ما يزال الكثير من النقاش مطروحا وبقوة في صفوف شباب الحركات الإسلامية منذ أحداث الربيع العربي إلى يوم الناس هذا حول حدود العلاقة القائمة بين المحسوبين على الدين كعلماء متخصصين في جزئيات أو كليات شرعية أو دعاة ومؤثرين وخطباء ووعاظ وغيرهم من مستويات الخطاب الذي يتسم بنكهة شرعية، وبين الشؤون السياسية التي لها مستويات مختلفة ومتشعبة 

منها المستوى النظري المحض، ومنها المستوى الميداني الإجرائي المحض، ومنها المحطات الانتخابية، والاصطفافات الحاصلة، ومنها الشؤون الاستراتيجية بعيدة المدى، ومنها الخطوات الإجرائية قريبة المدى وسريعة التأثير، وغيرها من أصناف الوقائع التي لها اتصال مباشر بشؤون السياسة سواء تلك التي لها اتصال بالانتماء للدول القطرية ومقايضتها بشؤون هيئات أممية متجاوزة للدول أو تلك الانتماءات الحزبية الإيديولوجية التي تضيق عن البعد القطري في حد ذاته. 

وما بين هذا وذاك قضايا متعددة؛ جزء منها يتعلق بصراع دولي، وآخر إقليمي، وآخر إيديولوجي، وبالمختصر ما تزال طاحونة المواقف تدور رحاها، وتصنع وعيا متجددا كلما دارات الأحداث والوقائع.

وكأحد أولئك الذين يخوضون النقاشات المطولة في هذا الموضوع مع الملاحدة و العلمانيين والإسلاميين بكل أطيافهم المتشددة منها والمنفتحة إلى أبعد الحدود؛ فلقد تشكلت لدي قناعات كثيرة مختلفة أحب مشاركتكم إياها.

هناك طيف يرى ضرورة فصل الدين في حد ذاته عن المعرفة البشرية؛ ومن باب أولى فصل كل من يستمد معارفه من الدين عن أي موقع تأثير في الحياة؛ ومن باب أكثر أولوية فصل المهتمين بشؤون الدين عن السياسة وحرمانهم منها تماما.

وهناك طيف آخر يرى أن الدين له معارف أضيق من مشاكل الحياة التي تضطلع بها السياسة، فله مجاله الضيق وعلماؤه المختصين به، وللسياسة رجالها وذووها وعلماؤها.

فمن الطبيعي أنه لا يحق لعلماء الدين حشر أنوفهم في أمور السياسة لأن معرفتهم بطبيعتها أضيق من شؤون السياسة.

وهناك طيف ثالث يرى أن الدين مصدر من مصادر المعرفة العامة، والمتخصصون فيه قد لا تسعفهم أوقاتهم ولاجهودهم ولا أخلاقهم للإحاطة بمجريات السياسة وزواياها الضيقة، فمعارفهم في هذا المجال في الغالب تكون سطحية، وخياراتهم تكون أقرب إلى السذاجة. فعلى الرغم من أنه يحق لهم إبداء رأيهم في الشؤون السياسية إلا أن عليهم الابتعاد في إبداء رأيهم عن تدبيجها بالفتاوى الشرعية، وتصنيف الناس من خلالها.

وهناك طيف رابع يرى أن علماء الشريعة بشر ومواطنون، ولهم تخصص مثلما أن لكل المواطنين الآخرين تخصصات متنوعة، وبما أنه يحق للجميع التعاطي مع الشؤون السياسية العامة من زاوية تخصصه الخاصة؛ فإنه ليس هناك أي داع لتمييز رجال الشريعة دون غيرهم إن بالإيجاب أو بالسلب. فلهم مثل الذي عليهم وتناقش مواقفهم وآراؤهم مثل مواقف وآراء غيرهم من الناس حسب الجدوى السياسية.

وهناك طيف خامس يرى أن رجال الدين أنقى سريرة، وأكثر وعيا وصدقا، وأحرص على الأمة من غيرهم من الناس. وعليهم أن يصطفوا إلى جانب ما يرونه حقا، ولا يخضعوا لغلواء العلمنة ودعاة إقصاء الدين عبر إقصاء علمائه من أهل الحل والعقد.

هناك طيف أخير يرى أن الشريعة هي السياسة، والإسلام هو المعرفة، وأن قول علماء الدين هو القول الفصل وكل من دونهم تبع لهم. بل من واجبهم إبداء رأيهم في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة لأنه لا يوجد في الحياة أمر إلا وله حكم و ليس هناك أعلم بالحكم من علماء الشريعة فهم الأولى في كل ميدان.

هذه الأطياف التي ذكرتها تتحدث بشكل نظري عام، وتعتبر منطلقات عامة، ومبادئ ينطلق منها كل طيف في النقاش، ويبني عليها منظومة متواصلة من الإلزامات اللاحقة.

 في القضايا الإجرائية نصل إلى الآتي:

1- الطيف الأول يرى أن هؤلاء الناس ليسوا أكثر من عوام ودهماء في الشؤون السياسة، و حقهم الوحيد هو الإدلاء بأصواتهم عبر الاقتراع مثلهم مثل بقية البشر، وهو الحق الوحيد والواجب الوحيد عليهم لا أكثر ولا أقل.

2- الطيف الثاني يرى أن هؤلاء الناس قد يُلتفت إليهم في جزئيات بسيطة لها اتصال مباشر بتخصصاتهم التي تقتصر عليهم هم دون سواهم، وهي نقاط جدّ ضيقة ومحدودة تتلخص ببعض شؤون الأسرة، والفلكلور التشريعي، و الديباجات الأدبية، وقد يُستشارون في بعض الإجراءات الشكلية في الإخراج النهائي. عدا ذلك هم عوام و دهماء مثلهم مثل غيرهم من الناس، ولا نحتاج إلا إلى أصواتهم الانتخابية.

3- الصنف الثالث يرى أن هؤلاء في مجالات السياسة يحق لهم إبداء آرائهم مثل بقية الناس، مع التشديد على عدم السماح لهم بإدراج أية صبغة فقهية تكتنز فتاوى وتصنيفات؛ فقد تكون آراؤهم السياسية تخدم المجتمع في جزئيات معينة مثل أي طبقة مثقفة أخرى من المجتمع. مع شديد الحذر من الانزلاق إلى خطاب قد يكون إقصائيا يتسبب في شرخ مجتمعي عميق؛ بسبب الفتاوى التي هي تصورات وتقديرات، وليست استنطاقا إلزاميا لنصوص شرعية مقدسة.

4- الصنف الرابع يرى أن كل إنسان من هؤلاء له كيانه الخاص به. فعلى الرغم من كونه عالم شريعة في تخصص معين إلا أن موقفه أو فكرته أو رأيه قد يكون مبنيا فعلا على فكر سياسي موضوعي، وله مدخلات لها اعتبارها ولها وجاهة وفاعلية، وقد يكون مجرد مشاعر و ترهات و كلام فارغ لا يرقى لمستوى إنسان عامي عادي لا علاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد. فالخلاصة أن تنزع منهم الألقاب ويحكم على الكلام و جدواه السياسية إن كان له وزن فيوزن به، وإن كان لغوا يرمى به بعيدا دون أدنى تمييز.

5- الصنف الخامس يرى أن أي حزب أو دولة تحتاج الى وجود ممثلين عن العلماء مع غيرهم من المتخصصين في الشؤون الأخرى، لأنهم هم في النهاية من سيطلعون على كل الآراء السياسية من وجهات النظر المختلفة التي لها زوايا تخصصية بعينها، ثم هم من يرجحون الخيارات عبر الآلة الفقهية، وعبر المقاصد والموازنات والمآلات. ولا يجوز تأخيرهم عن مواضع التأثير والتفكير في الحزب والدولة والأمة وإلا ضاعت البوصلة واندمج المسلمون في العلمانية حتى النهاية.

6- الصنف السادس يرى أن أهل الشريعة هم من عليهم أن يتصدر شأن السياسة، وتكون لهم الكلمة العليا فيها لأنهم على الحق، ويستمدون مواقفهم وآرائهم من الحق، وما ينطقون به امتثال لشرع الله، وتحكيم لأمر الله، وكلمة الله هي العليا، والباقي ليس إلا اتباع للهوى و انصياع لهيمنة العلمانية والحداثة والكفر. فالبراء من كل هذه المظاهر العلمانية الحديثة هي أول واجب على علماء الشريعة والمشتغلين بالدين، لا أن يجعلوا من أنفسهم ذيلا للأنظمة الوظيفية التي تخدم قوى الاستعمار، وتفرض الحدود القطرية، وتتحاكم الى القوانين الوضعية.

بالمحصلة بين الإقصاء المطلق والهيمنة المطلقة على شؤون الحكم و السياسة تبقى الآراء في أخذ ورد ولا أتوقع أنه سيأتي يوم يتم فيه الفصل بشكل نهائي.

لكن عليك أن تضع أي موقف في سياقه المعرفي حتى تفهم ما ينجرّ عنه من آراء متعلقة بالإجرائيات.