بعد عودتها من زيارة لإحدى صديقاتها، جلست الزوجة تصف لزوجها طعام العشاء اللذيذ، وطَبق السمك المقلي الذي لم تذق مثله من قبل، فطلب الزوج من زوجته أن تأخذ الطريقة ليذوق هذا الطبق الشهي.
اتصلت الزوجة بصديقتها وسألتها عن الطريقة، وبدأت في كتابة الطريقة وصديقتها تحدثها فتقول «نظفي السمكة ثم اغسليها، ضعي البهار، ثم اقطعي الرأس والذيل، ثم أحضري المقلاة..» هنا قاطعتها الزوجة: ولماذا قطعت الرأس والذيل؟
فكرت الصديقة قليلا، ثم أجابت: لقد رأيت والدتي تعمل ذلك، لكن دعيني أسألها. اتصلت الصديقة بوالدتها وبعد السلام سألتها: عندما كنت تُعِدين لنا طبق السمك المقلي اللذيذ، لماذا كنت تقطعين رأس السمكة وذيلها؟ أجابت الوالدة: لا اعلم ما السبب فقد رأيت جدتك تفعل ذلك! لكن دعيني أسألها. اتصلت الوالدة بالجدة، وبعد الترحيب سألتها: أتذكرين طبق السمك المقلي الذي كان يحبه أبي، ويثني عليك عندما يأكله؟ فأجابت الجدة: بالطبع، فبادرتها قائلة: ولكن ما السر وراء قطع رأس السمكة وذيلها؟ أجابت الجدة بكل بساطة وهدوء: كانت حياتنا بسيطة وقدراتنا متواضعة ولم يكن لدي سوى مقلاة صغيرة لا تتسع لسمكة كاملة!!
تمثل هذه القصة واقع الكثير من العاملين في المؤسسات والإدارات والشركات، فهم يستمرون بالقيام بنفس الأعمال الروتينية، والإجراءات التقليدية، والتفكير في الحلول المتكررة، دون التفكير في المتغيرات والمستجدات لأن أسهل شيء هو أن تفعل ماكنت تقوم به دوماً، دون الحاجة الى التفكير بعمق، وتحليل المشكلة.
والأفكار المقلية لا تأتي بجديد، إنما تقلي ما هو مقلي، وتُعيد ما هو نمطي، وهذا ينشر الرتابة بالمؤسسات، ويُشيع الملل لدى العاملين.
كثير من المحاضرات والندوات والمؤتمرات.. لا يكون فيها أي جديد، وإنما هو قلي المقلي، وتكرار المكرر، والمحاضر يقول أفكارا معلومة لدى الناس، وهو لم يُظْفِ عليها أي إبداع أو تجديد فهو مثل صاحب المقلاة، أفكاره محدودة بلا ذيل ولا رأس.
من أجل التفكير خارج الصندوق
المقصود بالصندوق هي الأنماط السلوكية التي تجعل الإنسان حبيساً لها وتحد من رؤيته للفرص والحلول التي تزخر بها حياتنا.
التفكير داخل الصندوق، يجعلنا نفكر ونردد ما فعله الآخرون "مثل المرأة صاحبة المقلاة"، دون أن نشعر وكأن عقولنا داخل صندوق مُحكَم، تخيلوا أننا نفكر في حل مشكلة ما ونحن حبيسو تلك الصناديق. غالباً سوف نحصل على أفكار نمطية جداً، أو حلول خاطئة.
وكل ما سيُردده في حديثه مع الناس، هو مجرد قَلْيُ المقلي، وتفسير للماء بالماء.
ما الذي يجعل الإنسان يفكر داخل الصندوق؟
تؤثر عدة عوامل في جعْلِ الإنسان يفكر داخل الصندوق، منها عوامل وراثية ومنها البيئة التي يعيش فيها، ونوعية التعليم الذي يتلقاه، والتأثر السلبي بالشخصيات النمطية في التفكير. حيث يميل الناس غالبا إلى الاستسلام لأفكار أصحاب المناصب العليا بحجة تجاربهم وخبراتهم في العمل، ولكن سياق تجاربهم قد لا يكون قابلاً للتطبيق في الوقت الحاضر. كما تجد الفرد داخل المدرسة، أو المؤسسة، أو الجمعية، أو الهيئة، أو الوزارة، أو المؤسسة غالبا ما يُردد قول أصحاب الأقدمية في المنصب بدعوى التجربة والخبرة.
نعم يمكن أن نستفيد من تجارب الآخرين، ولكن لا شيء يمنع من التعديل عليها، والتفكير خارج حدودها، لكون الصندوق ليس شيئا يولد مع الإنسان، ويقيد تفكيره "لإن الإبداع خاصية مميزة لجميع البشر عند الولادة" على حسب تعبير أبراهام ماسلو.
التفكير داخل الصندوق يعرقل نمو الأفكار ويمنعها من التكيف مع التطور والتغييرات المتلاحقة. إن البيئة التي نشأ فيها الإنسان، والتعليم النمطي، الأفكار المسبقة، الافتراضات، خبرات الآخرين، والثقافة التي نشأ عليها، وربما العوامل الوراثية وغيرها من العوامل المؤثرة تمنع الإنسان من التفكير خارج الصندوق
كثيرا ما يُصبح الإداري، بشكل خاص، والموظف بشكل عام، بفضل المهام الملقاة على عاتقه، غارقا في كَومة من الأوراق والإحصائيات والتقارير والمراسلات مما تجعله مستنزفا للجهد، مستهلكا للوقت، دون أن تترك له تلك المهام فرصة للقراءة والتفكير "خارج الصندوق"، "أو القفز من الصندوق"
و"ليس هناك أسوأ من تكرار عمل ممل ومعاناة نفس المشاكل، ومواجهة ذات التحديات كل يوم. ورغبة الإنسان في التجديد والتطوير، والتي تتمثل في ابتكار طرق جديدة، وأفكار مبدعة، غالبا ما تصطدم بالروتين القاتل، والأنظمة التقليدية، أو الانتقادات والتعليقات الساخرة، فيُصاب بإحباط يُنهي طموحه" محمد عبد الله المنصور، القفز خارج الصندوق، ص 10.
الأفكار المقلية وقطع الشجرة بمنشار حافٍ..
لنفترض أنّك في الغابة، ومررت بشخص يعمل بِكَدّ من أجل قطع شجرة، فسألته “ماذا تفعل؟”.
فيردّ عليك بصبر نافد “ألا ترى؟ إنّني أحاول قطع شجرة”.
فصِحْت متعجّباً “ولكنّك تبدو منهكاً، منذ متى وأنت تعمل؟”.
فيجيب “منذ أكثر من خمس ساعات، وقدّ تعبت للغاية، فهذا عمل شاق حقاً”.
فتستفسر قائلاً “حسناً لماذا لا تأخذ استراحة لمدّة خمس دقائق وتشحذ المنشار؟ أنا على يقين أنّك لو شحذته، ستنجز العمل بشكل أسرع.
فيرد عليك الرجل:
ليس لدي وقت لشحذ المنشار، فأنا مشغول تماماً، بعملية قطع الشجرة.
إن شحذ المنشار يا صديقي أمر في غاية الأهمية، وربما أهم من العمل في حد ذاته في فترة التعب والنصب، وليكون فعالا، يجب أن نعمل على الجوانب الثلاثة المكونة لنا أي العقل والروح والجسد.
قصة صاحب المنشار تلخص تفكير كثير من الإداريين والموظفين بشكل عام. وبالمناسبة عادة "اشحذ المنشار" توجد ضمن العادات الفعالة المذكورة في كتاب "العادات السبع للناس الأكثر فعالية، للمؤلف ستيفن كوفي.
كيف نتجاوز الأفكار المقلية ونشحذ المنشار؟
أولا: القراءة
ما لا يَحتمل الشك أن القراءة هي أهم وسائل التعليم في حياة أي إنسان، والتي يستطيع من خلالها أن يَكتسب مزيدًا من الأفكار والرُّؤى، والمعارف والعلوم التي تُفيده في سائر مجالات الحياة، ومن خلالها يتمكن الإنسان من تطوير ذاته، والوصول إلى آفاق جديدة.
ولعل أهمية القراءة تتَّضح بشكل أكبر إذا ما نظرنا إلى القرآن الكريم الذي أول ما نزل منه نزل قول الله - سبحانه وتعالى - في سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 - 5] فهذه كانت الكلمات الأولى التي تم توجيهها إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تدلُّ على أن القراءة في الإسلام في غاية الأهمية، والتي يَحرص على نشرها بين أفراد المجتمع.
السمة المشتركة للقادة والمؤثرين والأشخاص الناجحين هي أنهم يداومون على القراءة يوميا.
لتتعلم التفكير خارج الصندوق، ينبغي أن تكون القراءة عادة يومية وضرورة حياتية، مازال هناك اعتقاد راسخ لدى كثيرين منا بأن القراءة هي رفاهية، أو أمر ثانوي نقوم به في أوقات الفراغ، تؤكد أبحاث علمية أن القراءة مفيدة للإنسان على عدة مستويات في الحياة.
ولذا يُنصح الدارسون في مراكز القيادة أو المقبلون على مناصب رفيعة، بمزيد من القراءة والاطلاع. والمتأمل لأبرز القياديين المؤثرين في العالم يجد أن الكتاب هو جليسهم، مهما كانت مشاغلهم.
وحينما تنصح صاحب "التفكير داخل الصندوق" بالقراءة، يُجيبك بأنه ليس لديه وقت لذلك، لكثرة المهام التي يزاولها. ونسي أن القراءة وحسن التخطيط والتدبير، تساهم في زيادة الفعالية، ورفع الإنتاجية. وكما يقول خبراء الإدارة "كل دقيقة تنفقها في التخطيط، توفر عليك عشر دقائق في التنفيذ"، كما أن التخطيط المنتظم يضمن لك أن تنفق وقتاً أكبر في الأنشطة ذات القيمة العالية، وهذا سيزيد الفعالية وكذلك الكفاءة في كل ما تقوم به. كما أن بالقراءة ستكتسب مهارات جديدة، لتدبير الوقت، وحسن استثماره وتحديد وترتيب الأولويات التي ستساعدك على زيادة الكفاءة والإنتاجية.
أيها الإداري، أيها الموظف رغم هذه الفوائد وغيرها، إذا بقيت مُصِّرا على عدم الإبداع والابتكار والتجديد في أفكارك بدعوى أنه ليس لديك متسعا من الوقت للقراءة، فأخشى عليك أن تُصبح مثل "صاحبة المقلاة" أو صاحب المنشار الذي يقطع الأشجار بمنشار حافي الأسنان.
ثانيا: التعلم الذاتي
التعليم هو ما يبقى بعد نسيان ما تعلمه المرء في المدرسة – ألبرت أينشتاين.
يمكن للتعليم الرسمي أن يمنحنا الأدوات التي نحتاجها لكي نصبح متعلمين مدى الحياة، ولكن التعليم الذاتي يمنحنا الأدوات اللازمة لنصبح فاعلين ومبدعين في مجالات مختلفة مدى الحياة، هناك قائمة طويلة بأكثر الأشخاص نجاحا في العالم الذين اعتمدوا على التعليم الذاتي في تطوير قدراتهم الإبداعية.
التعليم الذاتي جزء حيوي من نمو الفرد وتطوره، يركز على بناء وعيك ومعارفك، ويساعد في تطوير المواهب، وتحسين المهارات الشخصية، وبالتالي إدارة نفسك بفعالية تدفعك إلى التحفيز المستمر والإلهام، إنه يساعدك لتكون أفضل نسخة من نفسك، ويساهم في تعزيز مهارات التفكير خارج الصندوق، من خلال طرح الأسئلة، ومحاولة العثور على أجوبة، وحلول مبتكرة للمشاكل.
يكتسي التعلم المستمر أهمية بالغة في تنشيط الدماغ والحفاظ على صحته. والعمل على تطوير ذاتك من خلال التعلم المستمر ليس ضروريًا لتحسين نفسك فحسب، بل يمكن أيضًا أن يساعدك على تحقيق النجاح المهني، فهو يفتح آفاقا جديدة للابتكار والتفكير الإبداعي. قم بتوسيع مداركك، وزيادة معارفك عن طريق القراءة، وحضور دورات تدريبية، ولو عن بُعد والاستماع لأشرطة فيديو تعليمية وتحفيزية.....
ضع خطة أسبوعية، وخطة في الليل، لليوم الموالي. فتشير الأبحاث إلى أنك إذا وضعت مخططك اليومي في الليلة السابقة، بدلا من وضعه في الصباح، فإن عقلك الباطن، سوف يعمل بالفعل أثناء الليل، لمعرفة كيفية الوفاء بخطة يومك التالي.
يجب أن تقوم بالتخطيط في الليلة السابقة، وتقوم بوضع خطة شديدة المرونة، ويمكن أن تتغير في غضون بضع دقائق، وإلا سوف تستمر في الاعتماد على الحدس في ترتيب الأولويات، وتزداد احتمالات أن تتحكم فيك "حالة الطوارئ" في تنفيذ المهام.
التخطيط سيجعلك تبدأ يومك بحيوية ونشاط، ويكون يومك أكثر إنتاجية، لأن"أول ساعة من ساعات اليوم، يمثل المفتاح الثاني نحو زيادة إنتاجيتك. فقد تكون الساعة الأولى من يومك في العمل، هي الساعة الوحيدة الجيدة لك، قبل أن تبدأ في فقدان السيطرة على يومك. إذا ما استطعت أن تقوم بالمهام المفيدة الصعبة في الساعة الأولى من يومك، سوف ترتفع نسبة إمكانية مغادرتك مكان العمل في الموعد الرسمي إلى 90% (إذا ما أردت ذلك). إن تطبيق مبدأ إنجاز المهام "المفيدة الصعبة" سوف يوفر لك الوقت، ويُحسِن من النتائج النهائية لأدائك العمل، ويقلل من التسويف، ويبني ثقتك في ذاتك" كينيث زيجلر: النظام من أجل النجاح، ص 48.
اجعل أفكارك ضخمة عظيمة، وضَعْ لنفسك أهدافا تجعلك في حالة من الإثارة والترقب، لا يعرف النوم معها طريقة إلى جفنيك. الحياة ملأى بالفرص، فلماذا لا تحظى بنصيبك الأوفر منها؟ إذا لم تفعل هذا، ستجد نفسك تشتغل بمنشار صدئ، حافي الأسنان، وسيستغرق عملا جهدا ووقتا كبيرين.
ثالثا: بناء العادات الإيجابية في التفكير
إن العادات الإيجابية تُكتسب بالتدريب والتمرين، فبناء أي عادة يحتاج إلى وقت، وعلماء النفس يحددون إحدى وعشرين يوما لبناء العادات، لكن هذه المدة ليست ثابتة، بل يعتمد ذلك على نوع العادة، فإذا كانت سهلة ويسيرة، احتاج الأمر إلى أسبوعين أو ثلاثة، وقد تكون العادة معقدة، ومركبة، وقد يتطلب هذا الأمر عدة شهور، بل سنوات، لأن طباع البشر تختلف، والعادات نفسها مختلفة عن بعض، فمنها من يحتاج لقوة إرادة عالية، والبعض لا يحتاج إلى ذلك، وعن طريق الإرادة القوية والقراءة، والتعلم الذاتي يمكن اكتساب عادات إيجابية مثل التواصل، والتأثير، والتخطيط والتنظيم واتخاذ القرار، وغيرها من المهارات العقلية والحياتية الإيجابية.
رابعا: كن مبادرا
كن مبادرا، معظم الناس يظلون منتظرين حدوث شيء ما، أو أن يأتي أحد لِيهتمَ بهم، أو يدلهم على ما يقوموا به، هؤلاء غالبا ينتهي بهم الأمر إلى أن يعيشوا على هامش الحياة، ويَصبحوا أشخاصا غير مؤثرين؛ أما المؤثرون، يملكون روح المبادرة، واغتنام الفرص المتاحة، ويسابقون إلى الخيرات، وكما قال الشاعر البارودي:
بادِرِ الفرصةَ واحذَرْ فَوْتَها ****** فبلوغُ العزِّ في نَيْلِ الفُرصْ
فابتَدِرْ مَسْعاك واعلَمْ أنَّ ******مَنْ بادَرَ الصيدَ مَعَ الفجرِ قَنَصْ
فاستثمار المبادرات والفرص، مهم جدًّا، كسبًا للخير، ودعوة للغير، ونشرًا للإيجابية، ومحاربة للسلبية، والمعرفة الآن ليست محصورة في المقررات الدراسية، ولا ما يتلقاه الطالب من مُدرسِّه، خاصة في مجتمع يتميز عصره بالانفجار المعرفي، والمعلوماتي، والتقني السريع، والمتزايد يوما بعد يوم، لذلك يحتاج المتعلمون إلى المبادرة قصد الاستفادة من هذه الثورة المعلوماتية، لاكتساب المعرفة، وتطوير مهارتهم، وصَقل قدراتهم، وأن يخرجوا من الصندوق الذي هم فيه، حتى لا يجدوا أنفسهم على هامش الحياة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من ورثة العلم، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.