تدقيق: أ. إيمان مقري

في 18 يناير 2021 فقدت الأمة الإسلامية العلّامة المُؤرخ الحجي.. ما هي مميزات جهوده في التأريخ للحضارة الإسلامية؟ وهل أتى بجديدٍ في منهجية دراسةِ واستعراض السيرة النبويّة ومركزيتها في تاريخنا؟ لماذَا اهتم بالتأمّل والاعتبار في تاريخِ وحكايا الأندلس "الفردوس المفقود"؟ وما هي المنجزاتُ التي جعلته هائمًا بها؟ 

لمناقشة هذه التساؤلات وغيرها، استضاف عمران الحضارة في 11 فبراير 2021 بشراكة مع منتدى كوالالمبور الدكتور عامر ممدوح من العراق في برنامج ساعة فكر؛ وهو أستاذ مادة التاريخ الأندلسي ومناهج البحث التاريخي وفلسفته في الجامعة العراقية، كلية الآداب.

تقرؤون فيما يلي التفريغ النصي للقاء.

شمس الدين حميود:

 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحييكم وأرحب بكم في حلقة جديدة أو بالأحرى آخر حلقات ساعة فكر.

بداية لا بد لي أن أشير إلى أن المسلمين قبل أيام قد فقدوا المؤرخ المحقق الدكتور عبدالرحمن علي الحجي -رحمه الله- عاشق الأندلس وتاريخها، وأقل جهد ووفاء لجهاد الرجل وبذله في سبيل الأمة هو تسليط الضوء على بعض إسهاماته التاريخية والمعرفية، وقبل ذلك سنتحدث عن التاريخ ودوره وأثره.

 ضيفنا اليوم هو الدكتور عامر ممدوح أستاذ مادة التاريخ الأندلسي ومنهج البحث تاريخي وفلسفته بالجامعة العراقية، دكتور عامر أهلا وسهلا ومرحبا بك معنا. في الحقيقة قبل أن نتحدث عن التاريخ الإسلامي للدكتور الحجي لا بد أن نستطلع السيرة الحافلة للدكتور الراحل واسمح لي أن أبدأها بهذا الاقتباس الذي شدني كثيرا خلال مداخلته أو محاضرته، والذي قال فيه المرحوم عبد الرحمن الحجي وهو يتحدث عن عمله: "بفضل الله جملت نفسي مبكرا" هذه العبارة ربما يراها البعض عبارة بسيطة أو نصف عبارة لكنها في الحقيقة اختصار لجهاده وعبادته، والمرء يسائل نفسه لأي شيء جمل نفسه وبأي الأمور أشغلها، وكما هو معلوم سير العظماء توقظ العزائم

والسؤال هنا موجه للدكتور عامر، لماذا بالضبط الدكتور عبدالرحمن الحجي نتحدث عنه اليوم؟ ما هي خصوصيته؟ ومن هو لمن يجهله من أبناء أمتنا؟
الدكتور عامر ممدوح:

 بسم الله الرحمن الرحيم، فرصة طيبة وسعيدة جدا أن يستضيفنا منتدى كوالالمبور والإخوة الأعزاء كافة وهي فرصة فيها سعادة من جانبين دون شك؛ الجانب الأول هو حديث عن التاريخ الإسلامي وعن الهوية الإسلامية للتاريخ، والجانب الثاني هو الحديث عن علم من أعلام المؤرخين العراقيين والعرب على مستوى العالم الإسلامي بشكل خاص وهو أستاذنا المرحوم ووالدنا الدكتور عبدالرحمن الحجي.

 السؤال له مكانة كبيرة جدا الآن وهو لماذا هذه الخصوصية؟ أو لماذا نفرد للدكتور الحجي مثل هذه المساحة؟ دون شك الدكتور عبدالرحمن الحجي شخص ومؤرخ ترك بصمة كبيرة جدا في مسارات التاريخ أو تدوين التاريخ الإسلامي بشكل عام والتاريخ الأندلسي بشكل خاص.

الرجل كما وُصف بعد وفاته بأنه عاشق الأندلس وحامل لواء الدفاع عن التاريخ الإسلامي يتميز بسيرة حافلة على المستوى الشخصي وعلى المستوى الأكاديمي والمستوى العلمي. هو من المقدادية من محافظة ديالا في العراق، ولكنه لم ينحصر في هذه الدائرة الجغرافية الضيقة بل كان يمثل كل الدول وكل الأقطار التي يضمها العالم الإسلامي لارتباط شخصيته بالمشروع الإسلامي الذي حمله منذ وقت مبكر. 

 الدكتور الحجي تلقى تعليمه في العراق وأكمل جزء من دراسته في مصر وفي كامبريدج، كانت دراسته المهمة جدا عن العلاقات الدبلوماسية وكان له إسهام كبير جدا في عديد الجامعات وابتدأها من جامعة بغداد ثم عدة أقطار من بينها الإمارات العربية المتحدة واليمن وتفرغ لفترة طويلة لميدان البحث العلمي والأكاديمي. الخاصية التي تميزه والتي ندعو الله سبحانه وتعالى في هذه اللحظة أن يجازيه خير الجزاء على ما بذله فيها هي أنه كان من المبكرين في حمل لواء الدفاع عن التاريخ الإسلامي.

 كل من اطلع أو اتصل بتراث الدكتور الحجي يدرك أنه ومنذ وقت مبكر جدا وفي زحمة الصراع الحضاري، الصراع بين كثير من الأفكار والمشاريع القومية والماركسية وغيرها كتب كتابه "نظرات في التاريخ الإسلامي"، هذا الكتاب الذي يمثل شهادة -نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون ثمرتها أن يسكنه الله سبحانه وتعالى فسيح جناته- وثمرة مبكرة وفيها جرأة كبيرة جدا ووضوح في الرؤية، مما يميز الدكتور الحجي الجهد المبكر، ووضوح الرؤية، والشجاعة الكبيرة جدا في عملية الدفاع عن التاريخ الإسلامي، والمسيرة الحافلة التي كانت تتواصل وتتنامى باستمرار طيلة فترة حياته وحتى آخر أربعين دقيقة من حياته كما روى ابنه أحمد -وهو الآن إن شاء الله يتابع هذا اللقاء- أنه قبل وفاته بأربعين دقيقة كان يعكف على لمساته الأخيرة من آخر كتبه عن الإعجاز العلمي في القرآن وكان على حاسوبه ثم قدر الله سبحانه وتعالى أن يختاره في هذه اللحظة رحمه الله. 

شمس الدين حميود: 
 أستاذ كنت قد ذكرت كتاب "النظرات في التاريخ الإسلامي" للدكتور حجي والذي دون فيه التاريخ الإسلامي من الفتح وحتى سقوط غرناطة، لو تفضلت ماهي أبرز كتبه الأخرى؟ 
الدكتور عامر ممدوح: 

 الدكتور عبد الرحمن الحجي لو أردنا أن نستدرج في مؤلفاته نجدها كثيرة جدا، ولو نتكلم عن رسالة الدكتوراه التي دائما ما كان يذكر أنها مؤلفة ومستندة على مصادر باثنتي عشرة لغة والتي هي بعنوان "العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المدة الأموية"، نجده يتميز في الميدان بالتنوع في النتاج؛ حيث كتب في توثيق التاريخ الأندلسي الذي يمثل الآن مرجعا لا يستغني عنه أي باحث ونحن منهم طبعا إلى وقتنا الحاضر، نعود له كل يوم وكل لحظة ليس مبالغة ولكن لأنه ضم في طياته المعلومات الدقيقة، كما برع الدكتور الحجي أيضا في التحقيق فحقق كتاب "سفر" من كتاب المقتبس لابن حيان القرطبي وهذا القسم من المقتبس أيضا يمثل جزءا لا يتجزأ من المكتبة الأندلسية التاريخية، وحقق النص الجغرافي من كتاب "المسالك والممالك" للبكري وأصدره بعنوان "جغرافية الأندلس وأوروبا"، كما كتب كتابا مهما جدا وهو "تاريخ الموسيقى الأندلسية" الذي أسهم في ميدان الحضارة الإسلامية في الأندلس وأسسها وميادينها وتأثيرها على الحضارة الأوربية.

 ألف الدكتور أيضا مجموعة من المقالات وهي مجموعة أندلسيات صدرت مؤخرا في طبعة جديدة ومتكاملة، وله كتابه "مع الأندلس لقاء ودعاء" وهو مهم جدا أيضا حيث يمثل رحلة أندلسية مليئة بالعاطفة والتوثيق، ومن مؤلفاته أيضا: "أضواء على الحضارة والتراث"، "محاكم التفتيش الغاشمة وأساليبها"، "تاريخنا من يكتبه"، "السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها"، "هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة"، "التاريخ الإسلامي شبهات وحقائق"، "المظلومون في تاريخنا". هذا ما استطعنا أن نسجله من مؤلفات مطبوعة استنادا إلى السيرة الذاتية التي زودنا بها -رحمه الله- الدكتور الحجي حينما خصصنا بحثنا عنه وعن جهده في التاريخ الأندلسي، وهذه هي أبرز المؤلفات التي دونها، كما توجد مؤلفات أخرى قيد النشر وهناك مؤلفات لا تزال مطبوعة وحسب ما أعلم أن هناك كثير من المشاريع التي كان الدكتور حجي -رحمه الله- ينوي الخوض فيها والكتابة فيها.

شمس الدين حميود:

 مع دقائق اللقاء سنعود لبعض النقاط بالتفصيل وعلاقة الدكتور بمحيطه الأندلسي عموما وبكل ما تضمنته الأندلس من ماض وحاضر، لكن ندخل قليلا في جو الأكاديميا ونسأل الدكتور عامر حول التاريخ الإسلامي في فكر الدكتور

برأيكم كيف نظر الدكتور الحجي إلى التاريخ؟
الدكتور عامر ممدوح:

 جلستنا اليوم ستكون جلسة أكاديمية أكثر مما هي عاطفية رغم الصلة العاطفية التي تجمعنا بالدكتور الحجي رحمه الله، نستطيع أن نلخص للدكتور ولدينا نصوص عديدة إن سنحت لنا الفرصة الآن نقرأها.

الدكتور الحجي يمثل التيار أو الاتجاه أو المنظور الإسلامي في دراسة التاريخ، كثير ممن عرف الدكتور الحجي يقولون أنه يمثل التيار الديني في دراسة التاريخ، لكن هو في الحقيقة لا يمثل التيار الديني بالمعنى المصطلحي أو الأكاديمي للتيار الديني بل يمثل التيار الإسلامي فيحمل الفكرة الإسلامية في التعامل مع التاريخ الإسلامي ويرى أن هويته هي إسلامية دون أي انتماءات أخرى.

ولذلك يقول التاريخ الإسلامي ليس تاريخ حكام وسلالات وأحداث مع أهميتها بالنسبة للمختص في التاريخ -يعني أهميتها بالنسبة لكل من يكتب في التاريخ أن يدون هذا الأمر وهو بارع أيضا فيه- لكن هو يقول أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ العقيدة الإسلامية وتاريخ تطبيق الإسلام هو أهمية هذا التاريخ، والسهام الكثيرة التي توجه له لأنه يمثل التطبيق العملي للإسلام ويمثل فاعلية الدين الإسلامي ويمثل جدوى أو إمكانية هذا الدين القيم أن يطبق على الساحة.

  يقول الدكتور الحجي في كثير من مؤلفاته ككتاب "النظرات" الذي كان في مقدمة الكتب التي دافع فيها عن التاريخ يسجل أو يؤكد على هذه الحقيقة وهي أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ العقيدة الإسلامية هو هويته إسلامية مهما حاول الكثيرون الميل به نحو فكرة معينة أو نحو مسار معين أو اتجاه معين تشويها له أو تحريفا له من الجانبين.

 لذلك من الملفت في الدكتور الحجي وهو الذي يمزج التاريخ بالعاطفة بشكل واضح جدا وأحيانا بالشعر يقول أنه لا يمكن أن يدرس التاريخ الإسلامي إلا مسلم، ويقول أيضا في نفس الوقت حتى المسلم الذي ليس له صلة كبيرة بالدين ولا يستوعب الفكرة الإسلامية ولا يستوعب جوهر الدين الإسلامي لا يمكن أن يكتب في التاريخ الإسلامي وهذا ليس حكرا أو تضييقا لكنه إدراك لطبيعة هذا التاريخ. كما يشير إلى أنه لا يمكن لأحد أن يستوعب السيرة النبوية دون أن يكون فاهما ما هي السيرة النبوية وما هي مكانتها بالنسبة للمسلم، ويقول في نفس الوقت لا يمكن أن أدرك منجز التاريخ الإسلامي والمنجز الحضاري والسياسي ومنجز الفتوحات دون أن ندرك طبيعة هذه الفتوحات؛ فهذه الفتوحات مثلا الإسلامية لا يمكن أن نبوبها بباب اقتصادي ونفسرها بهذا التفسير، وهذا مما هو معلوم لمن يختص في التاريخ الإسلامي، بالتالي هو يجعل الهوية التي يقدمها التاريخ الإسلامي هوية إسلامية مرتبطة بالدين.

 لو تدرك الكلمة التي قالها الدكتور -وأرجع لها دائما أنه يعد التاريخ من العلوم الشرعية- يقول أنه يريد أن يرتقي بالتاريخ نحو العلوم الشرعية ولا يريد أن يجعل دراسة التاريخ بهذا المعنى الأكاديمي، لذلك في كتابه "السيرة" يقول:

"هذا عمل أتعبد به أمام الله وأتقدم به أمام الله وهو جانب من جوانب العبادات أن أكتب في السيرة النبوية وأن أكتب في تاريخ الأندلس وأن أكتب في مسار التاريخ الإسلامي بالعموم"

وبالتالي الخلاصة النهائية التي نستطيع أن نستخلصها هي أن الدكتور الحجي مثال التيار الإسلامي والمنظور الإسلامي للتاريخ بكل ما تعنيه كلمة الإسلامي من معنى، حمل مشروعا حضاريا، مشروعا متكاملا، مشروعا يبشر بأن المستقبل لهذا الدين.

شمس الدين حميود: 
 وأنت تتحدث حول التاريخ ومحوريته وكذا رؤية الدكتور الحجي -رحمه الله- للتاريخ من زاوية إسلامية وهي الواقعية والمطلوبة، أقول أن خدمة الإسلام حقيقة تكون عبر تاريخه، والأمة لم تعط هذا التاريخ حقه كما يقول الدكتور عبدالرحمن الذي يعتبر أن التاريخ الإسلامي من أكثر الروافد في تقديم النهضة الإسلامية. كيف ذلك دكتور عامر وهل للتاريخ هذه المركزية والمحورية في صناعة المستقبل التاريخي؟
الدكتور عامر ممدوح: 

  لو نقرأ هذا النص الذي يقول: "لم يكن سرد القرآن الكريم لتاريخ الأمم السابقة وقصصهم خاليا من الفائدة بل كانت له مقاصد وغايات منها تحقق الاعتبار في نفوس الناس ومسيرتهم وتبصرهم بأسباب التقدم والنجاة وموجبات التقدم والهلاك"، نجد أن هذه المركزية للتاريخ الإسلامي التي جعلها أو وضعها الحجي -رحمه الله- بوصلة في التعامل مع التاريخ وهي البوصلة الإسلامية هي معيار قياس مدى التقدم أو التراجع -إن صح التعبير- في مسار التاريخ الإسلامي. 

الدكتور يقول إن حالات الإخفاق هي أن تدرك أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ بشر أولا وآخرا فهو تاريخ فيه من الأخطاء ما فيه من الممارسات السلبية ولا ننكر ذلك، لكن يقول من الظلم لهذا التاريخ أن نجعل الأخطاء التي لا تتجاوز على سبيل الفرضية خمسة بالمئة هي الحاكمة على الخمسة وتسعين بالمئة والعكس صحيح. 

بالتالي هو يجعل مركزية التاريخ الإسلامي أنه يقدم لنا العبر والدروس، وهذه القوانين التاريخية التي تسمى بالمصطلح القرآني، السنن هي التي تكون معيارا لنا لدراسة التاريخ أولا لاستخلاص الدرس التاريخي أو سؤال التاريخ كما يسمى بالوقت الحاضر، وبالتالي الإشارة إلى أن الواقع المعاصر الذي نعيشه اليوم إنما أوصلنا إلى هذه الحال أو ما نعيشه اليوم بهذا الحال هو يتكرر.

  يتكلم الحجي أيضا في نص آخر ويقول: "وكأني أشعر أن هذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم هي صور تتكرر في الحياة كل حين بطبيعتها وحقيقتها وأساليبها لتكون مواجهة لجموع المؤمنين ولها على خبرة ومعرفة واضحة وأساس ليتولوا أمرهم ويجهزوا أحوالهم ويتخذوا العدة لها"، ومنه فالسؤال التاريخي العميق الذي وقف عنده كثير من فلاسفة التاريخ والدارسين يضعه الدكتور الحجي بأسلوب واضح جدا لا تعقيد فيه يربطه بهويته الأصلية؛ بالدين الإسلامي والعقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، أي أننا حينما نأتي على حدث كبير جدا أو سؤال عميق جدا، لماذا سقطت الأندلس؟ باعتبارنا نتكلم في هذه الجزئية هو السؤال الذي يقول عنه الدكتور إنه سؤال مرتبط بمدى ارتباطنا أو بمدى تطبيقنا للشريعة الإسلامية ومدى قربنا منها. بالتالي لما وصلت الأندلس إلى عصرها الذهبي يقول إن هذا نتيجة تمثل الإسلام في حياة الأندلسيين.

​​​​​​

 لما صمدت غرناطة -وهو الوحيد يسجل له هذه الوقفة- كثير من الذين يدرسون تاريخ الأندلس ويقفون عند أسباب صمود مملكة غرناطة لقرنين ونصف تقريبا يسجلون عوامل متعددة منها العامل الجغرافي وإسناد المغرب للأندلس ووجود بعض الخبرات؛ وهي ثلاثة نقاط لم يتجاوزها كثير من الدارسين حسب اطلاعي البسيط، أما الدكتور الحجي يضيف نقطة رابعة وقفت أيضا عندها حيث يقول إن بقايا هذا الإيمان العميق بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية وبالإسلام عموما، وهذا التمثل أو محاولة الحفاظ على الوجود الإسلامي أمد مملكة غرناطة هذه الحيوية التي أمدتها لقرنين ونصف رغم ضآلة حجمها المكاني ورغم الإمكانيات المتواضعة. ومنه فإن هذا الدرس أو هذا السؤال التاريخي الذي يسأل دوما "ما الذي نستفيده من التاريخ؟" الدكتور الحجي يسجل لنا أنه من الممكن أن نجعله أحد أركان دراستنا وأحد أركان مشروعنا النهضوي في هذا المجال بجعل الدرس التاريخي خزينا لنا يمنحنا أسباب ما نحن فيه ويمنحنا مفاتيح التعامل مع الأزمات والتحديات ومن ثم مفاتيح رسم المستقبل المنشود لنا كأمة إسلامية. 

شمس الدين حميود:
دكتور عامر من شرحك لهذه المحورية والمركزية للتاريخ هل يمكن أن نعتبر أن التاريخ هو مدار الهجوم للمجتمع بمعنى هل هذه المركزية جعلت التاريخ مدار تشويه وهجوم مستمر؟
الدكتور عامر ممدوح:

 يعلم الجميع أن أساليب مواجهة الأمة الإسلامية متعددة وكثيرة جدا، منها السياسية ومنها الاجتماعية ومنها الفكرية، وفي الجانب الأكاديمي وجهت السهام منذ وقت مبكر مع تنوع وتعدد الأشكال لكن خصوصية أو مركزية الهجوم واحدة، فالذين يهاجمون التاريخ كما قلت في بداية هذه المداخلة، يعلمون أو يدركون جيدا أن التاريخ الإسلامي هو مدار التطبيق، بالتالي لما تأتي أنت على نتاج معين يقدم لنا التاريخ الإسلامي على أنه عبارة عن تاريخ صراعات وتاريخ سفك دماء وأنه تاريخ صراعات على كرسي الحكم، وأنه تاريخ لكبت الأفكار من حيث الجانب الفكري، ولما تقدم مثلا أفكار الزندقة والأفكار الخارجة عن الشريعة والمتقاطعة مع الشريعة الإسلامية أي الأفكار التحررية مثلا -وفي التاريخ الأندلسي كثير من ذلك- تقدم على أنها كبت للأفكار التحررية أو التنويرية كما تسمى الآن، ومنه إثبات عدم جدوى أو عدم صلاحية الشريعة الإسلامية، ومن ثم الرسالة الأخيرة التي تصل لعدم جدواها وعدم قدرتها على التطبيق بدليل أن تاريخكم هذا ما هو موجود فيه.

 الدكتور الحجي حينما جاء وتعامل مع هذه الجزئية، طبعا بعدما فند كثير الأقاويل قديما وحديثا يسجل هنا أن حملة التشويه هي حملة مقصودة لهذا الغرض، بالتالي يجب أن نفصل بين عدة مسارات؛ أولا يجب أن نفصل دوما في دراسة التاريخ بين المسار السياسي والمسار الحضاري، المسار السياسي فيه كثير من التعثرات ولا يمكن نكرانها وهي مسجلة مع بعض المبالغات، والمسار الحضاري يختلف جملة وتفصيلا، فالحضارة الإسلامية كانت مساراتها متنامية دوما مع وصول المسار السياسي في كثير من الأحيان إلى حالة من الضعف وحالة من التفكك وحالة من الصراع، وكما قلنا سابقا المعيار هو معيار القرب والبعد عن الشريعة وتطبيقها والالتزام الإيماني بالعقيدة.

 نقطة أخرى مهمة والتي يجب أن نسجلها هنا هي أن التاريخ الإسلامي وحدة متكاملة، هكذا يقول لنا الدكتور الحجي وذكرها سابقا الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- وذكرها أستاذنا الحبيب أطال الله في عمره الدكتور عماد خليل، فالتاريخ الإسلامي هو وحدة متكاملة الشكل السياسي الذي يتمظهر به هذا التاريخ هو مختلف، فنجد دولة أموية، ودولة عباسية، ودولة مملوكية، ودولة فاطمية، ودولة أموية في الأندلس لكنها حركة متكاملة. 

 الدائرة الأكبر التي تجمع هذا التاريخ هي الدار الإسلامية التي تجمع بدورها شتى التجارب السياسية، مثلما اليوم تكلم عن العالم الإسلامي الذي يضم كثير الكيانات السياسية المختلفة لكن الدائرة التي تجمعه هي الدائرة الإسلامية أو دائرة العالم الإسلامي سابقا، نفس الحالة هذه الوحدة أو النظر للتاريخ بهذا المنظور الوحدوي الذي يمنحنا كثيرا من الدقة في التصورات وأيضا يمنحنا ملاحظة مهمة جدا هي أن ما يراه البعض من هذا التناقض بين الأمويين والعباسيين، وبين المرابطين والموحدين، وبين مملكة غرناطة والعثمانيين هو حقيقة درس مهم جدا سجله الدكتور الحجي وسجله عدد من الدارسين أيضا ومن تبعه في ذلك، وهذا الذي يمنح التاريخ الإسلامي أو حركة التاريخ الإسلامي ديمومة.

 في الوقت الذي سقطت فيه غرناطة انبعثت دولة أخرى، وفي الوقت الذي جاء عصر الطوائف ظهرت لنا دولة المرابطين، وفي الوقت الذي ضعفت فيه دولة المرابطين لأسباب شتى انبعثت دولة الموحدين، مع الاختلاف الداخلي في الفكر وفي التجربة السياسية وفي الصراع السياسي، لكن بالمنظار الإسلامي العام للتاريخ الإسلامي أمد هذا التاريخ بالديمومة والاستمرار بحيث تنتهي التجربة هنا فتبدأ تجربة أخرى؛ وكأن المسألة هي تكاملية وتواصلية. وحينما نريد أن نلخص هذه الفكرة؛ للتاريخ الإسلامي أهمية كبيرة جدا، معاول الهدم أو التشويه التي نالته سابقا وتناله الآن ولاحقا تتنوع في أشكالها لكنها تتوحد في مضمونها، فاليوم مناهج البحث تغيرت ودخلت فيها أفكار جديدة كتوظيف موضوع الخطاب وتوظيف موضوع المسكوت عنه وتوظيف موضوع المهمشين.

شمس الدين حميود: 
 قبل أن تكمل كنت سأسألك عن علاقتك بالدكتور هل تتلمذت على يديه؟ وهل التقيته؟ 
الدكتور عامر ممدوح:

لا لم أتشرف باللقاء به لكن التقيته منذ الدراسة الإعدادية الأولية مع كتبه، ارتبطت به وبأشخاص متعددين حفزوني على دراسة مجال التاريخ، كتابه "التاريخ الأندلسي" هو أثير لدي فهو موجود معي إلى وقتنا الحاضر، في ليلة وفاته -رحمه الله- بتوقيت بغداد الساعة الواحدة ليلا وأنا أعد المحاضرة للطلبة كنت اقرأ في كتابه "التاريخ الأندلسي" وضحكت بيني وبين نفسي لأنه دوما يستخدم الفردوس الموعود فلا يسميه المفقود فقلت هذا أستاذنا الدكتور الحجي دوما يتمنى هذا الأمر يحلم بالفردوس الموعود، وسبحان الله صباحا بعد الفجر سمعنا بخبر وفاته. من سنة 2013 كان لي تواصل مباشر معه عبر الأنترنت ولدي كم من الرسائل وجهت له خلال إنجاز البحث عن شخصيته وكانت حوالي 17 سؤالا حول أفكاره وحول توجهاته ومنهجه فأجاب عنها رغم مشاغله على فترات متقطعة، هذا التواصل هو تواصل أثمر كثيرا في تجميع الأفكار. 

الدكتور الحجي دوما يبرز الجانب الإيجابي من تاريخ الأندلس ولا يقف عند الجوانب السلبية، هو يسجلها بشكل يدرك القارئ أنه يعلم مضمونها لكن لا يعطيها المساحة التي يعطيها لجانب الإنجاز، هذا الأمر ليس عملية إغفال للتعثرات أبدا، فمن قرأ كتابه "التاريخ الأندلسي" بدقة يدرك كم وقف الدكتور الحجي عند جوانب الإخفاقات، لكن هو يجد أن جوانب الإخفاقات لا تغطي على جوانب الإنجاز، فالمجتمع الإسلامي الأندلسي ظل منجزا حتى في أسوأ حالاته السياسية التي كان يعيشها. 

سألته يوما عن الذين يكتبون في المهمشين في التاريخ وغيرهم وقلت إنني أجد أن بعض الروايات تشير إلى أن بعض حكام الأندلس كانوا يخرجون الصدقات في كل عيد وهذا معناه أن الفقراء موجودون، أي أن المجتمع الأندلسي ليس مجتمع المدينة الفاضلة، فأجاب بنعم، ثم سألته كم عدد هؤلاء الذين كانوا من ذوي الاحتياجات من المتعففين الذين يطلبون المال؟ قال: عددهم قليل جدا ولا يمكن أن نعمم هذه الجزئية فنقول أن الدولة الأموية في الأندلس هي دولة ظالمة اقتصاديا كما يروج البعض وأن حكام الأندلس كانوا يتمتعون بالثراء وبالترف والناس المساكين لا مال لديهم، لا أبدا هذه جزئية لا تنفي ما نقوله عن طبيعة المجتمع الأندلسي وعن طبيعة التاريخ الأندلسي، بل بالعكس تعززها بشرية التاريخ باعتبار التاريخ هو من تطبيق البشر دون شك حتى في مجتمع الصحابة، كان هناك فقراء لكن كم نسبتهم؟ نسبتهم قليلة جدا، فبهذا المنظور نتعامل مع التاريخ الإسلامي ونتعامل مع الحملات التي تواجهه. 

شمس الدين حميود: 
 دكتور من أقوال دكتور عبد الرحمن -رحمه الله- أن صناعة الإنسان تأتي أولا وبعدها يأتي الباقي ولهذا برأيي لم يصنع الآخرون ما صنع المسلمون بذلك التكامل، برأيك كيف كان ينظر الدكتور إلى العلاقة بين الإنسان وتاريخه؟
الدكتور عامر ممدوح:

 الدكتور الحجي -رحمه الله- كان يرى بارتباط التاريخ بالدين أو العقيدة أو الشريعة، ويقول إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ الإنسان المثالي -كما يسميه- أو تاريخ الإنسان النموذج، التاريخ عموما والتاريخ الإسلامي خاصة بدأ من السيرة النبوية ووصولا إلى الأندلس التي تخصص فيها الدكتور يراها صورة خاصة قدمت لنا نماذج كثيرة جدا، هذه النماذج كانت على كافة المستويات؛ المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي والفكري. كان دائما ما يقارن بين الحضارات أو بين المجتمعات الأوروبية والمجتمعات الإسلامية فيقول إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ الإنسان المثال، هذا الإنسان المثال هو إنسان يجمع بين الجزئيتين؛ فيحمل من الصفة الإنسانية وأيضا هو مثال في تطبيقه للتعاليم الإسلامية وللدين الإسلامي ولقربه من العقيدة الإسلامية ومن الإيمان بالله فأثمر هذا التاريخ هذا الإنجاز.

 الدكتور لا ينفك عن القول بأن أي منجز تاريخي حققه المسلمون في أي قطر من الأقطار أو في أي جزء من أجزاء العالم الإسلامي هو نتيجة تفاعل هذه الجزئيات أو تفاعل الإنسان المسلم مع عقيدته ومع دينه حتى على الجانب العلمي، مثل ما نجده في كتاب "الكتب والمكتبات" الذي فاتني أن أذكره ضمن المؤلفات الدكتور وهو كتاب ماتع يتكلم عن صناعة الورق وعن حب المسلمين للعلم كما يتكلم عن المكتبات. هذا الأمر لا نستطيع أن نجعله بعيدا عن الجانب الإسلامي نفسه فالارتباط الديني الإسلامي هو دين علم، ودين يحث على العلم والفكر ويمنح الحرية الفكرية بأبهى صورها مع التحفظ على كلمة الحرية الفكرية التي لا تعني الحرية لدى الآخرين دون شك بل تعني الحرية المنضبطة.

 الدكتور يتكلم عن هذا الترابط أو هذا التفاعل بين الإنسان وبين العقيدة الذي أنتج هذا التاريخ كما تعلمون ويعلم الدارسون؛ أن التاريخ هو نتاج ثلاثة عوامل هي الزمان والإنسان والمكان، لكن التاريخ الإسلامي له خصوصية فهو ليس تاريخا ماديا مجردا من الجانب الديني بل هو تاريخ هذا الإنسان ومزيج من العقيدة ومن المبادئ الدينية، ممتزج مع زمان معين ومكان معين ما أنتج لنا هذا النتاج المتميز الذي نتكلم عنه اليوم. 

شمس الدين حميود: 
  في ثنايا حديثك دائما عودة للحديث عن التاريخ، عودة إلى بدايات التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، ما موقع السيرة النبوية من تاريخنا؟
الدكتور عامر ممدوح:

  الدكتور الحجي تخصص في جانبين تميز بهما وآخر مؤلفاته التي توفي وهو يسجل آخر اللمسات عليها حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، السيرة النبوية لها مكانة أثيرة في إنتاجات الدكتور الحجي وفي اهتماماته حيث درج على الكتابة وإلقاء المحاضرات ووضع المناهج الخاصة في السيرة النبوية، فلو تصفحنا كتابه "السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها" نجد أن النقطة الأولى التي نلاحظها والتي لا يدركها البعض هي مدى المعرفة الشرعية التي يمتلكها الدكتور الحجي ومدى هذا البعد الإيماني في شخصيته الممزوج بالعاطفة والمعرفة الشرعية.

 يتحدث الدكتور الحجي في كتابه عن كتابة السيرة ودراستها ويدعو لأن تكون في مقدمة المناهج الدراسية التاريخية نتيجة موقعها بالنسبة للتاريخ الإسلامي ويشير إلى أنها أقامت مباني هذا الدين الذي أنزله الله تعالى وحيا أمينا صادقا على رسوله سيدنا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وبه أتم نعمته على خلقه، ويتكلم في السيرة أنه إذا غاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنا بشخصه الكريم ووجوده الحي الوضيء وجسده الشريف فهو باق محفوظ ماثل وقائم بتوجيهاته وسلوكه ومواقفه وآفاق تربيته وجهاده وعبادته ودعائه، ويشير الدكتور أيضا إلى أن السيرة النبوية كلما عاشها الإنسان وعاشت به عرفها أكثر وأدركها بعمق واقترب من مضامنها وأسرارها وأحسن التعبير عنها وتمثلها، فهي ثمرة للتطبيق وأسوة للحياة. 

 كل من تعامل مع تراث الدكتور الحجي يعلم مدى الثراء اللغوي الذي يتميز به ومدى ولعه بالمرادفات في كتاباته الكثيرة، واحدة من المسائل التي سجلها كتابه "مع الأندلس" -الذي كان رائع جدا في الصياغة اللغوية- يقول فيه إن السيرة النبوية ثمرة لتطبيق مرتبطة بالدين وأسوة لحياة حاضرة وحياة مستقبلية، فهو هنا يتكلم عن مسألة معينة ويقول إن المؤرخ الذي يدون السيرة النبوية يجب أن يكون المؤرخ المسلم، فهو ليس انتماء جغرافيا، ولا انتماء للأمة بل هو تمثل للدين الإسلامي. 

يقول إن المؤرخ المسلم التقي الورع المتعلم الفقيه المتفتح اللقن الفهم المزود بكل ذلك وبالمؤهلات العلمية اللازمة هو أقدر وأعمق وأصدق وأحق بتناول السيرة النبوية، لذلك هو لما تناول السيرة النبوية تناولها بطريقة تختلف عن من درسها من قبله، تناولها بمحورية الدين وبأساسياتها وبيان مرتكزاتها ببيان الدروس التي يمكن أن تلخص أو تلخصها دراسة السيرة النبوية للوصول إلى الدرس التاريخي المستفاد من السيرة النبوية مع إدراك أحداثها ووقائعها المتفق عليها والصحيحة في هذا الباب، وهذا جانب منهجي ربما تسألني عنه في موضوع الدكتور الحجي.

شمس الدين حميود: 
ذكرت في حديثك الآن عن التاريخ ودوره وأثره بصفة عامة بأنه يستفاد من التاريخ الاعتبار وإعادة قراءته تبصرنا بأسباب التقدم، هل للدكتور تأملات في جانب سنن القرآن؟
الدكتور عامر ممدوح:

 الدكتور الحجي لم يكتب في فلسفة التاريخ بكتاب محدد فقد بث أفكاره الخاصة في هذا المجال عبر كتبه المتعددة ولا سيما التاريخ الأندلسي بشكل خاص، فهو أحيانا يقدمها على شكل خلاصة ربما لا تتعدى السطرين أو ثلاثة أسطر وأحيانا يقدمها على شكل تساؤلات، وكثير من هذه التساؤلات عبارة عن درس تاريخي ربما تسنح لنا الفرصة للكتابة في هذا الباب وجمع هذه الخلاصات، وكثير من هذه الخلاصات تأتي بين الأسطر أو تأتي في خضم الأحداث التي يدونها الدكتور الحجي لكنها مقصودة ومحددة برؤية واضحة وصريحة جدا.

 واحدة من المسائل التي أشكلت علي شخصيا لفترة طويلة وسألته -رحمه الله- عنها وقلت له لماذا أنت تتجاوز هذه المرحلة التاريخية؟ فقال أنا لا أحابي أحدا ولا أغمض عيني عن مخالفة؛ ميزاني الدليل. ومن بين المسائل المهمة لكل من درس التاريخ الأندلسي عصر الطوائف والفتنة التي سبقتها وعهد الحاجب المنصور أو الدولة العامرية، فقد ظل الدكتور الحجي يصمت كثيرا عن تقييم بعض هذه الحوادث وقدر الله أن يسجل مقطعا قبل وفاته بأربعة أشهر حول الحاجب المنصور مثلا يلخص فيه هذه الحقبة المهمة التي تجذب الانتباه وتستثير كثير المسلمين بإيجابياتها لكنهم لا ينسون سلبياتها، فيلخصها بدرس بسيط وفي كلمات بسيطة جدا كعادته فيقول: "خلاصة الأمر أن الحاجب المنصور له وعليه ولكن الذي عليه يمحو ويأكل الذي له"، فلما يتكلم مثلا عن سنوات الفتنة يلخص بدقة بالغة بسطرين أن هذا التعامل الذي دأب عليه بعض زعماء الفتنة ومن ثم الطوائف هي ممارسات لا تتفق مع تعاليم الدين وهو تدهور قيمي تأثيراته مستقبلية، ربما يكون له لحظات استدراك لاحقا؛ لحظات الاستدراك هذه مربوطة بالعودة إلى جوهر رسالة التاريخ أو هوية التاريخ نفسه.

 الدكتور الحجي له تأملات كثيرة جدا قد لا تبدو ظاهرة للعيان، وله وقفات كثيرة جدا قد لا تبدو جلية لأول وهلة لأنه لم يكتب فيها -حسب اطلاعي ومتابعتي لمؤلفاته- كتابا محددا باسم فلسفة التاريخ الإسلامي، لكن إذا سنحت الفرصة اليوم أو مستقبلا يمكن جمع بعض أفكار مشروع معين للدكتور وتبويبها على المسارات وتقديم مسارات التاريخ الأندلسي وفق رؤيته على شكل دروس لا تتجاوز العشرة دروس مثلا، هذه العشرة دروس أولا هي قراءة دقيقة جدا ومتفحصة للتاريخ الأندلسي، وثانيا هي استخلاص دقيق جدا لدروسه، وثالثا نفس هذه الدروس تتكرر بيننا باستمرار.

كنت قد كتبت قبل حوالي أسبوعين مقالا حول السؤال السادس للتاريخ -الدكتور لا يسميه بهذا الاسم- وهو سؤال: "إلى أين نحن ذاهبون؟" هذا الدرس الذي نستخلصه كيف نوظفه لحياتنا الحاضرة ومستقبلنا المنشود؟

شمس الدين حميود:  
وصلني سؤال من الدكتور أحمد بن ينصر وهو أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة الجزائرية يسألكم هذا السؤال: هناك من يرى أن هناك تاريخا للإسلام وتاريخا للمسلمين وأن هناك فرقا بين الأمرين، ما رأيكم؟
الدكتور عامر ممدوح:

 لا ينفك التاريخ الإسلامي عن الإسلام والذي بدوره هو تاريخ إسلامي، أما تاريخ المسلمين فالدكتور يقصد -ربما- أننا اليوم قد نفسر أو قد نبرر بعض التعثرات بأنها تاريخ للمسلمين، لا خلاف في ذلك لكن تاريخنا هو تاريخ إسلامي ذو هوية إسلامية، والمسلمون كانوا يطبقون هذا الدين، ومتى ما اقتربوا أو ابتعدوا عن معاني هذا الدين حصلت هذه التعثرات وهذه الاخفاقات، فالتاريخ هو تاريخ إسلامي يطبقه المسلمون. 

شمس الدين حميود: 
 لو ننتقل الآن إلى الشق الثاني المتعلق برؤية الدكتور عبد الرحمن -رحمه الله- للفردوس الموعود كما يسميه وليس المفقود، ما هي هوية التاريخ الأندلسي؟
الدكتور عامر ممدوح:

التاريخ الأندلسي ذو هوية إسلامية أيضا، حيث يقول الدكتور الحجي وبعبارته التي اشتهرت كثيرا بعد وفاته: "لولا الإسلام لما كانت هناك أندلس ولولا الأندلس لم تكن هناك حضارة غربية متطورة، الإسلام هو أساس التاريخ الأندلسي وهويته"، المسلمون في الأندلس لم يعبروا للأندلس إلا لنشر هذا الدين ولم ينجحوا في إنجاز هذا المنجز الذي تحقق بسرعة فائقة ليس لضعف الجبهة المضادة وليس لقوتهم العسكرية وبراعتهم بل لأنهم أخذوا بالأسباب، لو نقرأ التاريخ الأندلسي بدقة ندرك كيف أن المسلمين أخذوا بالأسباب منها الحملات الاستطلاعية والعدة والعتاد، والقتال والاستبسال، إن المنجز الأندلسي هو منجز إسلامي على مر التاريخ كله وهوية الأندلس هي إسلامية سواء كانت في الولاة أو الإمارة الأموية أو حتى الدولة العامرية.

 لو نقرأ سيرة الحاجب المنصور وجهاده مع أننا نتحفظ على المبررات أو على المآلات لهذا الجهاد، لكنه جهاد وجد من يستميت للدفاع عن الإسلام أو يدافع عن الأندلس، ولو أتينا على المرابطين والموحدين نجد أنهما دولتان قامتا على فكرة دينية مع اختلاف في الاجتهادات والأفكار واختلاف في كثير من حيثياتها التفصيلية، وكما ذكرت سابقا حتى موضوع مملكة غرناطة نجد أنها عاشت على الجهاد، فالمغرب الإسلامي الذي أسند الأندلس وكان ظهيرا إسلاميا متميزا للمسلمين قام على أساس الجهاد في سبيل الله، ولو تقرأ كل كتب التاريخ التي ألفها المؤرخون المسلمون تجدها من مقدمتها تركز أو تؤكد على الانتماء الإسلامي لأصحابها.

 الدكتور الحجي أيضا سجل مقطعا مؤخرا حول ابن خلدون وإسلامية ابن خلدون، وكل كتاب التاريخ أمثال ابن حيان وابن حزم وابن خلدون نفسه وابن بسام والمقري، تجد في أول صفحة تطالعها في مقدمتهم هذه العبارات الدينية التي لم تسجل كما يدعي البعض. أحد الدارسين الذين درسوا تراث ابن خلدون يقول -وهو من أصحاب الاتجاه القومي- إن هذه العبارات هي عبارة عن ديكور واستكمال للصورة وهي عبارات تنبض بالانتماء الإسلامي. لما نجد أن كل الكتاب حتى المؤلفين الذين ألفوا في كثير من فنون المعرفة أو العلوم الآيات القرآنية في الإهداء، وتقديم هذا العمل غاية لإرضاء الله -سبحانه وتعالى- أو أملا في الحسنات أو في الجنة، هذا كله يؤكد أو يعزز إسلامية التاريخ الأندلسي.

 التاريخ الأندلسي ليس كما رأى البعض من أصحاب بعض التوجهات الفكرية المضادة الذين يرون أن المسلمين لم يبقوا في الأندلس لأن الأندلس ليست جزءا من الوطن العربي مثلا؛ هذا تحريف لهوية التاريخ وانحراف أو تشويه لهويته، وأغلب الظن أنه تشويه أو انحراف بمعنى أن الأمر مقصود بشكل أو بآخر. 

التجربة الإسلامية في الأندلس -ونفصل كثيرا بين التجربة السياسية والتجربة الحضارية- تجربة إسلامية غنية جدا، وحتى أصحاب الإخفاقات تجدهم في كثير من مفاصل حياتهم لمحات أو وقفات التي -ربما- هي تصالح مع النفس أو تأثيرات الإيمان لله سبحانه وتعالى. 

شمس الدين حميود: 
  قبل أن نواصل في الحديث، دخلنا في الحديث حول الأندلس ولم أسألك عن سبب التسمية بالأندلس، شاهدت فيديو للدكتور عبد الرحمن الحجي في القديم يتحدث حول أن السبب الظاهر للتسمية مأخوذ من "فاندالس".
الدكتور عامر ممدوح:

هو هذا الرأي الغالب الآن؛ أن التسمية تحريف للفاندالس "Vandals"، والتحريف ليس بالمعنى السلبي فهو نحت من مصطلح أو تحريف أو تعديل للمصطلح باللفظ العربي.

 فاتني سابقا أن أذكر موضوع الفردوس الموعود الذي وجدته مذكورا عند الدكتور الحجي وعند المرحوم الدكتور حسين مؤنس رحمه الله، والاثنان يتشابهان في الجانب العاطفي في التعامل مع الأندلس. جرت العادة أن تسمى الأندلس بالفردوس المفقود والأستاذ الحجي دائما يعقبها بالقول ويقول: "وأرجو أن يكون الفردوس الموعود" بناء أيضا على منظوره بأن المستقبل لهذا الدين، حيث يتكلم عن آثار الأندلس الإسلامية التي كانت موجودة -غير المادية إنما آثار الحياة الإسلامية- والتي كانت جديرة بأن تعود لتكون فردوسا موعودا جديدا للمسلمين، قد نختلف أو نتفق في تفسيرات كيفية العودة حتى لا نحمل النص أكثر مما يحتمل -كما يقال- لكن حقيقة الأمر أنه يعبر عن الأمل. 

 من يعرف الدكتور الحجي -رحمه الله- يعرف بأنه رجل عاطفي جدا وكما ذكر أحد تلامذته أنه كان في محاضراته يضحك أحيانا وفي نفس الوقت يرد ويسرد قصة فيها حزن فيبكي ثم بعد ذلك يضحك على إنجاز معين؛ فالدكتور عاطفي بطبيعته، وهذا الحس الإسلامي الذي يمتلكه الممزوج والمشوب بالعاطفة -العاطفة طبعا لمن يقرأها يجد أنها تنبض بها كلماته في مؤلفات- يعبر عن حلم وأمل وحب، هناك من وصفه بأنه عاشق الأندلس أو فارس الأندلس، أما أنا فأعتبره أحد الفاتحين وأنه في مسيرة أو ركب موسى بن نصير وطارق بن زياد ليس مبالغة، وحتى لا يساء الفهم الدكتور الحجي ليس منزها عن الأخطاء في الكتابة أبدا دون شك له اجتهاداته وآراؤه التي يعبر عنها بطريقته، لكن نحن نتكلم عن رجل عشق الأندلس وحمل هم هذا التاريخ إلى درجة أنه كان أحيانا يستيقظ وهو يلقي إحدى خطب الفاتحين وهو دليل لمدى تملك الأمر من حياته ومن تفكيره ومن عقله ووجدانه، في النهاية كلمة الفردوس الموعود يعبر بها عن أمله وتعلقه ووجدانه العميق، وعن مدى حبه للأندلس إلى درجة أنها أصبحت مرقده الأخير ليكون مع بقية المسلمين الذين بقوا هناك.

شمس الدين حميود: 
 وأنت تتحدث حول شاعرية وتأثر الدكتور الحجي بكل ما تعلق بالأندلس، أريد الإشارة إلى أن الدكتور الحجي اهتم أيضا بالجانب الأدبي للأندلس وأتذكره في فيديو يقرأ أبياتا للشاعرة الأندلسية حمدونة، فكان أقل ما يمكن أن يصف تفاعله مع الأبيات أنه هيام بالأندلس وما تخللها وما كان فيها. 
الدكتور عامر ممدوح:

نعم صدقت، هو دوما يكتب الشعر والدكتور الحجي حقه أن يكون في مقدمة ركب الذين كتبوا من المؤرخين والدارسين داخل الأندلس دون شك، لكن كما تعلم فالانتماءات أحيانا تظلم أصحابها، فانتمائه جعله مظلوما -ربما- حتى في بلده وفي كثير من الأوساط التي تقدم بعض النماذج وتغفل عن بعض النماذج، أحيانا أجد أن وفاته هي سبيل للكشف عن هذه الدرر، فلمن لا يعلم الدكتور الحجي فإن له أرشيفا كبيرا جدا في مجلة المجتمع، قبل حوالي سنة أو سنتين أرسل لي آخر قصيدة نشرها في المجتمع وكان فرحا جدا بها.

 تمكن الدكتور الحجي من اللغة، وربما عليه بعض المآخذ لأن كتاباته لا تصنف على أنها أكاديمية تماما وهو أمر مقصود؛ فهو لا يكتب للمختصين فقط وإنما يكتب للمختصين ولعامة المسلمين، ويقدم رسالة ثقافية عامة وهذا يرتبط بمنظوره للتاريخ، فهو لا يرى التاريخ تخصصا أكاديميا ولذلك يقول: "هذا علم فيه تعبد وعبادة وهذا علم شرعي يمنحني الأجر في دراسته"، فهو متمكن من اللغة بشكل كبير جدا حيث يكتب القصائد ويعبر بعاطفية.

 له مقطع يتحدث فيه عن الفتح الإسلامي تجده فيه لا يلقي شعرا فقط لكن يتكلم بحماسة بالغة جدا عن هذا الفتح ومن بدون مبالغة تجده وكأنه يركب أحد المراكب مع طارق بن زياد، كنت قد تكلمت في مجلس عزاء الدكتور الذي أقيم بعد وفاته على الزوم وقلت إن هذا التاريخ تملكه في كل جزئياته وأفكاره، فبالتالي كان يظهر مع الإمكانيات الأدبية التي كان يملكها مثل ما قام به في تقديم كتابه عن السيرة بقصيدة تدرك فيها مدى حب هذا الرجل لسيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وللسيرة نبوية وللمعاني الإيمانية التي تضمنتها رحمه الله تعالى.

شمس الدين حميود: 
 لو واصلنا مسار حديثنا حول التاريخ الأندلسي فضلا، كيف قرأ الدكتور الحجي في رأيكم مراحل تاريخ الأندلس؟
الدكتور عامر ممدوح:

  الدكتور الحجي تكلم عن مسارات التاريخ الأندلسي وميز بين مراحل التاريخ الأندلسي، والمرحلة الأساسية هي مرحلة الفتح الإسلامي، وقد جاهد كثيرا في استجلاء طبيعة الفتح وفي استجلاء موضوع مهم جدا وهو موضوع انتشار الإسلام، نحن نتكلم عن خمس سنوات أو أربع سنوات ونجد هناك انتصارا كبيرا جدا ونتكلم بعد خمس سنوات أخرى فنجد أن المجتمع ككل في شبه الجزيرة الأيبيرية تغير بشكل كامل، الوجود الإسلامي لم يكن وجودا عدديا نتيجة وجود أو هجرات جماعية كبيرة جدا ملأت هذه المنطقة لكن نتيجة الجهد الذي قام به الفاتحون في نشر الإسلام وفي نشر الدين الإسلامي وهو موضوع يثير تساؤلات وهذه التساؤلات من مميزات الدكتور الحجي.

 هذا الموضوع -مرحلة الفتح- هو موضوع فيه قلة أو ندرة المعلومات، لكن الدكتور بنى تصوره على طبيعة الفتوحات الإسلامية، وعلى طبيعة الجيش الفاتح الذي كان أغلبه دعاة، وعلى طبيعة الجيش الذي دخل معه ما يقرب من ثلاثين تابعيا ويقال كان هناك صحابي دخل الأندلس لكن لم يحسم الأمر بخصوصه، فمرحلة الفتح الإسلامي حاول فيها استجلاء طبيعتها بموضوع طبيعة الفتح الإسلامي التي أدت إلى هذا النصر ومن ثم موضوع انتشار الإسلام. فعهد الولاة الذي تبعه مثلا -نحن نتكلم عن مسارات زمنية- قرأه بأنه مرحلة تأسيس الدولة ولم تأت ثماره إلا لاحقا حينما قدر لعبد الرحمن الداخل أن يؤسس الإمارة الأموية ومن ثم يؤسس هذا الصرح الكبير الذي يسمى الإمارة الأموية ومن ثم الخلافة الأموية في عهد الناصر وأنه يمثل لو نتكلم في منحنيات الحركة التاريخية قمة المنجز الحضاري التاريخي الإسلامي.

 مراحل التاريخ الإسلامي الأندلسي عبارة عن مرحلة امتداد إسلامي ومرحلة تراجع تمثلت في الفتنة والطوائف وهذا التراجع طبعا أكل نصف الأندلس من قبل الممالك الإسبانية، ثم مرحلتين هما مرحلة الانتعاش الأول والانتعاش الثاني؛ مثّل الأول المرابطين ومثل الثاني الموحدين.

 في الموحدين مثلا بعد المرحلة التي تميزت بالتراجع الذي كان نتيجة الانحراف عن مسارات الالتزام المطلوبة للمسلم أو الإنسان المسلم جاءت مرحلة الانتعاش، وهي مرحلة منحت التاريخ الإسلامي عمرا جديدا بناء على عامل الجهاد في سبيل الله ومحاولة الحفاظ على ما تبقى من أرض الأندلس وأيضا الدفاع عن المسلمين الذين باتوا يواجهون مصيرا مخيفا في ظل التراجع الذي حدث في عصر الطوائف، ومع أن أوجه التشابه وأوجه الاختلاف عديدة بين المرابطين والموحدين، ينظر الدكتور إلى أنها عملية تكاملية طبيعية، فالمرابطون ضعفوا فجاء الموحدون ليكملوا المسيرة، والمحور الذي ينظر فيه هو المحور الإسلامي ومحور البقاء في شبه الجزيرة الإيبيرية ثم جاءت مملكة غرناطة. 

 من المهم جدا أن نشير إلى أن الدكتور يسجل أن الأندلس حملت بوادر الانهيار منذ لحظات الفتح المبكرة نتيجة الوجود الجغرافي المنعزل ونتيجة التحديات الخارجية وغيرها، لكن يقول إن قوة الأرض أو قوة الدولة أو قوة المجتمع كانت كفيلة بمنحها الفرصة لتبقى -نحن نتكلم عن قرون يعني نتكلم عن ثمانية قرون أو ستة قرون-، ثم جاءت مملكة غرناطة وحاولت البقاء لكن يبدو -كما يقول- أن الأمور وصلت إلى خواتمها ونهاياتها فلم يعد هناك متسع أو قدرة على البقاء، ومن يقرأ اليوم تراث لسان الدين لابن الخطيب مثلا وغيره ممن كتبوا رسائل الاستنجاد والاستغاثة لملوك المغرب أو حكام بلاد المغرب والحكام المسلمين بالعموم يدرك أن شمس الأندلس كانت تغرب ببطء لكنها كانت تغرب وأنها وصلت إلى مرحلة لم يعد هناك متسع للبقاء ومع ذلك المسلمون حاولوا البقاء.

 الدكتور هنا يقدم صورة أخرى مهمة جدا لتبرئة أو لتصحيح الصورة المغلوطة دوما في أن المسلمين تخلوا عن الأندلس وأنهم غرقوا في الترف ووصلوا مرحلة من الانحلال أوصلهم إلى هذا الحال، فيقول إنها مجموعة تراكمات وعوامل متعددة منها الجغرافيا والصراعات السياسية أو الاختلافات الداخلية التي نخرت أو أضعفت الجسد الإسلامي في الأندلس، ويقف كثيرا لنصرة لبلاد الأندلس ويقول إن العامل الأكثر حسما هو عامل التحدي الخارجي الذي اكتسى بالطابع الصليبي الذي تجمعت فيه دول مختلفة لتوقف هذا الامتداد الإسلامي لتحاول أن تخرج الوجود الإسلامي وتنهيه وهو يكتب ذلك بحزن بالغ، فيقول إن المشكلة أننا نتكلم عن نهاية الوجود الإسلامي الذي هو نهاية وجود وليس تبدلا في الشكل السياسي هو نهاية وجود ونهاية تراث ومحو لكل أشكال هذا التراث وتشويه حتى للصورة البنائية المعمارية الموجودة.

 كما يقف كثيرا وهو يدرس مسارات التاريخ الأندلسي عند هذا التقاطع أو التضاد بين السلوك الإسلامي المتسامح مع الآخر -مع العدو إن صح التعبير- وبين أيضا السلوك الإسباني المقابل الذي كان يقوم على أساس الانتقام والتخريب وتشويه كل آثار الوجود الإسلامي وهو أيضا قضاء أو محو لكل أشكال الوجود الإسلامي، فبهذه الصورة يقدم لنا الدكتور الحجي حقيقة الأمر في قراءة دقيقة جدا لمسارات التاريخ الإسلامي، وللأشكال السياسية التي ظهرت على المسرح السياسي في الأندلس مرفقا معه قراءة متميزة جدا للجهد الحضاري الذي يراه الجهد الأكثر جدارة بالاهتمام و بالإظهار.

 وأختم في هذه الفقرة بنقطة ملفتة جدا سجلتها وأنا أقرأ كتابه "التاريخ الأندلسي"، في نص بالغ الأهمية يتساءل الدكتور الحجي وهو يتكلم عما أصاب الأندلس من محاكم التفتيش وعمليات الانتقام المعروفة ويقدم فكرة ملفتة جدا وفكرة واقعية، يقول مثلما تقبل أهل الأندلس أو أهل شبه الجزيرة الإيبيرية الفاتحين والمسلمين الذين قدموا كل أشكال الحرية لهم على المستوى الديني والفكري والوظيفي على شتى مستويات الحياة ما ضر الممالك الإسبانية لو قبلت أن تتعايش مع المسلمين؟ لكن يقول في النهاية وهو يعرّف الحروب الصليبية تعريفا ربما فيه نوع من المغايرة للآخرين: هي الحرب التدميرية التي لا هدف لها إلا الانتقام، تستغل بعض العناوين الدينية وغيرها لكنها حرب تدميرية بكل معنى الكلمة.

شمس الدين حميود: 
 الفترة الأندلسية على ما في الحديث عنها من شجون فيها كثير مما يستخلص ويستفاد، ذكرت نقطتين في هذا السياق نتحدث حول النقطة الأولى؛ نقطة التعايش التي ذكرتها كيف لم يتعايش الآخرون معنا، بل العكس هو الذي حصل، فالمسلمون أعطوا مثالا نموذجيا على الأقل في خضم السياق التاريخي المشهود في التعامل مع الآخرين واحتضانه وإعطائه فرصة التواجد رغم الاختلاف البين الذي هو موجود وهذا رد على كل من يقول أن الإسلام يقمع غيره أو لا يرضى في أن يتواجد غيره في أرضه إنما هناك ضوابط، لكن الفترة الأندلسية كانت ازدهارا لكثير من الأمم وحتى الأفكار غير الإسلامية ومنها اليهودية. أما النقطة الثانية التي أريد أن نشير إليها وهي مستفادة من الأندلس ومن التجربة المريرة؛ وهي أنه لا شيء مضمون، بمعنى أن البعض الآن إذا ما حدثته أو ذكرت له أن عليه السعي وبذل الجهد في سبيل هذا الدين وفي سبيل هذه الأمة يقول لك إن هذا الدين محفوظ وأن الله -عز وجل- حفظه والتجربة الأندلسية تقول أنه إذا لم تسع وإذا لم تبذل ولم تأخذ بالأسباب وتعتبر من السنن وتأخد بالسنن الكونية والربانية والإيمانية فأنت لا محالة ستعدم، ما رأيكم؟
الدكتور عامر ممدوح:

 المسألة الأخرى المهمة في فكرة التعايش التي سجلها الدكتور الحجي بشكل غير مباشر هي أن سياسة التعامل مع الآخر -إن صح التعبير لكلمة الآخر وهي الممالك الإسبانية- أنها قائمة على أساس تغليب حسن الظن دوما، هذا الآخر كان يغدر متى ما وجد الفرصة لذلك، ومن الملفت حقيقة أن نجد أن أهل الذمة من النصارى وحتى اليهود الذين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية في عصور ذهبية -اليوم هناك دراسات أكاديمية أظهرت هذا الأمر بشكل واضح بيّن مدى الحقوق الدينية والحريات الدينية التي منحت لهم- لكن أن تجد مجموعة من أهل الذمة يسارعون مع أول لحظة ضعف يمر بها المسلمون ليراسلوا بعض الممالك الإسبانية أو ليعلنوا ويعرضوا عليهم المساعدة فهذا أمر ملفت.

 نجد أيضا السلوك الدبلوماسي الإسلامي كان يغلب حسن الظن مع أن هذا الآخر كان يستغل دوما حالات الضعف والعلاقة عكسية؛ فمتى ما وجد المسلمين أقوياء جاء يذعن بالطاعة ويرسل الهدايا وغيرها، لكن متى ما لمس وجود جزئية ضعف حاول استغلالها، هذا أيضا من النقاط المهمة جدا في هذا الباب.

 من الدروس التي تسجل أيضا موضوع الاختلاف الداخلي والفُرقة وضعف البنيان الداخلي، وهي نقطة متعلقة دوما مع مملكة غرناطة إلى حد كبير وبعض المراحل التاريخية الأندلسية إلى حد ما حيث أنك متى ما عولت على ضعف الطرف الآخر أولا، ومتى ما عولت على قوة الآخرين لتستمد منهم القوة دون بناء قوتك الذاتية ثانيا ستكون مرهونا بقوة الطرف الآخر، فبالتالي الأندلسيون في زمن غرناطة مثلا راهنوا على المغرب بشكل كامل وانتظروا مشيخة الغزاة وغيرها من الذين ضحوا وكان لهم دور كبير جدا في إسناد الاندلسيين، فالدكتور الحجي يقول أنه متى ما لم تبن قوتك الذاتية لن تكون قادرا على الاستمرار لأن الطرف الآخر الذي تستند له هو طرف ضعف ولا يمكن أن يبقى قويا على مدى الوقت، فبالتالي لما ضعف المغرب -والمغرب كما ذكرت سابقا ظهير مستمر منذ لحظة الفتح الأولى وحتى سقوط مملكة غرناطة- ضعف الأندلسيون أيضا فمتى ما تضعف أنت سيضعف الآخر بشكل أو بآخر.

 وهذا الموضوع أيضا من الدروس المهمة حيث أن الأمور بمآلاتها فحين ندرس التاريخ نجد أننا نتعامل معه بعاطفتنا باعتباره تاريخا إسلاميا لكن لا تغرنا كثيرا بعض المظاهر، المسلمون بطبيعتهم أناس عاطفيون يتأثرون ببعض الروايات التاريخية التي على غرار حرق السفن وغيرها من هذه المسائل التي تستثير بعض الشجون ويتأثرون بما يثار عن الحاجب المنصور من قصص الجهاد وغيرها لكن العبرة بالمآلات في دراسة التاريخ، بما أننا نتكلم الآن عن حيز زماني ومكاني محدد أو عن تجربة ابتدأت وانتهت فبالتالي اليوم حينما ندرسها يجب أن ندرسها بمآلاتها.

 فما تقوم به بعض المظاهر التي قد تبدو إيجابية ولكنها أوصلت الأندلس إلى لحظة فارقة من الضعف والسقوط هو التساهل، وهذا ممكن أن يقاس حتى على ملف التطبيع وغيره مما يطرح اليوم فالغاية لا تبرر الوسيلة.

 كثير من الأفعال قامت على أساس خاطئ تفاقمت وتراكمت، فلما تخلص الحاجب المنصور من كل منافسيه ونادى -كما يقول ابن عذاري وابن الخطيب- صروف الدهر وقال هل من مبارز فلم يجد أحدا يجيبه هو ما جعل الأندلس خالية من العناصر الجديرة بالإدارة والقيادة؛ حيث أسس نظاما قائما على شخص واحد ولم يؤسس مؤسسة قائمة أو نظام قائما على عملية تداول سلمي للسلطة وارتكاز تاريخ كامل على شخصية قوية، وهذه الشخصية مهما طال بها العمر مئة عام أو مئتي عام ستموت وبالتالي الارتكاز على شخص أو تأسيس النظام السياسي على شخص واحد يفضي إلى انهيار هذه التجربة بغياب هذا الشخص.

 وكثير من الدروس الأخرى كموضوع الظلم وحتى الترف -نحن لا نقول بأن الأمر لم يكن مؤثرا لكن نتكلم عن النسب والتأثيرات- كلها لو أعيد إبرازها وتبويبها في عشر نقاط -كما قلت سابقا- ستكون قائمة على قوانين تاريخية وعلى سنن تاريخية كما يسميها القرآن الكريم، وستكون جديرة بالاهتمام أكثر من عملية البكاء على الأطلال التي يبالغ فيها البعض. 

شمس الدين حميود: 
ممكن أن نحتاج إلى لقاء آخر حول هذا الموضوع الذي فيه ما فيه من العبر والدروس في تجربة مضت في تاريخ الأمة الإسلامية، دكتور إذا قلنا بعد كل هذا الحديث ما هو المنجز الإسلامي في الأندلس؟ ولا سيما الحضارة في رأيكم؟
الدكتور عامر ممدوح:

  المنجز الحضاري الذي قدمه المسلمون في الأندلس هو أنهم أسسوا حضارة إسلامية إنسانية في جوهرها شاملة لمضامنها المختلفة عميقة في مادتها، منفتحة على الآخرين، مبدعة في مختلف صنوفها، مقدمة إسهامات عميقة للإنسانية جمعاء بهوية إسلامية فهو منجز إنساني ذو هوية ومرجعية إسلامية، ولولا هذه الحضارة لما كانت هناك حضارة في أوروبا.

  لما تكلم الدكتور حجي عن المنجز الحضاري الأندلسي قال في نص له:

"وأكاد أقول إنه حتى النهضة الأوروبية في قيم الاهتمام بالعلم والنهضة الحضارية التي قامت في أوروبا فيما بعد العصور الوسطى استندت وقامت على أساس التأثر بما نهلت منه أوروبا من الأندلس"

ويقول أن أفكار ابن رشد وغيرها وإعمال العقل في كثير المؤلفات والحرية الفكرية التي تمتع بها المسلمون بالأندلس لولاها لما أنتجت هذه الإنتاجات الفكرية، هذه الوحدة الفكرية أو الوحدة المرجعية العامة للوجود الإسلامي في الأندلس منحت أوروبا على المستوى القيمي أو على مستوى الأفكار أساسيات للنهوض.

 اليوم لما ندرس التأثير الحضاري على أوروبا ندرسه من ناحية الابتكارات، ومن ناحية المؤلفات لكن هو يقول ندرسه حتى على المستوى القيمي؛ فالمسلمون في الأندلس قدموا دروسا للغرب حتى على مستوى التعامل مع الآخر والتعامل مع الذات، وعلى مستوى إعمال العقل وعلى مستوى الاهتمام بالنظافة الشخصية وبالبناء والعمران، في وقت كانت أوروبا غارقة في الظلام وفي صنوف الجهل الفكري والمعرفي وغيره، فالمنجز الحضاري الإسلامي الأندلسي هو بهذه الصفات ويجب أن نتعامل معه بهذه الشمولية وبهذه الهوية حتى لا نحرفه عن مساراته وبوصلته، ونتعامل معه بهذا الإبداع الكبير جدا الذي تميز به المسلمون بالأندلس. 

شمس الدين حميود: 
 اليوم الحديث شيق موجود معنا الأستاذ عبد الحفيظ تفضل. 
الأستاذ عبد الحفيظ: 

جزاكم الله خيرا أستاذ شمس الدين ونشكر الدكتور على ما تفضل به ونشكر عمران على جلسات الفكر التي أمتعت بها طيلة مدة حلقاتها وجزى الله خيرا الدكتور على ما قربنا من شخصية عالم الأمة -رحمة الله عليه- سيدي عبد الرحمان الحجي، وأنا كثيرا ما كنت أخلط بين سيدي عبد الرحمان علي الحجي ومحمد حجي المغربي لأن هناك مؤرخا مغربيا اسمه محمد حجي وله كتاب "معلمة التاريخ" فكنت أظن أن الاسمين لشخص واحد والفضل لعمران والدكتور عامر، فالآن تبينت الفرق بينهما ورحمة الله على فقيد الأمة عبد الرحمان الحجي ونسأل الله أن يبارك فيما خلف من أولاد ومداد فرحمة الله عليه.  

بالنسبة لما تفضل به الدكتور حول الأندلس وكما ذكر الأستاذ المغرب ظهير الأندلس وأنا من المغرب فمسألة الأندلس، أو قبل ذلك أتكلم عن ما ذكره الدكتور حول تلقيب سيدي عبد الرحمان للأندلس الكنز المفقود بأنه كنز موعود يجب أن يفهم كلام الدكتور على محمله يعني حين نقول الكنز الموعود ليس المقصود به ذاك التملك والسيطرة وإنما ذاك النموذج -كما ذكر الدكتور- الإنسان المثال الذي كان هناك وأعجبني في خاتمة كتابه حين تكلم عن تاريخ الأندلس من الفتح إلى السقوط، وختم الكتاب بقول القدامى حين كانوا يتكلمون عن الأندلس ويقولون أعادها الله وأمثالها وما فقد، فعلق الدكتور وقال أعادها الله وغيرها كافة، من هنا نرى أن غرض الدكتور هو أن ينتشر هذا الدين والنموذج المثالي للإنسان؛ أي إنسان في أي أرض، فليس المقصود مجرد سيطرة وحكم.

 كما كانت للدكتور أيضا عناية بالحضارة الفكرية الأندلسية ونحن حين نسمع الأندلس ينصرف ذهننا للحديث عن جدرانها المزخرفة وبناياتها وقصورها المشيدة وغير ذلك، في حين أن هناك حضارة أصلية وهي الحضارة الفكرية التي كانت هناك وما لحقها من تدمير وسرقة وتحريف إلى غير ذلك. أتقدم للدكتور عامر بسؤال حول أمثال الدكتور عبد الرحمن الحجي وكونه علما من أعلام التاريخ لا بد أن يكون له مشروع كبير كان يؤطر أعماله، فإما أن يقربنا الدكتور من هذا المشروع أو على الأقل من الملامح التي تبين هذا المشروع ليكون أمانة على من يخلف الدكتور أن يتم ذاك المشروع بما يعود على الأمة بالنهضة المرجوة المأمولة. 

 
الدكتور عامر ممدوح:

الشق الأول من الكلام أكيد أنا قلت حتى لا نحمل النص أكثر مما يحتمل هي عبارة فيها أمل بانتشار الدين دون شك، فيها أمل بأن يعود هذا الدين والدكتور الحجي دوما يتكلم عن المستقبل لهذا الدين، وهذا مما يراه كثير أتباعه وتلاميذه والدارسين والمهتمين بالتاريخ الأندلسي.

 أما الجانب الثاني في مشروع الدكتور الحجي، نستطيع أن نتحدث عنه ضمن محورين، أولا للدكتور الحجي تراث كبير كتبه ونشره ومنه ما لم ينشره كما أشار أحمد ابنه وأن هناك عديد المشاريع ستكون جاهزة وسيكونون مستمرين في نشر هذا التراث، وأحمد -حفظه الله- له جهد كبير في استمرار موقع الأستاذ على تويتر واستمرار الاستفادة من تراث الأستاذ الحجي ونحن نتشرف دوما بأن نكون على نفس منهجه أو نحاول أن نقرب هذا المنهج للمتلقي بشتى الأشكال دون شك. المؤسسات العلمية أو الأكاديمية أو المختصة جديرة بأن تبادر لتكون في هذا الشق؛ شق التراث وتبادر لنشر أو لإظهار أشكال أو خصائص هذا التراث الذي قدمه الدكتور عبد الرحمان الحجي في هذا الباب، كما قلت سابقا سيكون هناك مشروع لتسليط الضوء أكثر وبشكل أكاديمي أكثر على إسهامات الدكتور الحجي ومنهجيته في هذا الباب. 

ثانيا كل من قرأ أو تواصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع الدكتور الحجي يعلم أنه كان لديه حلم آخر وهو حلم مركز الدراسات، أحيانا يسميه مركز دراسات السيرة النبوية وأحيانا مركز دراسات التاريخ الإسلامي لكن الفكرة بالعموم هي مركز لدراسة التاريخ الإسلامي، وقد ذكره أحد محبيه مؤخرا في تويتر حيث قال: "أتمنى أن يكون هناك مشروع مركز أو معهد الدكتور الحجي للدراسات الأندلسية"، الدكتور كتب عن هذا الأمر وهو منشور على ما أتذكر؛ فكرة المركز وآلياته واختصاصاته وأهدافه عرضها على أكثر من جهة لكن لم يجد الدعم المطلوب وكان حزينا جدا وحدثني شخصيا -رحمه الله- وقال أنا لم أكن أتصور أن البعض سوف يتوانى عن خدمة الإسلام بهذا الشكل، وكان متأثرا جدا بردة الفعل على هذا المشروع. الدكتور لم يكن يتكلم عن مركز أو معهد دكتور الحجي مع أن الرجل أصبح الآن أيقونة للدراسات الأندلسية، بل كان يحلم فقط بمركز دراسات تستجلي مضامين أو هوية التاريخ الإسلامي على المنهج الذي يتبعه والذي حاول طيلة مسيرة حياته الحافلة والثرية بأن يبينه؛ منهج يقوم على أساس تقديم التاريخ الدقيق.

 نذكر في عجالة شكل ملامح بسيطة للدكتور الحجي الذي كان يمثل الصرامة المنهجية في التوثيق؛ هو صارم جدا في التوثيق يقول أنا لا أذكر شيئا دون دليل، وحينما يذكر الشيء بالدليل يقول أنا لا أعود لما كتبته لأن ما أكتبه وأنشره هو نتاج بحث طويل جدا، لذلك يقول عن كتابه "التاريخ الأندلسي" لم أضف عليه شيئا إلا بعض المسائل وهو كتب قبل سنوات طويلة جدا، لماذا؟ لأن كل جزئية في هذا الكتاب هو نتاج بحث طويل ويظهر هذا الأمر في منهجيته.

 هذه المنهجية لو تطبق -منهجية الصرامة- في التوثيق وفي الرؤية الإسلامية في النظر إلى مجريات التاريخ، والرؤية الفلسفية في التعامل مع أحداث التاريخ، ورؤية استجلاء الأسباب، والإجابة على الأسئلة المهمة "لماذا؟" و"إلى أين؟" و"لماذا حصل ما حصل؟" و"إلى أين نحن سائرون؟" وربط الماضي بالحاضر بصورة قائمة على هذا المفهوم، والنظر للتاريخ الإسلامي على أنه تاريخ تكاملي كما سماه الأستاذ أنور الجندي رحمه الله "الإسلام وحركة التاريخ"؛ حركة التاريخ العامة التي تختلف فيها الأشكال السياسية لكن تجمعها الدائرة الإسلامية العامة، هذا المشروع لو تم واطلع به سواء مؤسسات إسلامية أكاديمية أو أشخاص اجتمعوا على هذه الفكرة أنا أعتقد أنها ستكون فاتحة خير كبيرة جدا، لماذا؟ لأننا نلمس دوما أن الأفكار الأخرى تجد من يتبناها وليس فقط يروج لها وإنما يضخمها، فهناك أفكار بسيطة جدا الآن تضخم فتقدم في صورة وفي هالة كبيرة جدا ولا تجد الجهد المكافئ الذي يواجهها. حلم الدكتور الحجي أن يؤسس هذا الشيء، ونتمنى وندعو الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيد المخلصين والمحبين لهذا المنهج ليقوموا بهذا الدور إن شاء الله بالوقت القريب.

شمس الدين حميود: 
  آخر سؤال أطرحه على حضراتكم وهو أنه لو نظرنا إلى مشروع عماد الدين الخليل وعبدالرحمن الحجي -رحمه الله- واهتمامهما بفقه الحضارة الإسلامية وجوانبها، برأيك ما هي مشتركات هذين المشروعين؟ و ما سر المؤرخين العراقيين في هذا المجال؟
الدكتور عامر ممدوح: 

 الأستاذان؛ أستاذي الحبيب الدكتور عماد الدين خليل -أطال الله عمره وحفظه- وأستاذي ووالدي الحبيب الدكتور الحجي -رحمه الله- ينتميان إلى مدرسة فكرية واحدة، وقد قال الدكتور عماد الدين في مجلس عزاء الدكتور الحجي في رسالته الصوتية التي بعثها: "أخي الحبيب كسرت ظهري بغيابك"، وبعيدا عن الجانب العاطفي الذي يؤثر فينا دون شك الدكتور عماد الدين خليل ينتمي إلى ذات المدرسة التاريخية الإسلامية التي ينتمي لها الدكتور الحجي.

  الاثنان ينظران إلى التاريخ من منظور واحد وإن كانت الاختلافات الفردية على مستوى الخطاب ومستوى الاهتمام ومستوى التخصص لكن تجمعهما النظرة العامة الإسلامية للتاريخ أولا والجهد أو المنظور الإسلامي للتعامل مع الجهد الحضاري أو المنجز الحضاري، الاثنان كتبا في التاريخ بالعموم كتبا في قوانين الحركة التاريخية بشكل أو بآخر وسلطا الضوء بشكل كبير على المنجز الحضاري، سواء الدكتور الحجي الذي سلط الضوء على المنجز الحضاري بتفصيلاته أو كما سلط الضوء عليه الدكتور عماد الدين خليل بعمومياته فكتب على أسس الحضارة الإسلامية وعن هوية الحضارة الإسلامية وعن خصائص الحضارة الإسلامية.

 بعيدا طبعا عن الانتماء المكاني نفخر دوما بأن الدكتور عماد الدين الخليل والدكتور عبدالرحمن الحجي من العراق وطننا العزيز لكنهما للعالم الإسلامي ككل وهما من رموز العالم الإسلامي دون شك، تجمعهما المدرسة الفكرية الواحدة والحلم الواحد طبعا. لو تقرأ مدونات الدكتور عماد الدين الخليل ولقاءاته ستجد التشابه واضحا جدا حتى على مستوى العاطفة، إن الدكتور عماد الدين خليل حفظه الله رجل شاعر وأديب وصاحب قلم رشيق جدا في هذا الباب يقترب كثيرا من كتابة الدكتور الحجي في بعض مفاصلها، وكلاهما يحلمان بذات الحلم في تدوين التاريخ.

 ما قدمه الدكتور عماد الدين الخليل في جانب معين لا يقل أهمية عن إنجاز الدكتور الحجي، ومن فضل الله -سبحانه وتعالى- أن قُدر لأن يُكتب عن الدكتور عماد الدين خليل في حياته رسائل أكاديمية وبحوث والآن نطمح ونسأل الله -سبحانه وتعالى- العون لنا وللآخرين أن يكون ذات الأمر للدكتور الحجي وأن يُسلط الضوء على جهده وإنجازه، الحلم الجامع بين الاثنين المدرسة الفكرية الإسلامية والانتماء الإسلامي الواحد والتاريخ والموطن الجغرافي ويجمعهما أخيرا الحلم الذي سجله أستاذنا المرحوم طه العلواني -رحمه الله- فقال: أحلم يوما بمؤسسة فكرية تجمع عماد الدين خليل وعبد الرحمان الحجي وفلان وفلان وفلان من هذه المدرسة حتى ليس فقط لإبراز جهودهم في هذا الباب وإنما لإثراء الأفكار التي قدموها بمجملهم في هذا الباب لإنتاج مدرسة أو تيار إسلامي جديد يتعامل مع التاريخ وفق ما أراده الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم وفي ما أراده لنا الإسلام العظيم. 

شمس الدين حميود: 
 حفظ الله الأول وأطال عمره إن شاء الله وجزاهما عن أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء بما قدماه وبذلاه لهذه الأمة، وصلنا لختام الحلقة الشيقة التي امتزجت لحسن الحظ بين الأكاديمية والمشاعر كما ذكرنا في البداية، وأجاد فيها الدكتور عامر ممدوح أستاذ مادة التاريخ الأندلسي ومناهج البحث التاريخي، نترك له الكلمة الاخيرة.
الدكتور عامر ممدوح:

بارك الله بك أخي العزيز وأشكرك على هذه الكلمات الطيبة، أشكر أولا منتدى كوالالمبور على هذه الفرصة التي جمعتنا بميدان التاريخ وبأستاذنا الحجي -رحمه الله- من جديد وهي فرصة طيبة جدا، نتمنى وندعو الله -سبحانه وتعالى- أن نكون وُفقنا في تقديم صورة ولو مختصرة ومركزة عن هذا الإنسان الذي يحتاج له كما قلت أوقات كثيرة وجهد أكبر، لكن هذا ما استطعنا تقديمه نتمنى أن يكون هذا نتاجا نافعا ومفيدا في هذه اللحظة، لا أملك إلا أن أدعو الله لكم بالتوفيق والنجاح في مشروعكم الذي لا يختلف كثيرا عن ما ذكرناه وعن ما حمله أستاذنا الحجي والأساتذة الآخرين، وأيضا ندعو الله سبحانه وتعالى لجميع أستاذنا الكبار بالحفظ أولا ولأستاذنا الحجي بالرحمة والمغفرة وأن يجزيه الله سبحانه وتعالى عنا خير الجزاء على هذا الجهد الكبير الذي قدمه، أشكر لكم مرة أخرى هذه استضافة الكريمة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

شمس الدين حميود: 
 السلام ورحمة الله وبركاته أنا أيضا أجدد شكري لكم لما بذلتموه ولهذا التعريف المميز، وأشكر أيضا أخي عبد الحفيظ من المغرب وجاري -أنا من الجزائر وهو من المغرب- حفظه الله وبارك فيه، كما أشكر جمهورنا العزيز الذي تابعنا طيلة هذا البث وطيلة الحلقات السابقة وبالمناسبة أول حلقة كانت من العراق وآخر حلقة من العراق يا لها من مصادفة، نلتقي إن شاء الله في فرص أخرى ولقاءات وحلقات أخرى إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.