إن شهر رمضان جامع لكل الطاعات، صيامه ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو في نفس الوقت فسحة تربوية عميقة وواسعة الأثر في تقوية الأركان الأخرى في نفس المسلم، فالاشتغال بالقرآن يعمق معاني شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إذ سماعه وتلاوته يذكران بالله وبصفاته وأسمائه وبِمقتضيات التوحيد كلها، وفي رمضان يتمسك الصائمون بالصلاة أكثر من أي شهر آخر فتعمر المساجد ويقبل الناس على النوافل والتراويح وقيام الليل، ولا يوجد شهر يتراحم فيه المسلمون بإطعام الطعام والإنفاق على المحتاجين كشهر الصيام، وفيه تتوافد على بيت الله الحرام حشود المعتمرين من كل حدب وصوب في مظاهر عظيمة تذكر بأيام الحج الأكبر.

وكل هذه الأجواء العبادية البديعة تؤكد أن شهر رمضان هو فعلا شهر للتذكير والتصحيح والتدريب للمحافظة على الأركان وتحصينها بأحزمة عبادية تطوعية يتعوّد عليها المؤمن لما بعد الشهر الرمضاني الفضيل.

ومن أعظم هذه الطاعات التي تشيع وتنمو في هذه المناسبة الصدقة وإطعام الطعام، وقد جاءت النصوص الصحيحة قوية تؤسس لهذا الموسم التراحمي منها الحديث الصحيح الذي وصف فيه أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ((أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))، ومنها الحديث الحسن الصحيح الذي رواه الترمذي عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا))، كما فرض الإسلام زكاة الفطر على كل صائم قادر عند انقضاء الشهر ينفقها عن كل ما تجب عليه نفقته، وفق ما ورد في الصحيحين وما تواتر عن المسلمين فعله منذ العام الأول الذي فرض فيه الصيام إلى اليوم، وهي زكاةٌ لجبر ما نقص من صيام الصائم ولإطعام المحتاج كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ». بل إن ثمة مسؤولية عامة على الصائمين لصالح الفقراء والمحتاجين في ديننا، إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يتضامنوا بينهم في العيد حتى يفرح فيه وبه جميع المسلمين، فقيرهم وغنيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر: ((أغنوهم عن طواف هذا اليوم )).

واتباعا لهذا الهدى تفتح أبواب الخير على مصراعيها في أيام رمضان، وتتسع سبل الخيرات، فترى محلات إفطار الصائم في كل الأحياء في كل أنحاء الدنيا، ويخرج الشباب يقابلون المسافرين لإطعامهم على الطرقات في كل مكان، وتفتح البيوت لإكرام الصائمين في كل البلدان، ويتنافس المحسنون ويتفنون في الإنفاق على مختلف المأكولات والمشروبات في موائد الإفطار في المساجد والمطاعم ودور استقبال الصائمين المتنوعة، كل هذا ضمن حركة مالية عظيمة خيرية لا يقع مثلها ولا قريبا منها في أي أمة من الأمم. فإذا أقبل العيد، يأخذ الفقراء مما فضُل عليهم، والأغنياء مما تفضل الله به عليهم، فيوصلوه بأنفسهم وبطيب خاطر للمحتاجين قبل صلاة العيد في دوران للمال نحو الفئات الهشة على نطاق عالمي بديع أدهش الدارسين الاقتصاديين والاجتماعيين من غير المسلمين.

إن ما يحدث في رمضان إنما هو تكثيف لخصيصة إسلامية فريدة في النظام الاجتماعي الإسلامي وقواعد المنظومة التكافلية ببن المسلمين بنيت على أسس متينة منها:

‐ أن المؤمنين في الإسلام إخوة برباط العقيدة وفق قوله تعالى في سورة الحجرات: ((إنما المؤمنون إخوة – 10))، يتعاملون بينهم من منطلق الولاء لبعضهم البعض وفق قوله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)))، بل هم كالبناء الواحد المتماسك المتناغم وفق الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا))، وهم جسد واحد تتأثر جميع أعضائه بما يصيب أي عضو منه كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)).

‐ وأن المال الذي بين يدي الإنسان إنما هو مال الله جعله سبحانه مستخلفا بين يدي العباد وفق قوله تعالى في سورة الحديد: (( آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7))). وأن ما يأخذه الفقير من الغني إنما هو حقه مفروض له من صاحب المال الأصلي، قال الله تعالى في سورة المعراج : ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. 24.25))، وفي سورة الإسراء: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . 26))، إذا لم يعطها الغني طواعية تؤخذ منه جبرا من الحاكم وفق قوله سبحانه في سورة التوبة: ((خُذ مِن أَموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكّيهِم بِها وَصَلِّ عَلَيهِم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُم وَاللَّـهُ سَميعٌ عَليمٌ. 103))».

‐ أقام الإسلام نظاما اجتماعيا اقتصاديا متكاملا لرعاية الفقراء والمساكين، أساسه فرض الزكاة التي قرنها الله تعالى في القرآن الكريم بإقامة الصلاة في اثنتين وثمانين آية كقوله تعالى في سورة البقرة: ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. 43)) وهي ركن من أركان الدين كما جاء في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله يلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان))، والزكاة ليست مجرد صدقة عادية، بل هي منظومة كاملة اقتصادية اجتماعية هدفها الأسمى هو محاربة الفقر ومختلف آفاته ومخاطره على الفرد والمجتمع، فالله تعالى حدد مصارف الزكاة لكي لا تستعمل في غيرها في قوله تعالى في سورة التوبة: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.60)) وتُركت شروط ومواصفات كل مصرف للفقهاء والمؤسسات المتخصصة لكل عصر لتحديد ذلك، وقد تحولت الزكاة في هذا العصر في كثير من البلدان إلى مؤسسات مالية لخدمة المصارف الثمانية على أساس العلم والدراسات الاقتصادية الاجتماعية. وعلاوة على الزكاة ثمة كثير من التشريعات والابتكارات التي أنشأها الإسلام في منظومته الاجتماعية كالمواريث والأوقاف والكفارات ومختلف أنواع الصدقات.

‐ ولإجبار الله تعالى الأغنياء على الزكاة ولكي لا يخرج حق حرية التملك الذي يقره الإسلام عن مقصده حرّم الله تعالى تكنيز المال الذي لا تخرج منه الزكاة بقوله تعالى في سورة التوبة: ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. 34))، فباتت الزكاة ذاتها محفزة لاستثمار المال لكي ينمو، وكلما نما استفاد منه الفقراء، ويفيد هذا المعنى ما رواه الدارقطني والبيهقي بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه قال : (( اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)).

‐ كما حرّم الله أن تبقى الدائرة المالية بين الأغنياء فقط فلا يدخلها غيرهم ولا يستفيد منها المحتاجون كما قال الله تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))، ويذكر سيد قطب في تفسير هذه الآية كلاما بديعا في النظرية الاقتصادية الإسلامية والنظام الاجتماعي في الإسلام منه قوله: ” فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية، ولكنها محددة بهذه القاعدة، قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعا من التداول بين الفقراء، فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله، وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد.”، وأهم وسيلة اعتمدها الإسلام لمنع تركيز الثروة في أيادي قليلة، بالإضافة إلى فرض الزكاة، هي تحريم الربا وجعله من الكبائر التي يمحقها الله في قوله تعالى في سورة البقرة: ((يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. 276))، ويحارب مقترفيها كما جاء في سورة البقرة: ((فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ 279 ))، بالإضافة إلى ترتيبات تشريعية أخرى فصلتها السنة النبوية منها تحريم الاحتكار والغش والفساد وغير ذلك. وهذا خلافا للنظام الرأسمالي السائد الذي وضع ثروات الكون كلها عند فئة قليلة لا تمثل 2% من سكان المعمورة فانتشر الفقر والعوز والمرض والجهل في بلدان بكاملها وأعداد هائلة من البشر في مختلف أنحاء العالم.

‐ وعلاوة على حق الزكاة جعل الله تعالى للفقراء حقوقا أخرى في أموال الأغنياء عبر الترغيب الواسع في الصدقات الذي يتكرر بشكل كبير في القرآن الكريم من أوله إلى آخره، فجعل الله تعالى الصدقة شرطا لبلوغ درجة البر والصلاح وفق قوله تعالى في سورة آل عمران: (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ. 92))وأكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عدّ الصدقة هي دليل الإيمان والصلاح فقال في الحديث الذي رواه مسلم: (( الصدقة برهان))، ووعد الله المتصدقين بمضاعفة الأجور يوم القيامة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. 261))، وقوله في سورة الحديد: ((إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ. 18))، وقوله سبحانه في سورة البقرة: ((مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)). وجاءت السنة تؤكد ذلك في سلسلة كبيرة من الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث، الذي يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة عظيمة كافية لرسم التصور الصحيح للمال بالنسبة للمسلم، وهو ما رواه مسلم عن عبد الله بن الشخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟)).

‐ ولترغيب الميسورين في الصدقة وعدهم الله تعالى في القرآن الكريم بطرق عديدة بأنه سيبارك في أموالهم ويخلفها وينميها لهم في الدنيا، ومن ذلك قوله تعالى في سورة سبأ: ((وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. 39))، وأكدت السنة النبوية ذلك في أحاديث صحيحة كثيرة منها الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ))، ومنها الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ..)) كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فوائد كثيرة يصيبها المتصدق في حياته الدنيا ومن ذلك دفع البلاء وشفاء المريض وانشراح الصدر وعلاج داء قسوة القلب وغير ذلك.

‐ ولجعل الصدقة سلوكا عاما بين المسلمين، يتصف به الغني كثير المال، والفقير الذي لا مال له، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بأقل المتاح وفق ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة؟))، كما أن أجر المقل قد يسبق أجر المكثر وفق ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سبق درهمٌ مائةَ ألفٍ كان لرجلٍ درهمانِ فتصدَّقَ أجودُهما وانطلق رجلٌ إلى عرضِ مالِه فأخذ منها مائةَ ألفٍ فتصدقَ بها)).

‐ وكما نظم الإسلام الزكاة بتحديد مصاريفها، فإنه نظم مختلف الصدقات ومختلف دروب الإحسان للغير بتحديد الأولويات فيها، فجعل الأهل والأرحام أولى من غيرهم ثم ما سواهم كالجار والصاحب بالجنب وابن السبيل وفق ما جاء في الآية الكريمة في سورة النساء: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36))) وفي الحديث الصحيح: (( ابدأ بنفسِك فتصدق عليها فإن فضل شيءٌ فلأهلِك فإن فضل عن أهلِك شيءٌ لذوي قرابِتك فإن فضل شيءٌ عن ذي قرابِتك فهكذا وهكذا)). وتجب الصدقة كفائيا في حق كل من يتعرض للمهلكة إن لم يأخذها، وتتعين على من يعرف حاله. وقد تجب الصدقة للبعيد في حال العدوان على المسلمين في أي بقعة من بقاع الأرض وفي حين المجاعات والنكبات، وقد حدث في عهد سيدنا عمر قحط لأهل الحجاز فأرسل إلى ولاته بالأنصار ليعينوه في تلك الضائقة فتسابقت الأقطار الإسلامية في الاستجابة إليه.

‐ ولتحقق الصدقة مقاصدها فيقبلها الله من صاحبها وينميها له، وتؤدي فعلا إلى إكرام الفقير والمسكين والمحتاج إليها، وتتسبب في الاستقرار الاجتماعي وتقلص العداوات والصراعات الطبقية فإنه يجب أن تكون بنية طيبة خالصة لله تعالى من مال طيب حلال كما جاء في قوله تعالى في سورة الإنسان: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا 8-12))، وقوله تعالى في سورة البقرة: (({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. 267)) وعلى نحو ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تصدَّقَ أحدٌ بصدَقَةٍ منْ طيِّبٍ ، ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيبَ ، إلَّا أخذَها الرحمنُ بيمينِهِ ، وإِنْ كانتْ تَمْرَةً ، فتربُو في كفِّ الرَّحمنِ حتى تَكونَ أعظمَ مِنَ الجبلِ ، كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّهُ أوْ فَصيلَهُ)).

‐ ومن شروط وآداب الصدقة وفق هذه النصوص إكرام المتصدق عليه وعدم إشعاره بالمهانة، وعدم إذيته بالتأفف أو بأي شكل من أشكال الحديث أو التصرف وعدم المن عليه بالحال أو المقال أو الاشتراط، فإن الله قد حرم ذلك وجعله مذهبا لأجر التصدق كما قال تعالى في سورة البقرة من الآية 264: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ)). ومما أظهرته الدراسات أن المن والإذية والتعالي أثناء تقديم الصدقة يربي الحقد والضغينة عند الفقير تجاه الغني، وهو عكس المقصد الذي أراده الإسلام وهو أن يفرح المتصدق بتقديم صدقته والنظر إلى الفقير على أنه فرصة للنجاة والبركة وأن يفرح الفقير بالغني ويعدّه فرصة لكرامة العيش.

‐ ومما يساعد على القبول والأجر وكرامة الفقير تقديم الصدقة سرا، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (( سبعة يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه .. فذكر الحديث، وفيه: ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفق يمينه)) .وذلك هو الأصل، إلا أن يكون في إظهارها مصلحة مقدرة تقديرا شرعيا كما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة: ((إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .271)).

‐ وفي الأخير لا بد أن نشير أن الإسلام يوسع في مفهوم الصدقة إلى كل أنواع البر التي يراد بها وجه الله وفيها مصلحة للمسلمين ومن ذلك ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، قالَ: تَعْدِلُ بيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عليها، أوْ تَرْفَعُ له عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، قالَ: والْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)).

والله ولي التوفيق