، وهذا الاستغراق يعمي أحيانا عن تحقيق المقاصد الشرعية والتوازن في قضية الوسائل والمقاصد، والتي هي مهمة جدا.

 وإذا استعملنا ما هو أقرب للمقاصد في الشريعة يمكن أن نشبه المقاصد بمظلة أو خيمة لها أعمدة وأركان ومن الناس من يركز على سقف الخيمة هذا أو المظلة دون الأعمدة التي نشأ عليها، ومن الناس من يركز على الأعمدة دون النظر إلى المظلة أو الخيمة التي تستند إليه، والصواب هو الجمع بين الأمرين؛ ففي مقاصد الشريعة البعض يركز على المظلة ويقول لك الدين عبارة عن مقاصد ولكن له وسائل وله عبادات وله تفاصيل شرعية توصل إليه، ومقاصد الشريعة لم تنشأ إلا من خلال تفاصيلها التي فهمنا منها أن من مقاصد الشريعة كذا وكذا. هذه التفاصيل هي عبارة عن نصوص وكليات الدين وما إلى ذلك والبعض يجمد على ألفاظ النصوص وظواهرها ولا يريد أن يقرأ ما تدل عليه هذه النصوص. كليات هذه النصوص ومجالاتها التي يسعى لتحقيقها وتعزيزها وما بين الانحصار في هذا والانحصار في ذاك تضيع قضية الوسائل أو المقاصد الشرعية، بينما في الحقيقة المراعاة بالنظر للاثنين وهذه أيضا يمكن تشبيهها بمثال آخر وهي أن يضع الإنسان قدمه على الطريق ويعرف كيف يسير هذه الوسائل وأن يبصر دائما نهاية الطريق والإشكالات التي يمكن أن تنتج في مراحله. هذا النظر للمقاصد والجمع بينهما هو الذي يجعل الإنسان يسير في طريق الشريعة بشكل صحيح بينما الذي ينظر إلى قدميه فقط قد لا يبصر إشكالات الطريق أو حتى انحرافاته وينظر إلى الأمام فقط ولا يرى ما تحته وقد يزل لذلك، والجمع بين الاثنين هو الأفضل.

 خلاصة من الكلام أن من صور التجديد الخاطئة التي تظن أن التجديد إنما يكون في الوسائل بينما من أهم صور التجديد إعادة موضعة المقاصد وتفعيلها وتنزيلها حتى تكون فاعلة على أرض الواقع، ومن جزء من ذلك ما تم ذكره سابقا وهو إعادة المركزيات إلى المركز وإزالة الحجب عنها وهذا كله لا يكون تحت قضية الوسائل فقط وإنما هو تحت عنوان المقاصد أو بالمقاصد أقرب وأبسط.

 العنوان الرابع والأخير هو صورة مطلوبة في التجديد في الواقع الحالي،

وحقيقة الموضوع أكبر من ذلك بقيت أمور كثيرة متطلبة ولكن يمكن أن نعتبر هذه بداية في الموضوع أو تناول لبعض أطرافه بناء على التقسيم السابق لأنواع التجديد الذي هو التجديد المطلق والنسبي. وبناء على المسارات التي يتضمنها كل التجديد وهو المسار المعرفي والمسار العملي، فإنما يمكن أن نتصور خارطة للتجديد أو مجالات للتجديد بناء على هذا التقسيم. ولذلك الصورة الأولى من صور التجديد المطلوبة اليوم هي من أعظم الصور ومن أجلها ومن أكثر ما ينبغي العمل عليه وهو -برأيي- التجديد الحقيقي الذي يمكن أن يعمل أو من أهم صور التجديد الحقيقي أي التجديد في إعادة موضعة مركزيات الشريعة لتأخذ المركز والثقل.

 والصورة الثانية عبر إزالة العوائق والحجب والحواجز والرواسب التي تمنع الناس من أن يتصور الدين بشكل صحيح في حقائقه الكبرى، فهذان مجالان من مجالات التجديد والعمل فيها واسع جدا، وكما قلت ينطبق عليها المسارين ويمكن أن يكون في المعالجة المعرفية ويمكن أن يكون في المعالجة العملية إلا أنه بطبيعته يتطلب الأمرين. هذا من أهم المجالات التي ينبغي العمل عليها، ومن أهم المجالات التي يصح أن يقال أنها تعمل على طريق الأنبياء وعلى طريق النبي ﷺ وهي التي يرجى أن تكون موافقة لحقائق الدين الكبرى ومقاصده العظمى، ويدخل تحت ذلك طبعا كل ما يمكن أن يضاف إليه مركزية كذا في الدين، مثلا العبودية ومرجعية الوحي والتزكية إلى آخره من مركزيات الدين. فكل جهد يصب في إعادة موضعتها لتكون في المركز والوسط وكل جهد يصب في إزالة ما يعارضها هو من حقيقة التجديد الذي ينبغي العمل عليه فقط. وهذا الموضوع يستحق حديثا طويلا جدا، يعني لما تقول إزالة ما يعارضها السؤال هنا هو ما الذي يعارضها من التمثلات المعاصرة الموجودة اليوم؟ هذا يحتاج إلى الوعي بالواقع وفهم التاريخ وإدراك حقائق الأفكار وإدراك طبيعة المؤثرات الموجودة في الواقع وطبيعة التفاعل مع الأدوات التي تنتج أفكار وغيرها من كل ما يدخل في هذا المجال وكله يمكن أن يفيد في هذا المجال.

 

هذه الصيغة المعرفية أو هذا المسار المعرفي مسار عملي يدخل في صناعة الحَمَلة أو النماذج التي تتمثل في مثل هذه الحقائق وتنشأ على مركزيات صحيحة ومقاصد صحيحة، وهذا أيضا صورة عملية ومسار عملي لمثل هذا المعنى. أما في النوع الثاني فهو النسبي فهناك مجالات متعددة من المجالات التجديد في تطبيق مقاصد العلوم الإسلامية، كثير العلوم الإسلامية أو العلوم الشرعية تدرس اليوم تدريسا لا يحقق المقاصد الغائية لهذه العلوم إلا بجهد ذاتي زائد من بعض الطلاب، بينما مما ينبغي أن يكون ضمن السياق التجديدي وأن يتم التجديد في بعض المكونات أو بعض المسائل التي تجعل الأصل فيمن يدرس هذه العلوم أن يكون مدركا لمقاصدها قادرا على التفاعل مع تلك المقاصد، فما الفائدة من الجهة الغائية حينما يدرس الطالب أصول الفقه والحديث والعقيدة لسنوات ثم لا يستطيع التفاعل في أرض الواقع فيما يتصل بهذه المجالات؟ هذا فيه إشكال من حيث تحقيق المقاصد ولا أقصد بأرض الواقع الواقع المحسوس بالضرورة وإنما حتى في الواقع الفكري، فلا تتحقق هذه المقاصد. هذا جزء فيه إشكال وبالتالي التجديد عبر هذه الوسيلة هو تجديد مهم -برأيي- وهو من التجديد النسبي الذي ينبغي العناية به في هذه المرحلة. 

ويمكن أن يكون من صور التجديد العناية بالبرهنة والعناية بقضية البرهان، وذلك لأن ممّ فقد في كثير من السياقات الإسلامية هو الناحية البرهانية وأنت في واقع بطبيعته واقع يستصحب النسبية ويستصحب الشك في كثير من تمثلاته، ولذلك من جملة ما يعين على تلك المركزيات هو الثقل البرهاني الذي يجعل للمركزية قيمة أكبر من عرضها المجرد. وإذا رأيت في رسالة النبي ﷺ ستجد أن الثقل البرهاني كان ضخما كبيرا ثقيلا له وزنه وله سطوته على النفوس وهذا أيضا مجال من المجالات التجديدية.

 إن من مجالات التجديد النسبي العملية التي نحتاجها اليوم التجديد في سياقات تحفيظ القرآن، فمعاهد التحفيظ وحلقاته تحتاج تدخلا تجديديا بالتنبه إلى حقيقة ما ينبغي أن تكون عليه هذه الحلقات من تحقيق للمقاصد والثمرات وأن لا تنحصر أو يعطى الحفظ قيمة أكبر من الغايات التي يحققها، وهذه القضية مفهومة ولها أصول كثيرة في الشريعة لكن تتطلب التجديد العملي لأن الواقع العملي في أغلب تمثلاته يحقق جانب الحفظ ولا يحقق الثمرات التي تنبني عليه، وأحيانا تكون طبيعة التدريس وطبيعة الإطار الذي يرسل للحلقة هو الذي يخرج مثل هذه النتائج القاصرة عن تحقيق الغايات والمقاصد. حقيقة إن صور التجديد النسبي كثيرة جدا ولا يسع المجال لذكرها.

 شمس الدين حميود: في بداية حديثنا عن التجديد يستوقفنا ملمح مهم جدا تحدث عنه أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه "المنقذ من الضلال" لما قال: "إن التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبه من ريعان شبابه غريزة وفطرة الله تعالى… حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت عني العقائد الموروثة". بغض النظر عن صواب القول بفطرية أو كسبية هذا التعطش، في رأيكم شيخ أحمد كيف نجعل لجدية البحث عن حقائق الأمور دورا مركزيا في تفكيك رابطة التقليد هذه، مهما كان تأثير البيئة أو الموروث الذي يؤثر علينا؟

 أحمد السيد: أنا أعتقد أن المفتاح والمنطلق في هذه القضية هو في إعطاء مشكلة التقليد نسبتها وثقلها في خارطة المشكلات المعاصرة وخاصة من جهة كونها مانعا من التجديد، وأعتقد أن مشكلة التقليد ليست من المشكلات الكبرى الموجودة اليوم، خاصة إذا قارنت هذه النسب لمشكلة التقليد بعصور سابقة ليست قديمة وليست بعيدة، يعني لو قارنت بين مشكلة التقليد الآن وبين مشكلة التقليد في القرن التاسع عشر ستجد أن مشكلة التقليد في القرن التاسع عشر كانت من أعظم المشكلات الموجودة في تلك المرحلة، والفارق والفاصل هو قرن وشيء، أي ليست مدة بعيدة.

 وإذا نظرت إلى القرن الثامن عشر والسابع عشر فمشكلة التقليد أكبر، وإذا نظرت إلى القرن الثامن الهجري والسابع كذلك ستجد أن مشكلة التقليد أيضا كانت كبيرة ولكنها ليست بمثل إشكاليتها في القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وبالتالي أرى أن وجود إشكالية يطرحها بعض العلماء في التراث الإسلامي فيجعلونها عائقا أمام قضية التجديد لا يعني ولا يساوي أن هذه المشكلة هي العائق الأكبر في كل الأزمنة وبالتالي فإن ما ذكره الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- هو بلا شك لا يمكن أن يكون المجدد مجددا وهو غير ناقد وينشأ في واقع أو ينشأ في مسار ثقافي لا يكون دوره فيه إلا التقليد وهذا يتعارض مع فكرة التجديد بلا شك.

المشكلة الكبيرة اليوم في الوهم المعرفي والتجديدي ووهم الأفكار وغيره، وليست مشكلة التقليد بصورتها الجامدة التي كانت موجودة في كثير السياقات التاريخية الإسلامية لكن من حيث الأصل فأن يكون المجدد مقلدا التقليد الجامد فهذا يتعارض مع فكرة التجديد، ولا يكون المجدد مجددا إلا إذا خرج عن ربقة التقليد وهذا يحتاج لأن يكون فيه وعي ويكون فيه إدراك ويكون فيه فهم وأن يوضح خاصة في أزمنة أحيانا يفهم من التقليد فيها أنه الأخذ وحتى بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هو تقليد. فالإنسان يحتاج وضع المعاني المرتبطة بهذا المعنى من حيث الأصل فكما ذكرت لك لا يمكن أن يكون المجدد مجددا إذا كان تحت ربقة التقليد. 

 شمس الدين حميود: وأنت تتحدث عن الوهم المعرفي ذكرتني بسؤال حول قضية التجديد الفكري الذي تحدثنا عنه والذي ممكن أن نسلم أنه تراكم معرفي سابق في العودة إلى الماضي وعدم التوقف عنده بل البناء عليه، وهذا الأمر بطبيعة الحال -لو نظرنا حتى إلى تاريخ الفكر الغربي- كان يشغل حتى الفلاسفة الغربيين، فتجد مثلا على "مارتن هايدغر" بوصفه أوروبيا كان يقول التحول لا يمكن أن يحدث بتبني البوذية أو أي تجارب حصلت في الشرق، وكان يقول بعد مجموعة من النقاط أن تحول الفكر بحاجة إلى مساعدة في الموروث الأوروبي وأن الفكر لا يتغير إلا من فكره الذي له نفس المصدر ونفس الهدف. فأنا هنا أتساءل كيف نفسر أن كثير المستلبين للتجربة الغربية يغيب عنهم هذا الملحظ، والذي يتميز باصطلاحكم عليه بنقض المرجعيات الفاسدة والمحركات الفكرية.

 أحمد السيد: حقيقة من المفارقات العجيبة في هذا السياق أن بعض من يدعي مثل هذا أو من يتبنى مثل هذا المسار يكون واقعا في تقليد غير عادي، تقليد فيه تعصب وفيه نقاط عمياء كثيرة للسياقات الثقافية الغربية، أي أنك إذا نظرت مثلا لكثير الأفكار التي طرحها بعض من يتبنى التجديد ويدعو إليه ويحارب القديم ويحارب الموروث ترى مقدار الاستعارة والتقليد الحرفي لبعض أطروحات المستشرقين فتتعجب من هذا التناقض الذي فيه مفارقة كبيرة جدا. وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا المعنى، وممن تناول مثل هذا الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- في كتاب "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" لما ذكر الإشكالية الكبيرة بل حتى أحيانا التقليد داخل الوسط الاستشراقي نفسه فيقلد الآخر الأول تقليدا أعمى ويتوارث خطأ ظاهرا وبينا ثم بعد ذلك تتم الصورة الثالثة أو الثانية من التقليد في الوسط العربي تحت عنوان التجديد. 

فبعض الشخصيات الحداثية مثل "محمد أركون" لما ذكر التجديد في الدراسات القرآنية ذكر طائفة من المستشرقين المجددين في الدراسات القرآنية، وأظن أنه ذكر أكثر من عشرة ثم ذكر بعد ذلك أنك قد تتعجب إن قرأت له تجد كل هذه الأسماء أوروبية مع أنه يتحدث عن القرآن ثم حاول أن يبدد هذا الاستشكال.

 حقيقة هذا الأمر له أسباب كثيرة لكن فقط أنا أريد أن أنبه إلى أن هذه المفارقة أو هذا التناقض يقع فيه الكثير عندما يتعامل بعينين مختلفتين، فإذا نظر إلى التراث ينظر إليه بعين الجمود والتقليد وأن هذه صفته، وإذا نظر إلى ما ينتجه الآخر وهو ينظر إليه دائما على أنه حديث جديد بينما تجد أنه أصلا قائم على فكرة التقليد، وأعتقد أن هناك محركات كثيرة أو بواعث كثيرة يمكن أن توقع في مثل هذا الإشكال. أحيانا تكون هذه البواعث هي في نقص التصور عن الحقيقة الإسلامية وعن الحقيقة الدينية وعن الحقيقة الشرعية، ونقص التصور هذا أحيانا يقود إلى أخذ النقيض ويكون إشكالا في الإرادة الداخلية. وهذه قضية تفسيرية مهمة يجب أن نلتفت إليها؛ وهي من القضايا التفسيرية التي لا يعترف بها كثيرا في الأوساط الأكاديمية ولا يعترف بها كثيرا في مجال البحث الفكري في سياق نشأة الأفكار وسياق تبني الأفكار، بينما إذا انطلقنا من الوحي نجد أن القرآن الكريم دائما يحيل إلى المحركات الباطنة المتمثلة في الأهواء والتي تتمثل في صور كثيرة يمكن أن تدخل تحت هذا الشعار الكبير الذي هو الهوى ويكون هو من أهم الأسباب التي تبعث على تبني الأفكار.

 وكل زمن وكل مرحلة فيها تبني أفكار تعارض الحقائق والمركزيات، وكثيرا ما يستوقفني قول الله سبحانه وتعالى: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية"، وهذه الآية أتت بعد قول بني إسرائيل لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وهنا قال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية، الله سبحانه وتعالى يقول: "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم"؛ وهذا المحرك الباطني هو المتشابه وهو الذي أنتج نفس الأقوال. "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" وفي سورة الذاريات لما ذكر الله سبحانه وتعالى أقوال المشركين فقال: "أتواصوا به بل هم قوم طاغون"، وهذا الطغيان هو الذي ينتج مثل هذه المواقف.

 شخصيا أرى أن التفسير لمثل هذه المواقف ينبغي أن يستصحب القارئ معه هذا الإشكال الباطني الذي يتمثل أحيانا في إبصار التناقضات، لأن التناقض يحتاج إلى تفسير إذا كان التناقض ناتجا عن تجدد اجتهاد فنقض بقوله الآخر قوله الأول وكان هناك أشياء تنبئ بهذا الاجتهاد فهذا تناقض مقبول ليس من فكرة التناقض وإنما فكرة التجديد؛ فكرة أنه أتى بشيء جديد ينقض الأول الذي تبناه سابقا لأنه استجد له علم وهو ناقد ذلك. لكن لما يكون التناقض ليس فيه قرائن تدل على تجدد العلم وعلى اعتبارات موضوعية فإن هذا التناقض غالبا ما يشير إلى إشكالات داخلية. 

 شمس الدين حميود: أريد الربط بين أمرين وهما أصحاب المفارقات الذين ذكرتهم وقضية التجديد في الوسائل، فكما نعلم أن العقل الحداثي فصل الوحي عن العقل ثم العقل عن الإنسان عبر مشاريع عديدة بمناهج ومنطلقات وآليات أصلها في الغرب كما نعلم. الإشكال أن أصل هذه المناهج هو في الغرب صناعة وتطوير وتطبيق ثم جاء الحداثيون العرب ونقلوا هذه الأدوات وطبقوها على علومنا ومعارفنا الإسلامية. سؤالي هنا: هل طرح هؤلاء أصلا سؤال صلاحية هذه الأدوات لدراسة علومنا؟ أم أنهم لا يعترفون بأحقية المرجع في دراسة العلوم الإسلامية؟ 

 أحمد السيد: أعتقد أن هناك درجات متفاوتة في هذا السياق الحداثي فبعض الدرجات لا تعترف بأي مرجعية في سياق الإسلام، أو لنقل لا تعترف بأي قدسية لأي مرجعية من مرجعيات الإسلام. أذكر أني كنت أبحث في قضية تجديد في أصول الفقه وما إلى ذلك فكان من العبارات التي مرت علي لأحد الحداثيين العرب كان يقول: من جيد أننا ذهبنا في التجديد لكن بقي التجديد في الموقف من القرآن، دائما ننقد وعند وصولنا إلى القرآن نقف لماذا لا نكمل النقد إلى القرآن الكريم؟ وهذه القضية ليست بدعة وليست حتى شاذة في السياق الحداثي العربي. فهناك برأيي درجات تصل إلى قضية عدم الاعتراف بأي مرجعية دينية بل بالعكس رؤية أن الإشكال هو في هذا الموروث الديني الذي يدخل فيه عند كثير ممن يتلفظ بمثل هذا المعنى، حتى حقائق القرآن أحيانا قد يفرغ الحقيقة من مضمونها فيقول لك أنا أقف عند النص القرآني ولكن إشكاليتي في الفهم البشري. لما ترى الإشكالية في الفهم البشري هذه ستجد أنها تنطبق أحيانا على ما اتفق عليه المسلمون وما نطق به النص وما تظافرت عليه الأدلة، وبالتالي هو لم يقل أن الإشكالية مع الفهم ولا مع النص الذي عندما تنظر إليه ستجد أنه نص مفرغ فهذا موجود بشكل كبير جدا. 

وهناك بعض السياقات تقف عند سور القرآن وقوفا ليس تعظيميا تاما ولكن فيه قدر من التعظيم وتنطلق مما دون القرآن ابتداء من السنة النبوية فما دون ذلك من أقوال أهل العلم وهذه لا يكاد يسلم منها أحد في هذا السياق الحداثي. 

فإشكالية عدم وجود الهوية الحقيقية التي لا تكون إلا بمرجعية ثابتة أصلا هي إشكالية سائدة في السياق الحداثي بنسب متفاوتة، ولذلك الوقوف عند أفراد الأقوال التي وصلوا إليها دون معرفة الإشكال في أصل الهوية يجعل الصورة مختزلة بينما الربط بين إشكالية الهوية بالنسبة لديهم خاصة فيما يتعلق بالمرجعية يفسر كثيرا من الإشكالات الموجودة في الوسط الحداثي.

 شمس الدين حميود: لو نعود إلى سؤال البواعث وهو موضوع مهم جدا في سلسلتك "التأصيل المنهجي لقضايا المرأة"، لنقل أنه كانت تعبر عن حقنا وعن نموذج معرفي لتأسيس النظر في المباحث المعاصرة بمرجعيتنا الأصيلة وبتحقيق بواعث واقعية بعينها وكذلك لمعالجة إشكاليات رئيسية لا تتقاطع بالضرورة مع تيارات فكرية قائمة، كيف ترون أهمية هذا المسلك في طرح القضايا ومعالجتها؟

 أحمد السيد: أرى أن هذا المسلك يمكن أن نصفه بأنه قائم على ركائز، هي: الركيزة الأولى مرتبطة بما ذكرت من التجديد القائم على فهم الحجب والحواجز والإشكالات الموجودة في الواقع وأن تنفذ ببصرك إلى حقيقة مخرجات المشكلة وبواعثها ومحركاتها ثم تعالج تلك البواعث والمحركات أهم من أن تعالج المشكلات أو المخرجات وأنا برأيي أن لدينا مشكلة في الدرجتين؛ فلدينا مشكلة كبيرة جدا متعلقة المخرجات التي لا تتم لها معالجة أحيانا، وقد تبذل جهدا كبيرا في إقناع بعض الأوساط الشرعية بأن هناك مخرجات فاسدة وهي ظاهرة لكن أحيانا لا يكون هناك إبصار للمخرجات الفاسدة.

وما تم معالجته في سلسلة المرأة ليست هي هذه المخرجات وإنما محاولة القفز أو الإسقاط المظلي إن صحت التسمية للخلف، في خلف المعسكر الذي فيه تلك المخرجات الخاطئة، ومحاولة النظر في المحركات والمستندات والخطوط الخلفية التي تنطلق منها مثل هذه الإشكالات. حيث أن هذه الإشكالات متعلقة بتأثر كثير من المسلمات والإشكالات النسوية خاصة في درجاتها المتطرفة، فالمشكلة ليست في نص معين أو تفسير معين للنص فلو أنك أزلت الإشكال المتعلق بحديث ما ستحل المشكلة، أو لو عالجت التفسير المرتبط بقول الله سبحانه وتعالى "واضربوهن" وستنتهي المشكلة لو عالجت الإشكال المرتبط بتفسير أو بالموقف من قول الله سبحانه وتعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" فالقضية ليست هنا وإنما -برأيي- المشكلة أعمق من ذلك بكثير. 

 حاولت في السلسلة أن أنطلق لتلك الخطوط الخلفية وهي برأيي المناخ القابل لامتصاص مثل هذا الأشكال، وهذا المناخ من أهم عناوينه فكرة الحقوق أو النظر إلى الحقوق دون النظر إلى قضية الواجبات والأدوار وعدم إدراك الغايات الكبرى التي خلق الإنسان لأجلها، وعدم إدراك محل العبودية المرتبط بالإنسان وإلى آخره من قضايا تم معالجتها في السلسلة.

 لكن الظن بأن الواقع النسائي اليوم سيكمن الحل في معالجة إشكالاته بمعالجة الشبهات الظاهرة المرتبطة بتفسير بعض النصوص أو المواقف من بعض الآراء الفقهية، فأرى أن هذه معالجات لا أقول أنها ليست مهمة ولكن ليست هي المكمن وليست هي الإشكال. 

لذلك فإن من النتائج التي وصلتني أن إحدى الطالبات المتقدمات في المجال المعرفي والعلمي والفكري ذكرت مرة لصديقاتها ممن يشبهنها بالمستوى أنه من منكن كانت تمر على بعض الأقوال في التفسير في بعض الآيات المرتبطة بالمرأة تتجاوزها ببصرها تحرجا من قراءة شيء يمكن أن يحدث إشكالا ومن التي لم تعد تفعل ذلك بعد هذه السلسلة، مع أني لم أرد على هذا الإشكال.

 الفكرة هي إعادة الموضعة من خانة فيها قدر من المناخ المتقبل لمثل هذه الإشكالات إلى خانة فيها قدر من الاعتزاز والاستعلاء والنظر في تلك المساحة الهائلة من الأدوار التي يمكن أن تشغلها المرأة تحت هذه المظلة، وكيف يمكن أن يؤثر هذا في معالجة كثير من صور الإشكال والظلم الموجود على أرض الواقع في السياقات الاجتماعية تحت هذه المظلة التي تنتج حالات الاعتزاز الواعي، وهذا ما حصل في سلسلة المرأة من الجهة التي سألت عنها. 

 شمس الدين حميود: في الحديث عن الاعتزاز بما هو آت من الله، البعض يرى التسليم للأعلم وللأحكم بمعنى أنك مقلد تساق من عنقك، ما من عالم فاهم إلا وهو يسلم فيما لا يعلم لمن يعلم، حتى يزال هذا الغرور المعرفي لا يوجد من لا يعود إلى من هو أعلم منه.

 أحمد السيد: أحيانا من قصر العقول أو من التفكير السطحي، بل هذه صورة من أظهر صور التفكير السطحي المنتشر في كثير المجالات، ومن ضمنها ما ذكرت وهو التسوية بين الصور التي يمكن أن تندرج تحت لفظ ما وعدم التفريق بين حقائق ما يدخل وما لا يدخل ضمن مصطلح أو لفظ ما. 

ومصطلح مثل التقليد يوضع على بوابته تلك العلامة الحمراء التي تعني أن كل شيء داخل هذا البيت أو هذا المبنى هو مذموم مرفوض ويدل على صورة سلبية. بينما يجب التفريق بين التقليد السائغ وغير السائغ وبين التقليد الذي ينبغي ويجب أن يكون -وليس فقط أنه سائغ- وبين التقليد الذي يجب أن يتم التخلص منه. فعدم التفريق بين هذه المقامات ينتج مثل هذه الإشكالات، فنحن لسنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة الكثيرة المرتبطة بالتقليد الموجود حتى في سياقات العلوم الطبيعية وما إلى ذلك، وأن الإنسان يبني على نظريات أو نتائج من قام بالنظريات قبله ولو أن إنسانا لم يقبل من نتائج العلوم إلا ما جربه بنفسه، فسيدخل إلى فضاءات العلوم بقيمة صفرية. أنت تبني على نتائج كثير من التجارب السابقة عبر التسليم لها، لكن القضية ليست فقط في ضرب الأمثلة بهذا الواقع وإنما بفهم فكرة أن التقليد ليس خطأ في ذاته وليس مذموما في ذاته أبدا، وهذه أهم نقطة. 

وإنما المذموم هو الصور المشكلة من التقليد؛ أي مجرد إنتاج هذا التفريق هو خطوة أولى ومقدمة أولى مهمة، هناك تقليد سائغ وهناك تقليد واجب، هناك تقليد مثل ما شبهه بعض العلماء بأكل الميتة عند الاضطرار، مثلا تنزل بك نازلة شرعية وأنت تعرف أنك لا يمكن أن تعرف الحكم الشرعي فيها في وقت النازلة، ستضطر لأحد الأمرين إما أن لا تعمل شيئا فتترك الحكم الشرعي أو تترك ما ينبغي أن يعمل شرعا، أو أن تسأل من تعرف ويعلم حكم الله في مثل هذه النازلة التي هي قد تكون أصلا مسألة بسيطة جدا... الآن هذا التقليد في الأخير هو تقليد واجب يجب أن تقلد من هو أعلم منك في مثل هذه القضايا، وعموما التفريق بين مقامات التقليد هو المفتاح والمدخل في مثل هذا. 

وأعتقد أن علم أصول الفقه فيه تفصيل كبير في هذه المسألة في آخر أبوابه في قضية الاجتهاد والتقليد وما يتعلق بهما، وحتى أحيانا تجد أن العلماء يفلسفون قضية التقليد ويذكرون أبعادها ومقاصدها، وليست القضية مجرد تقسيمات نظرية كذلك.

 شمس الدين حميود: شيخ أحمد بالحديث عن الصور المطلوبة في التجديد التي ذكرتها في آخر مداخلتكم -ونحن نتحدث عن التجديد وما يتطلبه التجديد من سعي إلى النهضة بالأمة الإسلامية- نستذكر حديثكم عن قوة ومركزية التزكية في المباحث الفكرية؛ لماذا لتربية الخوف من الله في النفوس وتزكيتها أثر بالغ في التكوين والتجديد الفكريين والنهوض أيضا بالمجتمع والحضارة خاصة ونحن نقرأ قول الله عز وجل: "ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد"؟

 أحمد السيد: الإنسان لما يرتب الغايات والأهداف الكبرى وينظر في الوحي بعين الاستهداء لفهم هذه الأولويات لن يجد تعبا في أن يدرك أن التزكية وتحقق هذه التزكية على أرض الواقع هي من أعظم الغايات التي بعث الرسل لأجلها وخلق الخلق لأجلها، ليس هذا مما يتطلبه العلم العميق جدا حتى يدرك الإنسان هذه الحقيقة؛ وإنما إن أخذت مثل قول الله سبحانه وتعالى المتكرر في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي من مثل قوله في سورة البقرة: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم". أنت تدرك أن هذا النص يلخص الوظائف النبوية الكبرى وتجد أن هذا متكرر في سورة آل عمران وفي سورة البقرة قبل ذلك وفي سورة الجمعة، فتجد أن هذه الآية مكررة تذكر وظائف النبي -صلى الله عليه وسلم- وتذكر منها "ويزكيهم" وبالتالي موضع التزكية من رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- موضع أساس وثيق.

 ولما ترى أن الله سبحانه وتعالى يعلق أحيانا دخول الجنة على صورة لا تستطيع أن تصفها بكلمة واحدة أكثر من التزكية، وذلك في مثل قول الله سبحانه وتعالى في سورة النازعات: "فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"، (خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى) تجمع ركني التزكية: التحلية والتخلية، خاف مقام ربه هذه التحلية، ونهى النفس عن الهوى وهذه التخلية، "وخاف مقام ربه" فيها صورة من أهم صور التحلية المتعلقة بأعمال القلوب، "ونهى النفس عن الهوى" فيها صورة هي جوهر التخلية ضمن عنوان التزكية الذي هو نهي النفس عن الهوى.

 وحين ترى العلماء اليقظين النبيهين الذين تخلصوا من كثير صور التقليد وسعوا إلى التجديد في حقائق العلوم الإسلامية، ستجد أنهم ينتبهون لمثل هذا المعنى، فالشاطبي -رحمه الله- في كتاب المقاصد ضمن كتاب الموافقات يقول: "المقصد الشرعي من الشريعة نفسها هو إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله طوعا كما هو عبد له اضطرارا"؛ وهذه الجملة يمكن أن تختصرها في كلمة "التزكية".

 كثير الأفكار الخاطئة والباطلة تتبنى ويدافع عنها أصحابها لعامل في ضعف التزكية وفي ضعف التجرد وفي ضعف مخالفة الهوى وفي ضعف الجرأة في الحق، وبالتالي تأثير التزكية التي من المفترض أنها تدفع للتجرد من تبني الأقوال الفكرية تأثير وثيق وتأثير متصل وليس تأثيرا بعيدا. وبهذا كله يجب أن نقول أن التزكية يجب أن تمركز وأن تموضع في موضع الثقل سواء في السياقات الفكرية أو في السياقات التربوية أو في السياقات الشرعية لأن هذا النقص ليس في السياقات الفكرية فقط، فكثير من السياقات الشرعية فيها هذا النقص. 

  أذكر أنني حضرت درسا من دروس الفقه لمدة سنة ونصف أو سنتين تقريبا، خمسة أيام في الأسبوع بتفاصيل المذاهب وأقوالهم، لا أتذكر مرة واحدة كانت هناك إشارة أو موعظة أو رقائق القلوب، كأنك تدرس العلوم الشرعية بمعزل عن التزكية التي يمكن أن تجدها بجهد ذاتي في جلسة مع أصدقائك أو في سياقات أخرى. هذا طبعا ليس في كل السياقات ولكنه موجود ومنتشر.

 فلما نقول مركزية التزكية ليس فقط في السياقات الفكرية فالسياقات الشرعية نفسها تحتاج إلى مركزة التزكية، وأثر هذا في التجديد وأثره في الفاعلية على أرض الواقع هو استنادا أصل إلى مراكز الثقل في الرسالة النبوية. ولا يكون هناك تجديد ما لم يعد توزيع مراكز الثقل في الدين وتمثلاته على أرض الواقع بمقدار نسب الثقل في الرسالة المحمدية في أصلها.

 شمس الدين حميود: إذا كان "جوزيف جوبلز" يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة مثقف. البعض يتحسس أيضا مسدسه -وإن كان مسدسه المعرفي- كلما سمع كلمة التجديد، رغم هذه المنهجية والشروط الواضحة التي بني عليها هذا الكلام لكن أعتقد أن البعض دائما يتحسس من هذه الكلمة، ما الذي يجعل البعض يتحسس ويتوجس من أي اجتهاد رغم كل الشروط والضوابط المتعارف عليها؟

 أحمد السيد: من أهم صفات المجددين أنهم لا يبالون بمن يتحسسون مسدساتهم، والذي يريد أن يسير في مثل هذه المسارات وهو يبالي بمن يتحسس من مثل هذه الألفاظ والمعاني هو لن يكون في سياق حقيقي، ولذلك القول بالحق والانطلاق منه هو من أهم السمات التي يمكن أن ينطلق فيها الإنسان بمفاهيم تجديدية والتي من شأنها ومن طبيعتها أنها تخالف كثيرا من الحجب الموجودة في الواقع. لكن أعتقد أن من الأسباب التي تجعل البعض يتحسس من مثل هذا المعنى هو أحيانا قلة الوعي الشرعي وليس الآن الوعي الواقعي وإنما الوعي الشرعي. والوعي الشرعي ليس هو المتمثل بطبيعة الحال في مجرد الحفظ أو التماس السطحي مع الشريعة، وقلة الوعي الشرعي ينتج مثل هذه الأقوال؛ لأنه لا يرى مثلا أن الإشكالية في الوعي الشرعي في الواقع تحتاج إلى إعادة اهتمام. 

غاية ما يستطيعه هو وغاية ما تربى عليه هو نوع من التماس السطحي مع الشريعة، بينما لو كان تماسه مع الشريعة تماسا واعيا عميقا سيدرك أن هناك خللا كبيرا في حقيقة التطبيق الشرعي للإسلام، فهذا سبب، وسبب آخر وهو كثير ومنتشر جدا ألا وهو الجهل بالواقع وبحقيقة الإشكالات الموجودة فيه.

 وبطبيعة عمق تلك الإشكالات وبامتداداتها التاريخية وبجذورها العميقة التي أنتجت مثل هذه المخرجات والتي أتذكر منها مثلا أنه في مرحلة ما انتشرت مشكلة الإلحاد، فأحيانا تحاول إقناع البعض بوجود مشكلة، والمطلوب ليس أن يقتنع بوجود المشكلة بل المطلوب أن يفهم بنفسه وجود مشكلة والمطلوب أن الحالة المفترضة هي القدرة على التنبؤ بأن هذه مشكلة ستحدث بناء على مقدمات واضحة موجودة في الواقع. 

لذلك ليس من العمق الفكري اليوم أن تتنبأ بخطورة مشكلة الشذوذ التي يمكن أن تكون في المستقبل على الجيل... ليست عبقرية أن تكتشف ذلك، لكن من الممكن أن تتحدث في بعض السياقات ويقول لك لا أتوقع وجود مشكلة في هذا. لذلك الجهل بالواقع وإشكالاته يؤدي إلى محاربة امتثالات التجديد وهذه المشكلة مستمرة عبر التاريخ، فمهما يكن من جهد تجديدي لابد أن يقابل بجهد يهون من الاحتياج لمثل هذا التجديد.

 وأعتقد أن السبب الثالث هو خسارة المكتسبات التي يمكن أن تحدث من السياقات التجديدية، فالإنسان الذي يعيش على خلاف هذه المعاني غالبا ما تكون لديه مكتسبات معينة، وهذه المكتسبات يمكن أن تهدد عبر هذه السياقات.

 السبب الرابع هو الكسل؛ فالكسل أحيانا هو سبب حقيقي جدا وهو متعود على طبيعة تناول الشرعي طبيعة في التعامل لا يريد أن يفكرك ولا يريد أن يتعب وغاية ما يحسنه أن يقول لك: دعنا من فكرة تجديد... 

والسبب الخامس هو الفواتير الباهظة التي يمكن أن تنشأ عن التجديد، فأحيانا أذى لفظي وأحيانا أذى جسدي وأحيانا أذى معنوي أيا كان ما يترتب على مخالفة كثير مما هو سائد.

 شمس الدين حميود: شيخ أحمد هل يمكن أن نلحق القطع في الظنيات بالجهل الأول يعني الجهل الشرعي، لأن بعض الناس يصدم ببعض الأمور بعضها ظنيات أي من موارد الاجتهاد وبعضها الخلاف فيها سائغ لا يصح فيها تشنيعها وبعضها راجح لا سائغ فقط. هل يمكن أن نعد القطع بالظنيات؟ وإذا كان الجواب بنعم كيف يوسع الإنسان من إدراك كل هذه الجزئية؟ لأنه انطلاقا من الملاحظات الذاتية وليست الموضوعية كثير من الصراعات مبدأها أن الناس تقطع فيما هو ظني.

 أحمد السيد: نسيت أمرا سادسا قد يكون مهما من الأسباب ألا وهو النماذج الخاطئة للتجديد والتي كثيرا ما تكون سببا في النفور عن فكرة التجديد وكثير ممن يتمسك بلفظ التجديد بالفعل يتمسك بتمثلات خاطئة لهذا اللفظ الشريف. 

لفظ التجديد لفظ شريف ولفظ عزيز، أحيانا إسقاط مثل هذا اللفظ على نموذج معين أو تبني نموذج معين لمثل هذا اللفظ يؤدي إلى ردة فعل معاكسة، وهذه عموما فكرة أو قضية مهمة جدا وأشار لها "الطيب بوعزة" في كتاب "نقد الليبرالية"، والفكرة أن بعض المصطلحات الشريفة يجب أن تظل مرتفعة بالأفق ومن الخطأ الكبير أن تسقط على اتجاه ما بحيث أنه يمتصها بالكامل فيكون هو الممثل لها كما كان يتكلم عن مصطلح الحرية والنموذج الليبرالي، فيقول إن إسقاط الحرية على نموذج واحد هو الوصي عليها فيه إشكال كبير يضر بذاك المصطلح الشريف. 

 لفظ الحرية في الأساس ينبغي أن لا يتعامل معه على أنه لفظ خاطئ أو مشكل بل يتعامل معه على أنه مشكل باعتبار ما ألحق به من إشكالات، وإلا في الأساس هو لفظ فيه شرف كبير جدا بمفهومه المرتبط بالوحي المفهوم العميق المرتبط به.

 أرجع للقضية التي ذكرت وهي أن من جملة الجهل أو من جملة قلة الوعي الشرعي القطع في الظنيات، هذا بلا شك صحيح وبلا شك هو من أسباب محاربة التجديد ألا وهي أن يكون تعامل الإنسان في كل ما هو متصل بالشرع تعامل القطعي وعدم التفريق بين القطعي والظني. وهذه المشكلة بطبيعة الحال لها عكس أيضا وهي التعامل مع القطعيات بالظنية الذي ينتج عنه التجديد الخاطئ؛ والذين أنتجوا صور التجديد الخاطئ من الحداثيين وأمثالهم تعاملوا مع القطعيات بظنية، والذين يحاربون التجديد كثير منهم يتعاملون مع الظنيات بقطعية، وما بين هذا التعامل العكسي تجاه القطعيات والظنيات يحدث هذا الإشكال المقارن.

 شمس الدين حميود: ننتقل إلى أسئلة خفيفة جدا، هذه الأسئلة عبارة عن افتراضات: قبل أيام صدرت مجموعة من المؤلفات لمركز تكوين انتقيت منها عنوانين "أسلمة العلمانية" للشيخ "فهد العجلان" و"معنى الحياة في العالم الحديث" لأستاذنا "عبد الله الوهيبي"، فلنفترض أن الشيخ أحمد في رحلة ولا يستطيع قراءة إلا كتاب واحد فمن يختار بينهما؟ 

 أحمد السيد: كتاب الوهيبي. 

 شمس الدين حميود: سؤال آخر، لدى الشيخ أحمد محاضرات حول شخصيات علمية مركزية في التاريخ الإسلامي، أنا شاهدت محاضرة الإمام أبو حامد الغزالي، كنت قد ذكرت في معرض حديثك أنك ستخصص حلقة للقاضي ابن عربي المالكي لكن لم أجدها بعد، فسؤالي لو قدر للشيخ أحمد رحلة مع أحد الشيخين القاضي بن عربي المالكي والشيخ أبو حامد الغزالي فأيهما يرافق؟

 أحمد السيد: الغزالي لأني أريد أن أسأله عن أسئلة متعلقة بحياته وإن كان على المستوى الشرعي المحض تحقيقات ابن العربي التي لها قيمة كبيرة وأوقع في النفس، لكن الغزالي حياته حافلة وفيها بعض الأسئلة أحتاج أن أسأله فيها.

 شمس الدين حميود: ليس لها علاقة بأن أحدهما مشرقي والآخر مغربي؟

 أحمد السيد: لا طبعا أبدا.

 شمس الدين حميود: آخر سؤال، غالبا أو عادة الكتب لمؤلفيها كالأبناء لوالديهم، الشيخ أحمد له مؤلفات غزيرة عم نفعها مختلف الشرائح. لنفترض أن الشيخ أحمد في رحلة وطلب منه أو سمح له بأخذ عنوان واحد بنسخ متعددة ليوزعها فأيهما يختار: "سابغات"، "تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين" وأضيف "إلى الجيل الصاعد".

 أحمد السيد: بحسب الاحتياج أكيد كل الكتب، والمنهاج من ميراث النبوة أحبها وأقربها إلى نفسي.

 شمس الدين حميود: أعطيكم آخر كلمة ثم نختم إن شاء الله.

 أحمد السيد: أكرمكم الله على هذه الاستضافة وعلى هذا الإثراء المعرفي الكبير الذي تفضلتم فيه عبر هذه الأسئلة، وحقيقة المستوى مشرف جدا ومسعد جدا أن يكون مثل هذه المداخلات والأسئلة التي سعدت بها.

 أما في الختام أؤكد على الفكرة المركزية التي ذكرتها في المادة، وهي أن من أعظم ما يحتاج إليه من التجديد اليوم هو التجديد المرتبط بحقائق الدين الكبرى ليس بإضافة شيء إليها وإنما عبر أمرين ومجالين أساسيين؛ المجال الأول عبر إعادة مركزتها وموضعتها في وسط ما ينبغي الاهتمام به في مختلف السياقات، والأمر الثاني عبر إزالة الحجب والتصورات الخاطئة ومحاربة الأفكار المعيقة عن حسن الامتثال لتلك الحقائق الكبرى للدين والمتمثلة في كثير من المظلات الفكرية في جذورها وبتشكلاتها التاريخية وما إلى ذلك.

 إن البحث عن التجديد الحقيقي لا يكون عبر البحث في الأطراف ولا يكون عبر البحث في الإضافات التفصيلية ولا يكون عبر فكرة التحديث بصيغتها الحداثية الغربية وإنما يكون عبر إزالة تلك الحجب والعوائق وإعادة هذا الدين غضا طريا على مقاييس الثقل التي أعطاها إياه الوحي وطبقها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قراءة الوحي وقراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه العين -وهي عين معرفة المركزيات والقضايا الكبرى في الدين- ثم إعادة تفعيلها على أرض الواقع بناء على هذه المواضع الثقال سواء فيما يتعلق بالإخبار أو فيما يتعلق بالأوامر والنواهي هو أعظم ما ينبغي من التجديد اليوم وإن هذا في صيغته لا يكون معرفيا فقط وإنما يكون معرفيا وعمليا كذلك.