من المفاهيم الحساسة، والتي يجب الانتباه إلى حقيقتها، وهي: المعنى الحقيقي للحياة والموت، وأنَّ التتبُّع القرآني لهذه المعاني الدقيقة يجعلنا بحاجةٍ إلى مراجعة بعض المسلَّمات، حتى نضع أنفسها على سُلَّم الأولويات، فعند الوقوف على هذا الفقه القرآني نجد بأنَّ الحياة تنقسم إلى: حياةٍ طبيعية وحياةٍ حقيقية، وأنَّ المؤمن مطالبٌ بالارتقاء بنفسه في هذا السُّلَّم القيمي، فلا يرضى أنْ يعيش مجرد الحياة البيولوجية المادية، فهناك أصواتٌ القرآنية تطرُقُ الآذان بذلك الإيقاع القوي للانتباه لذلك الفرق الدقيق بينهما، في قوله تعالى: "أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا، كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(الأنعام: 122)، إذ السِّياق القرآني يوحي بأنَّ معنى الحياة يختلف من المعنى الظاهري إلى المعنى الخفي المقصود، فما معنى: الحياة والممات في هذه الآية؟

إنَّ هذا التشبيه القرآني بهذا التعبير العميق من أجل تجسيم هذه الحقيقة يؤكد أن هذه المعرفة الإلهية تريد الانتقال بنا من تلك المعاني السَّاذجة عن الحياة والممات إلى المعاني الحقيقية بهذه الإيقاعات التصويرية الناطقة، وأنَّ الآية لا تقف في تعبيرها الإيحائي على مجرد الحياة الطبيعية المرتبطة بعالم المادة والجسد، بل تحكي قصة ذلك الإنسان الذي كان مغيَّبًا في عالم الأموات بالمعنى المادي الظاهري، فأحياه الله حياةً حقيقيةً جديدة، هي حياة القلب والروح والعقل والإدراك والإحساس والشعور، قال الحافظ "ابن كثير" في تفسيره: "هذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمؤمن كان ميِّتًا، أي في الضَّلالة، هالِكًا حائرًا، فأحياه الله، أيْ أحَيَا قلبه بالإيمان."، فالحياة الطبيعية، هي الحياة البيولوجية الجسدية، التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان وسائر مَن يوصف بالمخلوقية، وأما الحياة الحقيقية فهي حياة إيمانيةٌ روحيةٌ راقية.

وإنَّ المعرفة القرآنية تهدي صاحبها إلى إدراك ذلك السِّر الذي يجمع بين هذه اللطائف التي تحتويها الكينونة البشرية، وهي: الحياة والإدراك والعاطفة، وأنَّ مجمع هذه الأسرار هي: الروح، وهي اللطيفة الإلهية التي تتجلَّى أكثر في حياة الإنسان خلال شهر رمضان، شهر انتصار الروح، فهي إذا أشرقت على الجسد انبعثت فيه الحياة، وإذا أشرقت على الدماغ تولَّد فيه العقل والإدراك، وإذا أشرقت على القلب انفجرت منه مشاعر الحب والخوف والتعظيم، وهي العواطف الدافعة للفعل والسُّلوك عند الإنسان.

إنَّ الصيام والقيام طريق ارتقاء القلب في مدارج السُّمو إلى الله تعالى، وهما سبيل معرفة أحواله وسيره وسلوكه إلى الله عزَّ وجل، في أدبٍ وذوقٍ وشوقٍ وفق الرؤية القرآنية التطوُّرية في هذه العلاقة المقدَّسة، والتي تبدأ بمعرفة النَّفس وتجلية جوهرها الإلهي، وما تنطوي عليه من أسرار وألطافٍ غيبية، يظلُّ هذا القلب في سموٍّ وارتقاء، حتى يقف عند ينابيع العطاء الرباني، بما يفيضه الله تعالى على عباده من أسرار رمضان والقرآن، قال "ابن القيم": "وسمَّى وَحْيَه روحًا؛ لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح، فقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا"(الشورى: 52)، فأخبر أنه روحٌ تحصل به الحياة، وأنه نورٌ تحصل به الإضاءة.."، فالوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن، ولهذا فإنه مَنْ فَقَد هذه الروح فقد فَقَد الحياة الحقيقية في الدنيا والآخرة، بل إنَّ غذاء الروح، وهو: القرآن والذِّكر يمتدُّ ليُحْيِي المكان كما يُحْيِي الإنسان، فكان مما تُحْيَا به القلوب والبيوت والنفـــوس: ذكر الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه كَمَثَل الحيِّ والميِّت، وقوله: "مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مَثَل الحيِّ والميت"، ومن ذلك: حَثُّه على الصَّلاة النافلة في البيوت في قولــه: "اجعلـــوا فــي بيوتكـــم من صــلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً". 

وإنما تتحقَّق هذه الحياة الحقيقية المطلوبة من المؤمن: بحقيقة المعرفة بالله تعالى، وقد قال الإمام "القرطبي" في تفسير قوله تعالى: "أوَمَن كان ميِّتًا فأحييناه.."، قيل: كان ميِّتًا بالجهل فأحييناه بالعلم، وأنشد بعضُ أهل العلم ما يدلُّ على صحَّة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة: وفي الجهل قبلَ الموتِ موتٌ لأهله **** فأجسامهم قبلَ القبور قبورُ.

وربط الإمام الشَّافعي بين عِلَّة القلب بالمعصية وبين خدش المعرفة بها، بما يدلُّ على موته بظلمة الذنوب، فقال:

شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي **** فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي. 
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِـــــــــــــــــــلمَ نـــــــــورٌ **** وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصــــــي.
وقد لخَّص الإمام "عبد الله بن المبارك" – رحمه الله تعالى تلك المسألة في قوله: 
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوب **** وقد يورث الذلَّ إدمانُها. 
وتركُ الذنوب حياةُ القلـــــوبِ **** وخيرٌ لنفسكَ عصيــانُـــــــها.

فهناك علاقةٌ بين صفاء القلب واكتساب العلم والمعرفة، فالأصل في القلب - بالمفهوم المعنوي وليس بالمعنى العضلي - هو الصَّفاء على الفطرة التي فُطِر عليها، ولكنَّ الابتلاء بالدنيا، ومعالجة الإنسان للأيام، واحتكاكه بالحياة يجعله عرضةً لتعكُّر هذا الصَّفو والتلبُّس بالكَدَر، وقد جاء التصوير النبوي الشريف لعمق هذه المعاني في حديث حُذَيْفَة بن اليمان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا"، فقد ربط بين صفاء القلب وبين المعرفة، وهو الصَّفاء الذي يُكسِب الإنسان قوَّة الرُّؤية القلبية بالبصيرة، فكما ترى العين حقائق الأشياء المادية بانعكاس الضُّوء عليها يرى القلب حقائق الأشياء المعنوية بانعكاس النُّور الإلهي عليها، وقد أثبت القرآن الكريم للقلب تلك الرُّؤية في مثل قوله تعالى: "فإنَّها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصُّدور."(الحج:46)، وإذا كان الناس يشتركون في إشراقة الرُّوح على خلايا الدِّماغ فينبعث الإدراك، فإنَّهم يختلفون في التجلِّيات الإلهية على القلب فتنشأ المعرفة، وبقدر صفاء القلب بالتزكية يكون العطاء الرَّباني بالفهم، وبقدر الاستعداد البشري بالأسباب يكون الإمداد الإلهي بالحكمة، "ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا"(البقرة:269).

إنَّ هذه المعرفة بالله تعالى لن تكون حقيقيةً ونافعةً إلا إذا انتقلت بفاعليةٍ إلى العالم الواقعي السُّلوكي والعملي للإنسان، وقد قال "ابن عطاء الله السكندري" – رحمه الله تعالى في إحدى حِكمه: "خيرُ العلم ما كانت الخشية معه"، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ.."(فاطر:28)، وهو ما يدلُّ على ذلك التلازم بين العلم والخشية من الله تعالى، فأينما ترسَّخ العلم في النَّفس وُجِدت الخشيةُ من الله معه، إذْ هذا الحَصْرُ في البيان الإلهي بين العلم والخوف من الله يؤكِّد على هذا البُعد السُّلوكي والعملي في الإنسان، بما يدعو إلى طاعته والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه، وأنَّ أيَّ معرفةٍ لا تقرِّبُنا إلى الله زُلفى فهي ساقطةٌ عن رتبة العلم الحقيقي، وأنت ترى هذا التلازم بين معنى الاستجابة الدالة على الفاعلية والحركة وبين ما نتطلَّع إليه من الحياة الحقيقية في الجانب العملي من الإنسان في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ.."(الأنفال:24)، وهي حياة القلب والعقل والرُّوح.