رمضان يفرغنا ويملؤنا: يفرغنا بإبعادنا عن المعاصي خوفا من أن يَفسد صيامنا ويملؤنا بالترغيب الشديد في الطاعة وتيسير الإقبال على العبادة.
إذا حفظ المؤمن صيامه مما يفسده كما ذكّرنا به في المقال السابق من سلسلة " أفضل العبادات في رمضان" فقد استوفى الواجب الشرعي وبلغ المراد بحول الله تعالى. فإن أراد تعظيم أجره والمسارعة إلى محو ذنبه فإن النصوص خصّت هذا الشهر بعبادات محددة يَعظُم أجرُها في شهر رمضان ويُعَظّم فضلُ هذا الشهر بها. على رأس هذه الطاعات قيام الليل، إذ هي العبادة الجليلة الألصق بشهر رمضان وفق ما ورد في النصوص الشرعية وما تواتر عن سلوك المؤمنين منذ العهد النبوي إلى اليوم.
إن شهر رمضان هو شهر يُربي ويدرب بتغيير العادات السيئة وتشكيل عادات طيبة أساسية بديلة، ولأن قيام الليل هو شرف المؤمن ودرب الصالحين ولا ينتبه إليه إلا ثلة قليلة من المؤمنين ولا يتذوق حلاوته ولا يرى أثره في القلب والجوارح إلا نزْر قليل من عباد الله الصالحين أراد الله تعالى أن ينبه إليه كل مؤمن ويعمّمه في شهر رمضان على المسلمين بجعله الظاهرة الدينية الاجتماعية الأبرز في ليالي رمضان في صلاة التراويح، فلعل من رواد المساجد في تلك الساعة الممتعة المفيدة المؤنسة بعد الإفطار من يتعلق قلبه بها فيُؤنِس سويعة من لياليه بمثلها بين الحين والحين في سائر الشهور.
لقد سن رسول الله القيام في شهر الصيام قوليا في الحديث الشريف الذي رواه أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رواه البخاري ومسلم، وأكد الأمر فعليا بأن صلى بالناس لثلاث ليال حتى امتلأ المسجد ثم خشي أن تفرض عليهم فتركهم يصلون قيام الليل أوزاعا متفرقين، وبقوا كذلك حتى وُلي عمر فجمعهم على إمام واحد هو أبي بن كعب واستقر أمر الأمة الإسلامية في كل العصور والأمصار إلى اليوم عبر ما نسميه "صلاة التراويح"المنقولة إلينا بالتواتر.
سمي قيام الليل في شهر رمضان بالتراويح، جمع ترويحة، لأنهم كانوا أول ما اجتمعوا عليها يستريحون بين كل تسليمتين، كما قال الحافظ بن حجر. ورُتبت التراويح بعد صلاة العشاء لسهولة اجتماع الناس عليها من الليل، ولما فيها من انشراح نفسي وتلاق اجتماعي ورياضة جسدية بعد الإفطار.
ومن السّنة إكمال المصلي صلاة التراويح كلها مع الإمام حتى يوتر، وفي التراويح بركة لمن اكتفى بها في رمضان، ومن أراد الزيادة فليزد ما شاء دون أن يكرر الوتر ف" لا وتران في ليلة" كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وصححه ابن حبان.
والاجتهاد في قيام الليل غير التراويح محمود في كل ليالي رمضان، ويزداد فضلا في الليالي العشر الأواخر من الشهر، للأفراد والعائلات في بيوتهم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها ((كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ))، ويتجلى الفضل كله و ويجتمع الخير من أطرافه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تتنزل فيها الملائكة وتُقسم فيها الأرزاق وفيها يفرق كل أمر حكيم، وكان فضل القيام فيها لا يعدله فضل وفق ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)).
إن فرصة التراويح فرصة عظيمة للرجوع إلى الله وغفران الذنوب وكسب الأجور وتذوق لذة القيام، ومداواة النفوس وتسليم البال والفكر بقدر الاستطاعة لآي الذكر الحكيم وراء الإمام، والتعود على هذه العبادة النبيلة المشرفة لما بعد رمضان لمن أراد أن يكون من أهل الله وخاصته.
لقد مدح الله قُوّام الليل في كتابه العزيز وفضلهم على غيرهم أنهم هم أولو الألباب أهل الفهم والعلم والإدراك فقال سبحانه: (( (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب)).
كما مدحهم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فعدّهم أنهم أهل الشرف بين المؤمنين فقال في الحديث الصحيح: (( واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)) وما ذلك إلا لأن مقام قيام الليل مقام علّي يرفع الله إليه من استوفوا شروط نياشين الشرف ممن قصدوا الله بقلوب سليمة، وحرصوا على أن لا يراهم خالقهم في ما يشين دينهم وخلقهم من اقتراف الموبقات والتخلي عن الواجبات وظلم المخلوقات. فما من عبد صالح إلا ويؤمل فيه أن يكون من القوّامين كما قال عليه الصلاة والسلام عن الصحابي الشاب عبد الله بن عمر في الحديث الصحيح المتفق عليه: (( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل))، وكان عليه الصلاة والسلام لا يحب أن يتعود أصحابه القيام ثم يتركوه لما يعلم فيه من خير فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (( يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ: كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)).
إن حرص رسول الله على الخير لأصحابه، في دينهم ودنياهم، هو ما دفعه لتوجيههم وتذكيرهم بقيام الليل، فلقد كان عليه أفضل الصلاة والتسليم يعدّ صلاة الليل أفضل الصلاة بعد الفريضة وفق ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة في قوله عليه الصلاة والسلام: (( أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))، كما أنه كان يرغب في أن يدركوا فوائد مغادرة الفراش للصلاة على نحو ما جاء في ذلك الحديث البديع الذي صححه الألباني الوارد عن عدد من الصحابة منهم بلال وأبي أمامة وأبي الدرداء وسلمان الذي دلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على فوائد دينية لقيام الليل من حيث دوره في تخلية النفس من المعاصي وتحليتها بالطاعات جربها المتقون، ومن حيث الفوائد الدنيوية لحفظ الجسم من الأسقام بينتها كذلك الدراسات الطبية العلمية من حيث أثر الحركة والنهوض من الفراش ليلا على صحة الجسم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكمْ بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، و قربةٌ إلى اللهِ تعالى، و منهاةٌ عنِ الإثمِ، و تكفيرٌ للسيئاتِ، و مطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ)).
وعلاوة على كل ذلك كان رسول الله تعالى يحرص على تذكير أصحابه بقيام الليل لأنهم شركاؤه في حمل أمانة عظيمة في تبليغ الرسالة معه وبناء أمة وإنشاء حضارة، ولا يعين على هذا الحمل إلا خلوات مع الله، تُنقى فيها السرائر، وتعظّم الأجور، ويُستجاب فيها الدعاء لنيل المدد والعون من الله العزيز الكريم. ولئن كان قيام الليل واجب في حقه عليه الصلاة والسلام على قول بعض العلماء لقوله تعالى لنبيه على صيغة الأمر في سورة الإسراء: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا. 79))، من حيث أنه المسؤول الأول عن الرسالة في الأمصار كلها والأزمنة جميعها والأجناس برمتها، فإنه كلما كبرت مسؤولية المؤمن من أتباعه وعظمت تكاليفه كان أحوج لقيام الليل من غيره.
ليس للقيام حد، وإنما العبرة بالنية والعزم وإقبال القلب وسكينة الجوارح والدوام، فمن صلى ركعتين فقد قام الليل، وقد يكون في هذا القدر اليسير بركة عظيمة وشأن جليل للمؤمنين المشغولين، في الليل أو النهار، بطلب علم نافع أو رزق حلال أو جهاد لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق، ومن صلى أكثر من ذلك فلا حائط يحصر تلك الحدائق الفسيحة البهيجة، فقد جاء في الحديث جيد الإسناد عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ منَ الغافلينَ، ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِبَ منَ القانتينَ، ومن قرأ بألفِ آيةٍ كُتِبَ منَ المقنطِرينَ)).
وليس للقيام وقت محدد في الليل، وإنما ذلك حسب الظروف والقدرة والاستطاعة، غير أن القيام في آخر الليل أفضل وأنفع، وهو موعد المناجاة والتحلل من السيئات وطلب الحاجات في ذلك الموعد المهيب الذي يضربه الله لعباده، من أجاب منهم ذلك النداء الكريم الذي ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟)).
فالله نسأله أن لا يحرمنا من هذه العبادة الجليلة سبحانه.