التطور الدارويني يقوم على أن الكائنات الحية جاءت عبر تطور خلية أولية بطفرات عشوائية وانتخاب طبيعي، والانتخاب الطبيعي يعني أن البقاء في هذه الطبيعة هو للكائن الأصلح في قدرته على التكيف مع الطبيعة، والبقاء للأصلح يعني الصراع مع الكائنات الأخرى الأحوط في السلم التطوري، فالصراع هو قانون الطبيعة حسب "تشارلز داروين" (Charles Darwin)، هذا وقد سحب داروين نظريته على الإنسان واعتبر أنه تطور من أصل شبيه بالقرود، وحين يتكلم داروين عن الإنسان الأرقى تطوريا، فإنما هو يعني الإنسان الأوروبي الأبيض، أما باقي الأجناس فهم عند داروين في مرحلة وسطى بين القرود والغوريلا وسلفهم وبين الإنسان.

 كما واستنتج داروين أن الأعراق الراقية من الإنسان، لن تتابع الارتقاء التطوري إلا من خلال الصراع لإبادة الأعراق المنحطة (الأقل تطورا)، وهذا هو أساس الداروينية الاجتماعية (Social Darwinism)، والتي تعني تنزيل قوانين داروين في الأحياء على علم الاجتماع، فحسب داروين نحن مجرد حيوانات أكثر تطورا من سائر الحيوانات، وما نفعله نحن بالحيوانات؛ يمكن أن يفعله بنا من هم أكثر تطورا منا، وهكذا أطلق داروين بأفكاره هذه الرصاصة القاتلة على إنسانية الإنسان، واستند عليها الأوروبيون للقيام بإبادات جماعية وحملات تطهير عرقي، خاصة ضد الأفارقة، وسكان الأمريكيتين (الهنود الحمر) وسكان أستراليا الأصليين، فهؤلاء أقرب للحيوانات في نظر الداروينيين.

صحيح أن كثيرا من الممارسات الإجرامية كانت تتم قبل انتشار فكرة التطور الدارويني، لكن هذه الفكرة أراحت ضمائر المجرمين، فقد أصبح لجرائمهم مبرر علمي، فاستمروا في أفعالهم بل وتصاعدت وتيرتها، بحيث شملت سرقة أعداد كبيرة من الأطفال من هذه المناطق، وإرسال أعداد كبيرة منهم إلى متاحف التاريخ الطبيعي في أمريكا وبريطانيا، وذلك لتحديد ما إذا كانوا يشكلون الحلقة المفقودة في طريق تطور الحيوان إلى إنسان. هذا بالإضافة إلى إحداث العقم بشكل قسري وجبري، والذي كان يمارسه الداروينيون عبر العالم على العرقيات التي يعتقدون أنها أحط تطورا، أو الذين يحملون صفات وراثية غير مرغوب بها، فهؤلاء كانوا يعتبرون عبئا على الطبيعة والعالم، فوجب إحداث العقم فيهم، لينقرضوا ويتحقق تحسين النسل أو ما يعرف بالـ (Eugenics).

 الأخلاقيات الداروينية لا مانع فيها لأمة أن تضع من تراهم أقل منها تطورا في حدائق الإنسان، تماما كما نضع الحيوانات في حديقة الحيوان، والمفاجأة أن هذا ليس افتراضا بل حصل بالفعل، بل وشكّل ظاهرة في أمريكا ودول أوروبية عديدة، وقائمة المآسي الداروينية تطول عبر التاريخ، فالصراع وسفك الدماء أصبح هو قانون الطبيعة عندهم، وهكذا أصبحت الداروينية الحرب فيها هدف بحد ذاته، ولا أخلاق لها ولا ضوابط، وليس هذا سوء ممارسة لها، بل هي كذلك وهذا فكرها.

 هذا ومما سبق ذكره أظنه أصبح واضحا أنه على أساس التطور الدارويني الذي يتبناه الملحدون، لا مساواة ولا حرية ولا حقوق إنسان ولا حقوق نساء، فهذه القيم التي ينادون بها تهدمها داروينيتهم، لكن سيقول لك بعض الملحدين، نحن لا نتفق مع كل هذه التصرفات التي تمت باسم الداروينية والإلحاد، بل نؤمن بقيم المساواة بين البشر، لكن السؤال لهم حينئذ ألا تخونون داروينيتكم بهذا؟ أنتم بهذا تحيدون عن النتائج العلمية لنظرية داروين في نظركم، وذلك تحت وطأة انتشار شعارات حقوق الإنسان وحقوق المرأة، فحسب داروينيتكم عليكم أن تكونوا أوفياء للصراع وقانون الطبيعة الذي جاء بكم إلى هذه الدنيا، وأن لا تخونوا الطبيعة العمياء التي جاءت بكم، وأن لا تمنعوها من السير قدما في مشروع الانتخاب الطبيعي للأقوى، ففي الداروينية ليس هناك أي مبرر للتحلي بأي من الأخلاق، بل إن الصراع الدارويني يتطلب من العرقيات التي ترى نفسها أرقى تطوريا أن تتحلى بأخلاق الأنانية والطمع والاستئثار والاعتداء على العرقيات الأحط منها لتبيدها وتتكاثر على حسابها.

 الملحد الدارويني أصبح أمام أحد الخيارين؛ إما أن يتبع أسلافه هؤلاء ويتبع نهجهم الإجرامي الأخلاقي حسب داروينيته، أو أن يقر بالقيم الأخلاقية وقيم المساواة بين البشر من حيث الأصل ويرفض الممارسات الداروينية المذكورة، وحينئذ يكون في تناقض مع نفسه، لأن تفسيره المادي للكون لا يصلح كأساس للقيم المعنوية، ولأن اقتراضه أو سرقته للأخلاق من خارج منظومته الفكرية المادية هو اعتراف ضمني منه بفشل منظومته المادية الداروينية وعدم كفايتها في تلبية حاجات الإنسان، فالملحد حين يتبنى قيما إنسانية في التعامل مع كافة الأجناس دون تفرقة، وعندما يتبنى قيمة الرحمة بالضعفاء، يكون قد مارس ممارسات لا أخلاقية حسب داروينيته، ويكون قد سمح لكائنات أدنى في السلم التطوري بالتكاثر على حساب الكائنات الأرقى، فنحن إن اعتنينا بالقرود على حساب الإنسان لن يكون ذلك سلوكا أخلاقيا.

  وداروينيتك أيها الملحد تجعل رحمتك بالأجناس الأخرى والضعفاء والمعاقين تبدو مثل هذا السلوك، وانظر إلى علمائك الذين انسجموا مع داروينيتهم ولم يناقضوا أنفسهم، حيث يقول (ألكسندر تيلا - Alexander Tille): "من الخطأ الشديد مجرد محاولة منع الفقر، أو الإفلاس، أو مساعدة الضعفاء أو محدودي الإنتاج، مجرد مساعدة هؤلاء خطأ جوهري في النظرية الداروينية، لأنه يتعارض أساسا مع الانتخاب الطبيعي"، وطبقا لـ (هربرت سبنسر - Herbert Spencer) فإن فكرة وسائل الوقاية الصحية، وتدخل الدولة في الحماية الصحية وتلقيح المواطنين، تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي، وكذلك مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى والحرص على بقائهم.

 هذا ولقد وصف (ريتشارد فيكارت - Richard Weikart)، محاولة الداروينية البحث عن أساس علمي تبني عليه التحلي بالأخلاق الحميدة بقوله: "لقد نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية في قلب ميزان الأخلاق رأسا على عقب، ووفرت الأساس العلمي لهتلر وأتباعه لإقناع أنفسهم ومن تعاون معهم بأن أبشع الجرائم العالمية كانت في الحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة، ثم إذا ساويتم أيها الداروينيون بين الإنسان السليم والمعاق، والذكي والغبي، والذكر والأنثى، فبأي مبرر عقلي وقفتم عند هذا الحد؟! لماذا لا تتابعون فتساوون الإنسان بالشمبانزي، والغوريلا وسائر الكائنات القريبة من الإنسان تطوريا حسب معتقدكم؟! خاصة وأنكم لا تؤمنون بقيمة روحية مميزة للإنسان تميزه عن الحيوانات"، كما ويقول (فرانسيس فوكوياما - Francis Fukuyama) في كتابه "نهاية التاريخ" ما خلاصته: إننا لو كنا نؤمن حقا بأن الإنسان مجرد كائن في سلسلة حيوانية يخضع لقوانين الطبيعة وليست له قيم متجاوزة، فإنه لابد أن تتساوى الكائنات جميعا في الحقوق، وبالتالي لا يسمح لنا بالدفاع عن الحقوق المتساوية، فإما طبقية متوحشة أو تساوٍ مستحيل.

هنا سوف يقال لك: هناك ملحدون أخلاقهم حسنة، فنقول: ليس سؤالنا عن إمكانية أن يكون الملحد حسن الأخلاق أو المؤمن سيء الأخلاق، بل السؤال العقلاني هو هل الإلحاد يؤدي إلى الأخلاق الحسنة؟ لا شك أن ما لدى بعض الملحدين من أخلاق حسنة ليس سببه إلحادهم، فالاعتقاد بأننا في هذه الحياة بلا هدف وبلا رقيب وبلا جزاء على أعمالنا خيرها وشرها، هو اعتقاد لا يمكن أن يكون دافعا نحو الأخلاق الحسنة، لكن الإنسان في النهاية يتأثر بمجموعة عوامل كالتربية في الصغر والبيئة المحيطة، وليست القناعة الإلحادية هي العامل الوحيد في صياغة الأخلاق. أما الإيمان بوجود الله تعالى إيمانا صحيحا ضمن التصور الإسلامي هو ما سيدفع نحو مكارم الأخلاق لا محالة، وإذا كان لدى المؤمن سوء خلق فهذا لنقص في إيمانه، لا لأن الإيمان هو الذي تسبب في سوء الخلق أو أدى إليه، والملحد ينسجم مع إلحاده إذا تحلى بأسوأ الأخلاق، ويمارس فصاما نفسيا ويخون ماديته إذا تحلى بمكارم الأخلاق. 

قد يقول الملحد هنا: العلم الحديث يساعدنا في إبطال أخطاء نظرية داروين التي أدت إلى تفرقة وطبقية دون هدم النظرية من أساسها، لكن الجواب على هذه النقطة هو أن التطور الدارويني يؤكد على أن كل الكائنات بما فيها الإنسان هي في تطور مستمر؛ وهذا يلزم منه وجود أعلى وأدنى في أعراق الإنسان الموجودة حاليا، هذا لا خلاف عليه بين الداروينيين، وقد يقع الخلاف بينهم على معيار هذا التفاضل التطوري، هل هو حسب حجم الجمجمة؟ أو لون العينين؟ أو بروز الجبهة؟ أو حجم الأنف؟ أو الذكاء؟ أو المهارات؟ أو البنية النفسية؟ ... لكن من حيث المبدأ لابد من وجود أدنى وأرقى في الأعراق البشرية حسب الداروينية، مما يؤدي حتما إلى التفرقة البغيضة التي رأيناها. 

 هنا وبعد هذا كله نفهم نعمة تأكيد الإسلام على مساواة البشر بعضهم ببعض من حيث الأصل، حيث يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، كما وجعل الله تعالى مجال التنافس أمرا يملك الإنسان أن يسعى لتحصيله، وهو التقوى، لا لون البشرة، ولا حجم الشفتين، ولا تفلطح الأنف وغيره، كما يقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى)، ويقول: (إنما النساء شقائق الرجال)، فالحمد لله الذي هدانا إلى أننا لم نوجد في هذه الأرض من أجل الصراع، بل لعبادة الله تعالى الذي جعل من أهم وسائل عبادته إحسان الإنسان للناس والرحمة بضعفائهم.