قبل أربع سنوات من الآن دخلت في مرحلة من الخواء أوصلتني إلى حافة الاكتئاب... فقد تخرجت من كلية الهندسة وبدأت عملي الأول كمتربصة في مكاتب الدراسات المعمارية لسنتين كاملتين، فقط لأستطيع الحصول على اعتماد لشهادتي وفق القانون الجزائري... روتين خانق يرافقه مستوى عالي من التوتر والضغط... واستعباد للروح الحرة بداخلي التي ترفض أن تكون وسيلة لثراء شخص آخر، يكتفي بإلقاء الفتات لي مع بداية كل شهر... في حين أصرف جل ما أكسبه على أكواب القهوة المتتالية التي تحفظ تركيزي أثناء العمل أو على علب المُسكن التي تضمن لي نوما هادئا كل مساء لم تكن الحياة باللذة التي أردت.
كل صباح أستيقظ على الساعة الخامسة لكي أستطيع سرقة بعض لحظات السعادة لي رفقة قلمي... كنت أبث إليه شوقي لذاتي التي أردت ... في حين أن مساراته ترفض ما قد ورد عليه من حرف فرنسي رافقني طوال مساري الجامعي... كان يراني أميرة صحراء عربية لا يليق بتتويجها إلا الحرف العربي؛ كل تلك المحاولات البائسة لعلاج روحي بغير حروف الضاد باءت بالفشل، كل تلك اللغات التي عرفت طرقت أبوابها لغة لغة دون جدوى لا لغة غير العربية سترضي جلالته... يوما بعد يوم أدركت أن روحي لم تخلق لغير الضاد وهنا بدأت نقطة التحول لدي، تركت وظيفتي التي كانت سببا لشقائي وتعاستي ولم تعد لقاءاتي السرية مع قلمي تقتصر على جلسات الخامسة صباحا بل تطول على مدار اليوم.
عملت كمراسلة لشبكات عدة ووجدت أن توازني الروحي يعود إلي شيئا فشيئا حتى أنني حين قررت التخصص في التصميم والديكور الداخلي، كنت أحرص على تدوين ملاحظاتي خلال المحاضرات باللغة العربية كي تلتصق بذاكرتي جيدا، فلم يكن الحرف العربي مفتاحا لقلبي فقط بل لعقلي أيضا... فحتى وإن تلون لساني بلغتين أخريتين، فلن أعبر عن ذاتي في حضرة القلم بغير الحرف العربي.
أذكر أنني حين مررت بتجربة إجهاضي الأولى لم ير دمعي سواه... كنت أحاول أن أظهر بصفة القوية الصابرة التي لم تهتز، في حين ترتجف كل أركاني لحجم الخواء الذي خلفه غياب توأمي الصغير... كنت أبحث عنهما بين الصفحات البيضاء كروحيهما، أعانقهما على الورق، أشتم رائحة الطفولة في امتزاج الحبر بالورق العتيق. لم ينتشلني من حالتي تلك غير تلك الحروف العربية التي كنت أعكف على كتابتها لساعات، فوحدها الضاد تغريك بالرقص على رنات حروفها إذا ما وصلت إلى نشوة الألم العليا... وحدها تكفيك لوصف حجم ألمك، تعريه أمامك وتكسبه صفة وشكلا...
فقد استطعت بذلك ترجمت ألمي إلى عمل روائي... كنت أُسمّي روايتي مولودي الأول، ليس مجازا كباقي الكتاب الجدد وإنما قد عوض الله ما فقدت بمائة وعشرين صفحة تنقلت خلالها بين مدن زرتها وقصص عشتها واخترت أن تكون بطلتها مثلي معمارية هجرت العمارة لأجل الأدب العربي أسميتها "إلى هناك... الرحلة ونقطة الوصول معا".
وقد كانت بالفعل رحلة للتشافي في حضرة الحرف العربي ونقطة الوصول إلى ذاتي التي لن ترضى بغير العربية لغة للروح... لغتي الشاعرة التي تحسن الإحساس بحجم ألمي وتطبطب حروفها على قلبي فيسكن كرضيع في حضن والدة أطالت عنه الغياب فبكى شوقا لها...
واليوم أجدني قد أَمِنت حروفها فلا أخاطب غيري بسواها، لعل جمالها قد يسحر القلب منهم كما فعل معي ويخترق عقولهم ليعوا ما قد قلت تاما غير منقوص فلا يسكن النقص بين حروف لغة وسعت كلام الله لفظا وغاية.