هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Neoliberalism: the idea that swallowed the world ، الآراء الواردة فيه تعبر عن كاتبه الأصلي ولا تعبر بالضرورة عن عمران.
خاض الباحثون في صندوق النقد الدولي الصيف الماضي نقاشًا طويلًا ولاذعا حول النيوليبرالية أين اعترفوا بوجودها، كما وقام ثلاثة من كبار الاقتصاديين في هذه المنظمة المعروفة بحذرها، بنشر ورقة تتساءل عن فوائد النيوليبرالية. وبذلك، ساهموا في وضع حد لفكرة أن هذا المصطلح ليس أكثر من كونه افتراءً سياسيًا، أو أن يكون مصطلحًا من دون أي قوة تحليلية. لقد دعت هذه الورقة بكل روية إلى برنامج نيوليبرالي للدفع قدمًا نحو تحرير الاقتصادات حول العالم، وإجبار الأسواق الوطنية المفتوحة على التجارة وتدفق رأس المال، وكذا مطالبة الحكومات بالانكماش على نفسها عن طريق التقشف أو الخصخصة. كما واستشهد المؤلفون بدليل إحصائي حول انتشار سياسات النيوليبرالية منذ عام 1980 وارتباطها بالنمو الهزيل ودورات الازدهار والكساد واللامساواة.
ويعود تاريخ مصطلح النيوليبرالية إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن تم إحياؤه بطريقة تصف سياستنا الحالية أو بتعبير أدق تصف نطاق الفكر الذي تسمح به سياساتنا. ففي أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، كانت النيوليبرالية طريقة لتحميل مسؤولية الكارثة إلى مؤسسة تنازلت عن سلطتها إلى السوق وليس إلى حزب سياسي في حد ذاته، ولكن بالنسبة للديمقراطيين في الولايات المتحدة وحزب العمال في المملكة المتحدة، تم تصوير هذا الامتياز على أنه خيانة بشعة للمبادئ. وقيل أن بيل كلينتون وتوني بلير قد تخليا عن التزامات اليسار التقليدية، وخاصة تجاه العمال لصالح النخبة المالية العالمية وسياسات المنفعة الذاتية التي أَثْرَتْهم. وبذلك تم تكريس ارتفاع مشين لعدم المساواة.
على مدار السنوات القليلة الماضية، عندما ازدادت حدة النقاشات، أصبحت الكلمة بمثابة سلاحٍ بليغ، وطريقة لأي شخص يساري لتجريم أولئك اليمينيين ولو بالقدر القليل (فلا عجب أن يقول الوسطيون بأنها إهانة غير مبررة: فَهُم حقيقة أكثر من يتعرض للإهانة بسبب اللفظة).
إذا نظرت من خلال عدسة النيوليبرالية، سترى بوضوح أكثر كيف ساعد المفكرون السياسيون الأكثر إعجابًا بتاتشر وريغان في تشكيل النموذج المثالي للمجتمع كسوق عالمي إلى حد ما (وليس على سبيل المثال دولة مدنية أو مجال مدني أو أي نوع عائلي) وكذا اعتبار البشر كآلات حاسبة للربح والخسارة (وليسوا أصحاب حقوق وواجبات غير القابلة للتصرف). بالطبع فقد كان الهدف هو إضعاف دولة الرفاهية وأي التزام بالتوظيف الكامل - ودائمًا - لغرض خفض الضرائب ورفع القيود. لكن النيوليبرالية تشير إلى شيء أكثر من مجرد قائمة رغبات أساسية لليمينيين؛ بل كانت طريقة لإعادة ترتيب الواقع الاجتماعي، وإعادة التفكير في مكانتنا كأفراد.
وبالنظر أكثر عبر ذات العدسة، ترى كيف أن السوق الحرة هي اختراع بشري مثله مثل "دولة الرفاهية". كما ترى إلى أي مدى نحن مطالبون الآن بالتفكير في أنفسنا كمالكين لمواهبنا ومبادراتنا، وكيف يُطلب منا ببراعة أن ننافس ونتكيف. كما ترى أيضًا إلى أي مدى كانت اللغة تقتصر سابقًا على شروحات السبورة لوصف أسواق السلع الأساسية (كالمنافسة، والمعلومات متناهية الدقة، والسلوك العقلاني) حيث تم تطبيقها على المجتمع بأسره، حتى حاصرت النيو ليبرالية حياتنا الشخصية بكل جرأة، وكيف أصبحت ثقافة البيع والشراء متورطة في جميع أنماط التعبير عن الذات.
باختصار، النيوليبرالية ليست مجرد اسم لسياسات دعم السوق، أو لتنازلات الرأسمالية لتمويل فشل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، بل هي اسم لفرضية أتت بهدوء لتنظيم كل ما نمارسه ونؤمن به، بأن المنافسة هي المبدأ التنظيمي الشرعي الوحيد للنشاط البشري.
في الوقت الذي تم التصديق فيه على حقيقة النيوليبرالية وما إن تم الكشف عن نفاق السوق العالمي، حتى وصل أتباع النظرية الشعبية والسلطويون إلى الحكم. ففي الولايات المتحدة، خسرت هيلاري كلينتون - العدو اللدود للنيوليبرالية- أمام رجل عَرف ما يكفي ليتظاهر بأنه يكره التجارة الحرة. فهل العدسات الآن عديمة الفائدة؟ هل يمكنهم فعل أي شيء لمساعدتنا على فهم الإخفاقات في السياسة البريطانية والأمريكية؟ وما علاقة ضيق الأفق العسكري لبريكست بريطانيا وأمريكا الترامبية بالعقلانية النيوليبرالية؟
الأمر لا يقتصر على أن السوق الحرة تنتج كادرًا صغيرًا من الفائزين يقابله جيش هائل من الخاسرين، وأن هذا الأخير أصبح يبحث عن الانتقام، وتحول للحديث عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "البريكست" وعن ترامب. لقد كانت هناك منذ البداية علاقة حتمية بين مثالية السوق الحرة والواقع البائس الذي نجد أنفسنا فيه، وبين السوق باعتباره مصدرًا فريدًا للقيمة وحارسًا على الحرية وبين انحدارنا الحالي إلى ما بعد الحقيقة واللا ليبرالية.
يبدو على ما أعتقد، أنه لدفع الجدل الذي لا معنى له حول النيوليبرالية، يُأخذ بجدية مقياس تأثيرها التراكمي علينا جميعًا، بغض النظر عن الانتماء. وهذا يتطلب العودة إلى أصولها التي لا علاقة لها ببيل كلينتون أو هيلاري كلينتون. فقد كان هناك في أحد المرات مجموعة من الأشخاص أطلقوا على أنفسهم وبكل فخر اسم النيوليبراليين، حيث كان طموحهم تحقيق ثورة شاملة في الفكر. وكان من أبرزهم فريدريك هايك، هذا الأخير لم يكن يعتقد أنه يتبنى موقفا في الطيف السياسي، أو أن يختلق الأعذار للأثرياء السذج، أو أن يعبث بالاقتصاد الجزئي على امتداد حوافه.
لقد كان هايك يعتقد بأنه يحل مشكلة الحداثة: مشكلة المعرفة الموضوعية؛ بالنسبة له، لم يقتصر دور السوق على تسهيل التجارة في السلع والخدمات، لكنه تعداه إلى مرحلة كشف الحقيقة. فكيف انهار طموحه إلى نقيضه؟
عندما خطرت الفكرة لفريدريك هايك في عام 1936، كان يعلم بقناعة تامة أنه قد أصاب شيئًا جديدًا. حيث كتب: "كيف يمكن للجمع بين أجزاء المعرفة الموجودة في عقول مختلفة، أن يؤدي إلى نتائج خاصة إذا ما تم التوصل إليها بطريقة قصدية، فذلك سيتطلب معرفة من جانب العقل الموجه، وهذا مما لا يمكن لفرد واحد امتلاكه؟"
لم تكن هذه نقطة فنية حول أسعار الفائدة أو الانكماش. لم يكن هذا جدالًا رجعيًا ضد الجماعية أو دولة الرفاهية. كانت هذه طريقة ولادة عالم جديد. فقد أدرك هايك بحماسته المتزايدة أنه يمكن اعتبار السوق نوعًا من العقل.
لقد منحتنا اليد الخفية لآدم سميث بالفعل المفهوم الحديث للسوق كمجال مستقل للنشاط البشري. وبالتالي، من المحتمل، أن يكون موضوعًا قيمًا للمعرفة العلمية. لكن سميث كان حتى نهاية حياته من القرن الثامن عشر، فيلسوفًا أخلاقيًا. فقد كان يعتقد أنه لا يمكن تبرير معاملات السوق إلا في ضوء الفضيلة الفردية، كما كان قلقًا من أن المجتمع الذي لا يحكمه شيء سوى المصلحة الذاتية في هذه المعاملات بأنه ليس مجتمعًا على الإطلاق. إن النيوليبرالية وبلا شك هي الوجه الآخر لآدم سميث.
إن الافتراض بأن هايك هو جد النيو ليبرالية -هذا الأسلوب الفكري الذي يختصر كل شيء في الاقتصاد- يعدّ من المفارقات نظرًا لأنه كان اقتصاديًا متوسط المستوى. لقد كان مجرد شاب تكنوقراطي وغامض في فيينا عندما تم تجنيده في كلية لندن للاقتصاد للتنافس مع جون ماينارد كينز في جامعة كامبريدج أو حتى لخطف الأنظار عن هذا الأخير.
لقد جاءت خطة هايك بنتائج عكسية، وخسر أمام كينز خسارة فادحة. حيث رُحّب بنظرية كينز العامة للتوظيف والفائدة والمال التي نُشرت في عام 1936 باعتبارها إبداعا فنيا. لتسيطر نظرية كينز على النقاش العام، خاصة بين الاقتصاديين الإنجليز الشباب في التدريب، الذين كانوا يعتبرون كينز اللامع والمندفع والاجتماعي هو مثلهم الأعلى. فبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، توصل العديد من المسوقين الأحرار البارزين إلى طريقة تفكير كينز، معترفين بأن الحكومة قد تلعب دورًا في إدارة الاقتصاد الحديث. عندها تلاشت الحماسة الأولية بشأن قضية هايك، ففكرته الغريبة القائلة بأن عدم القيام بأي شيء يمكن أن يعالج الكساد الاقتصادي قد فقدت مصداقيتها من الناحية النظرية والعملية. ليعترف لاحقًا أنه تمنى لو يتم نسيان وبكل بساطة عمله الذي انتقد فيه كينز.
لقد ظهر هايك بمظهر سخيف للغالية كبروفيسور طويل القامة، منتصب ذو لهجة ثقيلة مرتديًا حذاء برقبة، يصر على مناداته رسميًا ب "فون هايك" لكنه يلقب بقسوة "السيد فلوكتوتشن" (“Mr Fluctooations”) في غيابه. في عام 1936، كان أكاديميًا بلا ملف إنجاز ولا مستقبل واضح. ومع ذلك، نحن نعيش الآن في عالمه، كما عشنا ذات مرة في عالم كينز. وقال لورنس سمرز، مستشار كلينتون والرئيس السابق لجامعة هارفارد، أن مفهوم هايك لنظام الأسعار ووصفه بالعقل هو "بمثابة فكرة مخترقة ومبتكرة تمامًا كفكرة الاقتصاد الجزئي الذي تم إنتاجه في القرن العشرين" و"هو أهم شيء يجب تعلمه من دورة علم الاقتصاد اليوم". فهذا يسوقُها بثمن بخس. إن كينز لم يصنع الحرب الباردة أو يتنبأ بها، لكن تفكيره قد شق طريقه إلى كل جانب من جوانب عالم الحرب الباردة، كما نسج تفكير هايك نفسه في كل جانب من جوانب عالم ما بعد 1989.
لقد كانت وجهة نظر هايك شاملة للعالم كطريقة لهيكلة كل الواقع على نموذج المنافسة الاقتصادية. فهو يبدأ بافتراض أن كل الأنشطة البشرية تقريبًا هي شكل من أشكال الحساب الاقتصادي، وبالتالي يمكن استيعابها في المفاهيم الرئيسية للثروة والقيمة والتبادل والتكلفة وخاصة السعر. فالأسعار هي وسيلة لتخصيص الموارد النادرة بكفاءة، حسب الحاجة والمنفعة، كما يحكمها العرض والطلب. ولكي يعمل نظام الأسعار بكفاءة، يجب أن تكون الأسواق حرة وقادرة على المنافسة. منذ أن تخيل سميث الاقتصاد كمجال مستقل، كان هناك احتمال أن السوق قد لا يكون مجرد قطعة واحدة من المجتمع، بل هو المجتمع برمته.
وفي مثل هذا المجتمع، يحتاج الرجال والنساء فقط إلى اتباع مصلحتهم الذاتية والتنافس على المكافآت النادرة. فمن خلال المنافسة، "يصبح من الممكن"، كما كتب عالم الاجتماع ويل ديفيز، "أن نستشف الأشياء التي لها قيمة".
إن ما يراه أي شخص مطلع على التاريخ كحصن ضروري ضد الاستبداد والاستغلال -"بأن طبقة وسطى مزدهرة ومجال مدني ومؤسسات حرة ووجود الاقتراع العام وحرية التعبير والتظاهر والدين والصحافة هي اعتراف أساسي بأن الفرد هو صاحب الكرامة"- لم يحتل مكانة خاصة في فكر هايك. فقد بنى هذا الأخير افتراضًا في النيوليبرالية ينص على أن السوق يوفر كل الحماية اللازمة ضد الخطر السياسي الحقيقي الوحيد ألا وهو الاستبداد. ولمنع ذلك، تحتاج الدولة فقط إلى إبقاء السوق حرة.
هذا الأخير هو ما أعطى لمفهوم النيوليبرالية مسحة "الجديدة"، الليبرالية الجديدة. إنه تعديل مهم للإيمان القديم بالسوق الحرة مع وجود الحد الأدنى من تدخل الدولة، والمعروف باسم "الليبرالية الكلاسيكية". ففي هذه الأخيرة، طلب التجار من الدولة ببساطة أن تتركهم وشأنهم وأن تدعهم يعملوا دون تدخل منها. حينها أدركت النيوليبرالية أن الدولة يجب أن تكون نشطة في تنظيم اقتصاد السوق. والشروط التي تسمح بإنشاء سوق حرة يجب أن تكون مكسبا سياسيًا، كما يجب إعادة تصميم الدولة لدعم السوق الحرة بشكل مستمر.
هذا ليس كل شيء، فكل جانب من جوانب السياسة الديمقراطية من اختيارات الناخبين إلى قرارات السياسيين يجب أن يخضع لتحليل اقتصادي بحت. يتعين على صانعي القرار أن لا يتدخلوا في تغيير ما تم إنجازه حتى لا يشوهوا الإجراءات الطبيعية للسوق، وبالتالي توفر الدولة بشكل نموذجي إطارًا قانونيًا ثابتًا ومحايدًا وعالميًا تعمل فيه قوى السوق تلقائيا. فلا يكون الاتجاه الواعي للحكومة هو المفضل بالنسبة "للآلية التلقائية للتكيف" أي نظام الأسعار، والذي لا يتسم بالكفاءة فحسب، بل يزيد من الحرية إلى أقصى حد، أو يتيح للرجال والنساء اتخاذ خيارات حرة بشأن حياتهم.
بينما كان كينز يتنقل بين لندن وواشنطن، ليخلق نظام ما بعد الحرب، جلس هايك عابساً في كامبريدج حيث تم إرساله إلى هناك أثناء عمليات الإجلاء في زمن الحرب. واشتكى من أنه كان محاطًا بـ"الأجانب" وعدد كاف من الشرقيين من جميع الأنواع والأوروبيين من جميع الجنسيات تقريبًا، في مقابل عدد القليل جدًا من أصحاب الذكاء الحقيقي.
لقد كان عالقًا في إنجلترا، من دون تأثير أو احترام، عزاؤه الوحيد كان فكرته التي يمتلكها. إنها فكرة عظيمة لدرجة أنها ستذيب الأرض يومًا ما تحت أقدام كينز وكل مثقف آخر. وإذا ما تُرك نظام الأسعار لأجهزته الخاصة، فإنه سيعمل كعقل عالم بكل شيء؛ فالسوق يتناول ما لا يستطيع الأفراد فهمه. لقد كتب الصحفي الأمريكي والتر ليبمان إلى هايك في محاولة للوصول إليه باعتباره رفيقًا فكريًا في السلاح، قائلاً: "لم يفهم أي عقل بشري مخطط المجتمع بأكمله... ففي أفضل الأحوال، يمكن للعقل أن يفهم نسخته الخاصة به من المخطط، وهي شيء ضئيل جدا ينقل للواقع ما تنقله صورة ظلية لرجل".
إنه ادّعاء معرفي كبير أن السوق وسيلة للمعرفة، والتي تتجاوز بشكل جذري قدرة أي عقل فردي. وهذا السوق ليس مجرد اختراع بشري يمكن التلاعب به مثل أي اختراع آخر، بل هو قوة يجب دراستها واسترضاؤها.
لم يعد علم الاقتصاد أسلوبًا -كما اعتقد كينز- لتحقيق غايات اجتماعية مرغوبة مثل النمو أو استقرار الأموال؛ لقد كانت الغاية الاجتماعية الوحيدة هي صيانة السوق في حد ذاته.
يشكّل السوق بمعرفته المطلقة الشكل الشرعي الوحيد للمعرفة حيث تكون جميع أنماط التفكير الأخرى جزئية، بكل ما تحمل الكلمة من معنى: فهم لا يفهمون سوى جزءا من الكل ويقومون بالدفاع عن مصلحة خاصة. كأفراد، هل قيمنا هي قيم شخصية أم أنها مجرد آراء؟ أما كجماعات فهل يقوم السوق بتحويل هذه القيم إلى أسعار أو حقائق موضوعية؟
بعد غياب هايك عن أكاديمية لندن للاقتصاد، لم يحظ بأي تعيين دائم غير مدفوع الأجر من قبل الشركات الراعية. حتى زملائه المحافظين في جامعة شيكاغو- المركز العالمي للمعارضة التحررية في خمسينيات القرن الماضي - اعتبروا هايك بوقًا رجعيًا، و"رجل الجناح الأيمن للأسهم" يموله "الراعي اليميني للأسهم" على حد تعبير أحدهم. في أواخر عام 1972، كان بإمكان أحد الأصدقاء زيارة هايك، حيث كان موجودا في سالزبورغ، ليجد رجلاً مسنًا جاثمَا مشفقا على نفسه ومعتقدًا أن عمله في حياته كان عبثًا. وأن لا أحد اهتم بما كتبه!
ومع ذلك، كانت هناك بوادر تبعث على الأمل حيث أن هايك كان يُعتبَر الفيلسوف السياسي المفضل لباري جولدووتر وقيل إنه كان يعتبر كذلك بالنسبة لرونالد ريغان ومارجريت تاتشر. قامت هذه الأخيرة بتكريم هايك، ووعدت بجمع فلسفته الخاصة بالسوق الحرة مع إحياء قيم العصر الفيكتوري: فيما يخص الأسرة، والمجتمع، والعمل الجاد.
حظي هايك بلقاء خاص مع تاتشر في عام 1975، في نفس اللحظة التي عُينت فيها زعيمة للمعارضة في المملكة المتحدة، عندما كانت تستعد لإحضار فكرته الكبيرة من على الرفوف وإدراجها في التاريخ. حيث اجتمعا لمدة 30 دقيقة في معهد الشؤون الاقتصادية بشارع لورد نورث في لندن؛ وعقب اللقاء مباشرة، قام موظفو تاتشر بسؤال هايك وهم قلقون بشأن ما يفكر فيه وماذا عساه أن يقول؟ ولأول مرة ومنذ 40 عامًا، عكست السلطة لفريدريك فون هايك صورته الذاتية الفذة، كرجل قد يهزم كينز يوما ويعيد تشكيل العالم من جديد. حينها رد قائلا: إنها جميلة جدا.
إن فكرة هايك الكبيرة لا تبدو لك بتلك الأهمية حتى تقوم بتضخيمها. إنها كعمليات متناسقة وتلقائية وأنيقة تبدو كمليون أصبع على لوحة الويجا تنسق من أجل الحصول على نتائج غير مخطط لها بخلاف نتائج الويجا. ويتم تطبيق هذه العمليات على سوق فعلي - كسوق لحوم الخنزير أو عقود الذرة الآجلة - هذا الوصف ليس أكثر من مجرد حقيقة بديهية يمكن توسيعه ليصف كيف أن الأسواق المختلفة في السلع والعمالة وحتى المال نفسه تشكل ذلك الجزء من المجتمع المعروف باسم "الاقتصاد". هذا أقل شيوعًا لكنه لا يزال غير منطقي. ولحسن الحظ أن كينيز يقبل هذا الوصف بسعادة. ولكن ماذا لو ارتقينا بالسوق خطوة أخرى؟ ماذا لو أعدنا تصور المجتمع كله كنوع من السوق؟
كلما توسعت فكرة هايك، زادت ردة فعلها، وكلما اختبأت وراء تظاهرها بالحياد العلمي - كلما سمحت للاقتصاد بالارتباط مع الاتجاه الفكري الرئيسي للغرب منذ القرن السابع عشر. أدى العلم الحديث إلى ظهور مشكلة؛ إذا كان العالم مطيعًا بشكل عام للقوانين الطبيعية، فماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ هل الإنسان مجرد كائن في العالم، مثل أي كائن آخر؟ يبدو أنه لا توجد طريقة لاستيعاب التجربة الإنسانية الداخلية الذاتية في الطبيعة كما يتصورها العلم - كشيء موضوعي نكتشف قواعده من خلال الملاحظة.
كل شيء يتعلق بالثقافة السياسية في فترة ما بعد الحرب كان في صالح جون ماينارد كينز والدور الموسع للدولة في إدارة الاقتصاد. لكن كل شيء يتعلق بالثقافة الأكاديمية لما بعد الحرب كان في صالح فكرة هايك الكبيرة.
قبل الحرب، حتى أكبر الاقتصاديين اليمينيين كانوا يعتقدون أن السوق وسيلة لتحقيق غاية محدودة، الكفاءة في تخصيص الموارد النادرة. منذ عهد آدم سميث في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وحتى أيام الأعضاء المؤسسين لمدرسة شيكاغو في سنوات ما بعد الحرب، كان من الشائع الاعتقاد بأن الغايات النهائية للمجتمع والحياة، قد تأسست في غير المجال الاقتصادي.
بناء على وجهة النظر هذه، يتم حل مسائل القيمة سياسيًا وديمقراطيًا من خلال التفكير الأخلاقي والمشاورات العامة وليس اقتصاديًا. عُثر على التعبير الكلاسيكي الحديث لهذا الاعتقاد سنة 1922 عبر مقال فرانك نايت الذي وصل شيكاغو قبل عقدين من هايك وكان عنوان المقال الأخلاق والتفسير الاقتصادي، كتب نايت: "إن النقد الاقتصادي العقلاني للقيم يعطي نتائج تنافي الفطرة السليمة".
لقد خاض الاقتصاديون كفاحًا لمدة 200 عام مع مسألة كيفية وضع القيم التي يُنظم المجتمع التجاري على أساسها بما يتجاوز المصلحة الذاتية والحسابات. كان نايت، جنبًا إلى جنب مع زملائه هنري سيمونز وجاكوب فينر، معادين لفرانكلين روزفلت وتدخلات السوق المتعلقة ب"الصفقة الجديدة"، وقد أسسوا جامعة شيكاغو باعتبارها موطنًا فكريًا صارمًا لاقتصاديات السوق الحرة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. ومع ذلك، بدأ كل من سيمونز وفينر ونايت حياتهم المهنية قبل أن يقوم علماء الفيزياء الذرية من ذوي المكانة الرفيعة باستقطاب أموالٍ هائلة لصالح النظام الجامعي وروجوا للعلم "الصعب" في ما بعد الحرب. لم يقدسوا المعادلات أو النماذج، وكانوا قلقين بشأن الأسئلة غير العلمية. وبشكل أكثر وضوحًا، كانوا قلقين بشأن مسائل مرتبطة بالقيمة، حيث كانت القيمة مختلفة تمامًا عن السعر.
لم يكن الأمر يتعلق فقط بأن سيمونز وفينر ونايت كانوا أقل تزمتًا من هايك، أو كانوا أكثر استعدادًا للعفو عن الدولة بسبب الضرائب والإنفاق، لم يكن الأمر أن هايك كان رئيسهم الفكري.
لكنهم أقروا كمبدأ أولي أن المجتمع يختلف تمامًا عن السوق، وأن السعر ليس كالقيمة. هذا ما جعل التاريخ يبتلعهم بالكامل. هايك هو الذي أوضح لنا كيفية الانتقال من الحالة اليائسة المتمثلة في التحيز البشري إلى الموضوعية المهيبة للعلم. تعمل فكرة هايك الكبيرة كحلقة مفقودة بين طبيعتنا البشرية الذاتية والطبيعة نفسها. وبذلك، فإنه يضع أي قيمة لا يمكن التعبير عنها كسعر – أي كحكم السوق.
أكثر من أي شخص آخر، حتى أكثر من هايك نفسه، الاقتصادي العظيم ميلتون فريدمان هو الذي ساهم في فترة ما بعد الحرب في شيكاغو في تحويل الحكومات والسياسيين إلى قوة فكرة هايك الكبيرة، لكنه كسر أولاً قرنين سابقين وأعلن أن علم الاقتصاد "مستقل من حيث المبدأ عن أي موقف أخلاقي معين أو أحكام معيارية" وهو علم "موضوعي"، تمامًا مثل أي من العلوم الفيزيائية ". كانت القيم من النوع العقلي والمعياري القديم معيبة، وشكلت "اختلافات لا يمكن في نهاية المطاف إلا محاربتها". بعبارة أخرى هناك السوق وهناك النسبية.
تطبيق فكرة هايك الكبيرة على كل جانب من جوانب حياتنا ينفي أكثر ما يميزنا. ذلك أنها تسند ما هو إنساني في الوجود البشري أي عقولنا وإرادتنا إلى الخوارزميات والأسواق مما يدفعنا لتقليد مثاليات النماذج الاقتصادية المنكمشة، مثل الزومبي.
إن تضخيم فكرة هايك ورفع مستوى نظام الأسعار جذريًا إلى نوع من المعرفة الاجتماعية الشاملة يعني التقليل جذريا من أهمية قدرتنا الفردية على التفكير - قدرتنا على تقديم وتقييم مبررات أفعالنا ومعتقداتنا.
نتيجة لذلك، لم يعد المجال العام - المساحة التي نقدم فيها الأسباب، ونعترض من خلالها على أسباب الآخرين - مساحة للنقاش، وأصبح سوقًا للنقرات والإعجابات وإعادة التغريد. الإنترنت هو تفضيل شخصي تضخّمه الخوارزمية؛ مساحة عامة زائفة تعكس صدى الصوت الموجود بالفعل داخل رؤوسنا. بدلاً من مساحة للنقاش نشق فيها طريقنا، كمجتمع، نحو الإجماع؛ يوجد الآن جهاز تأكيد متبادل يُشار إليه بشكل مبتذل على أنه "سوق للأفكار".
ما يبدو كشيء عام وواضح ما هو إلا امتداد لآرائنا وتحيزاتنا ومعتقداتنا الموجودة مسبقًا، في حين اُستبدلت سلطة المؤسسات والخبراء بالمنطق التجميعي للبيانات الضخمة. عندما نصل إلى العالم من خلال محرك بحث، تُصنّف نتائجه كما وصف ذلك مؤسس Google، "بشكل متكرر" -من خلال عدد لا حصر له من المستخدمين الفرديين الذين يعملون بشكل مستمر وفي الزمن الحقيقي كسوق.
بغض النظر عن الخدمات الرائعة للتكنولوجيا الرقمية، كان التقليد الأقدم والأكثر إنسانية والذي كان سائدًا لعدة قرون، يميز دائمًا بين أذواقنا وتفضيلاتنا - الرغبات التي يُعبر عنها في السوق - وقدرتنا على التفكير في تلك التفضيلات، مما يمكننا من تشكيل القيم والتعبير عنها.
كتب الفيلسوف والخبير الاقتصادي ألبرت أو هيرشمان ذات مرة: "يُعرّف الذوق على أنه تفضيل لا يقبل النقاش". "الذوق الذي تتجادل بشأنه، مع الآخرين أو مع نفسك، يتوقف بحكم الواقع عن كونه ذوقا - ويتحول إلى قيمة." وقد ميز هيرشمان بين ذلك الجزء من الذات وهو المستهلك، والجزء من الآخر من الذات والذي يورد الأسباب. يمتلك السوق القدرة على كشف واستبصار ما أسماه هيرشمان بالتفضيلات التي "يكشف عنها الوكلاء وهم يشترون السلع والخدمات". ولكن، على حد تعبيره، فإن الرجال والنساء أيضًا "لديهم القدرة على التراجع عن رغباتهم المكشوفة وإرادتهم وتفضيلاتهم، ليسألوا أنفسهم عما إذا كانوا يريدون حقًا هذه الرغبات ويفضلون هذه التفضيلات".
إننا نشكل ذواتنا وهوياتنا على أساس هذه القدرة على الاستبصار. إن استخدام قوى الاستبصار الفردية هو بمثابة العقل؛ الاستخدام الجماعي لقوى الاستبصار نفسها هو العقل الجمعي؛ واستخدامه لسن القانون والسياسة هو الديمقراطية بحد ذاتها. عندما نقدم أسبابًا لأفعالنا ومعتقداتنا، نأتي إلى الوجود أفرادا وجماعات، نقرر من نحن وماذا نكون.
وفقًا لمنطق الفكرة الكبيرة لهايك، فإن هذه التعبيرات عن الذاتية البشرية، كما قال فريدمان، تظل نسبية ولا معنى لها دون مصادقة السوق.
عندما تُحدَّد الحقيقة الموضوعية الوحيدة من قبل السوق، فإن جميع القيم الأخرى لها مكانة الآراء المجردة. لكن "نسبية" فريدمان هي تهمة يمكن إلقاؤها في أي ادعاء قائم على العقل البشري. إنها إهانة غير منطقية، بما أن جميع المساعي الإنسانية "نسبية" بطريقة لا تشمل العلوم. إنها مرتبطة بالحالة (الخاصة) لامتلاك العقل، وحاجة الجمهور إلى التفكير والفهم حتى في حال عدم القدرة على توقع دليل علمي. عندما لا يتم حل نقاشاتنا عن طريق المداولات حول الأسباب، فإن أهواء القوة ستحدد النتيجة.
هذا هو المكان الذي يلتقي فيه انتصار النيوليبرالية بالكابوس السياسي الذي نعيشه الآن. تقول النكتة القديمة: "لم يكن لديك سوى مهمة واحدة"، وكان مشروع هايك الكبير، كما تم تصوره في الأصل في الثلاثينيات والأربعينيات، معدًّا بوضوح لمنع الانزلاق إلى الفوضى السياسية والفاشية. لكن الفكرة الكبيرة لهايك كانت دائمًا هذه الفظاعة التي ينتظر حدوثها. كانت، منذ البداية، حاملة للشيء الذي قيل إنها تحمي منه. إن إعادة تصور المجتمع كسوق عملاق يؤدي إلى خسارة الحياة العامة في الخلافات حول الآراء المجردة؛ بذلك يتحول الجمهورالمحبط إلى رجل قوي كملاذ أخير لحل مشاكله المستعصية.
في عام 1989، طرق مراسل أمريكي باب هايك البالغ من العمر 90 عامًا. كان يعيش في فرايبورغ، بألمانيا الغربية، في شقة بالطابق الثالث في منزل من الجص في أوراشستراس. جلس الرجلان في غرفة مشمسة تطل نوافذها على الجبال، وسحب هايك، الذي كان يتعافى من الالتهاب الرئوي، بطانية على ساقيه بينما كانا يتحدثان. لم يعد هذا هو الرجل الذي انغمس ذات مرة في هزيمته على يد كينز. كانت تاتشر قد كتبت للتو إلى هايك بنبرة انتصار الألفية. لم يكن أي مما حققته هي وريغان "ممكنًا بدون القيم والمعتقدات التي تضعنا على الطريق الصحيح وتوفر الإحساس الصحيح بالوجهة". كان هايك الآن مبتهجًا ومتفائلًا بشأن مستقبل الرأسمالية.
كما كتب الصحفي، "يرى هايك تقديرًا أكبر للسوق بين جيل الشباب. اليوم، لا يعمل الشباب العاطل عن العمل في الجزائر العاصمة ورانغون من أجل دولة الرفاهية المخطط لها مركزياً، بل من أجل الفرص: حرية الشراء والبيع - الجينز والسيارات، وأي شيء آخر - مهما كانت الأسعار التي سيتحملها السوق".
بعد ثلاثين عاما، يمكن القول بإنصاف أن انتصار هايك لا مثيل له. نحن نعيش في جنة أسستها فكرته الكبيرة.
كلما أمكن جعل العالم أقرب إلى سوق مثالي تحكمه فقط المنافسة الكاملة، أصبح السلوك البشري "العلمي" في الإجمال أكثر تشابهًا مع القانون. كل يوم نحن أنفسنا - لا أحد يجب أن يخبرنا بعد الآن! - نسعى جاهدين لنصبح أشبه بمشترين وبائعين متناثرين ومنفصلين ومجهولين؛ وكل يوم نتعامل مع الرغبة المتبقية في أن نكون شيئًا أكثر من مجرد مستهلك على أنها نوستالجيا أو نخبوية.
كل شيء -بدأ كشكل جديد من أشكال السلطة الفكرية، متجذرًا في نظرة عالمية متدينة وغير سياسية- دفع بسهولة إلى سياسة شديدة الرجعية. يقول الاقتصادي إن ما لا يمكن قياسه يجب ألا يكون حقيقياً، وكيف تقيس فوائد المعتقدات الجوهرية للتنوير - أي التفكير النقدي والاستقلالية الشخصية والحكم الذاتي الديمقراطي؟ عندما تخلينا عن العقل باعتباره شكلاً من أشكال الحقيقة، لما له من مخلفات محرجة عن الذاتيةٰ وجعلنا العلم هو الحكم الوحيد على كل ما هو حقيقي وصحيح، أنشأنا فراغًا كان العلم الزائف سعيدًا بملئه.
إن سلطة الأستاذ أو المصلح أو المشرع أو الفقيه لا تنبع من السوق، بل من القيم الإنسانية مثل الروح الجماعية أو الضمير أو التوق إلى العدالة. قبل وقت طويل من بدء إدارة ترامب في تحقيرهم، فَقَدَت مثل هذه الشخصيات مكانتها البارزة؛ من المؤكد أن هناك علاقة بين تهميشها المتزايد وانتخاب ترامب، فهو رجل بدون مبادئ أو قناعة ليكون شخصية متسقة؛ رجل بلا عقل، يدير العالم، أو على الأقل يخربه. بصفته حكيمًا في مجال العقارات في مانهاتن، فإن ترامب يعلم: أن خطاياه لم تُعاقب في السوق بعد.صورة widgetصورة widget