لقد كان للسؤال الشهير الذي طرحَه أمير البيان "شكيب أرسلان"، في كتابه " لماذا تأخر المسلمون وتَقدَّم غيرهم ؟ "؛ لحظة فارقة في اليقظة الذهنية للمسلمين أفرادا وجماعات، وكان له بذلك قصب السّبق في بداية تشكل الوعي الذاتي والحضاري للأمة. وللإجابة عن هذا السؤال الجوهري، كان لا بدّ من الإجابة عن أسئلة أخرى فرعية من قَبيل: ما مِقدَار التأخر الذي يعيشه المسلمون اليوم؟ وما مِقدَار التقدُّم الذي يعيشه غيرهم؟ والسؤال الأهم من ذلك؛ هل يَعي المسلم وعيًا كاملا بأنه مَتأخِّر وغيره مُتقَدِّم؟! إنّ هذه الأسئلة وغيرها تشكل أنساق الوعي بالذات والبحث عن تشكلاته في الفرد والجماعة، لِتكُونَ بمثابة جِسرٍ يُوصِلُ إلى ضِفّة الوعي الحضاريّ الفَعّال. 

إن الواقع اليوم أصبَح مُتغيّرا ومتحرّكا بدرجة مُتسَارعة، لا يَعترفُ بمَن لم يُحِط به علمًا، وَبمَن لم يعش فيه لحظة الوعي الكامل بنفسه وذاته وبمحيطه المتغيِّر، الذي لا يَعترف إلا بمنطق العمل والجِّد؛ إنّ العَالَم اليوم لا يَكترثُ أو يَهتمّ بأصحاب البَلادَة والغباء والخمول والعجز؛ بل باليَقِظِ الفَطِن، أو بالتعبير النبوي "الكَيِّس".

وبالرجوع إلى الأصل اللغوي لكلمة "الوعي" فإننا نجد معانيها تدور على الحِفظ و الفهم، والإحاطة بالشيء وسَبْر أغوَاره وفهم مُكوِّنَاتِه. وانطلاقا من هذه المعاني اللغوية، صَوَّبَ الباحثون في حقولٍ علمية مُختلفة سِهامَهُم المعرفية لدراسَة مسألة الوعي بالذات، ومن أبرز هذه العلوم؛ نجد "علم النفس" و "علم الاجتماع". وفي هذا السياق يُعرِّفُ علم النفس "الوعي" على أنه حالة ذهنية تسمى باليقظة، وتدُلُّ على قدرة الكائن البشري الفريدة في الشعور بذاته، وتَمايُزِ ذاته عن ذوات الآخرين وعن كل ما يُحيط به؛ إنها إذَنْ حالةُ التَّرقي والترفُّع والشّعور بالتَّميز.

أما سُوسيولُوجِيًّا فإنّ الوعي بالذات عندهم؛ نِتاجٌ لتطور قدرة الإنسان على العمل والابتكار وتطوّر دِمَاغِه ونُضج عقله، وتطوّر التفاعل المعرفي المكتسَب من الفرد والجماعة تأثيرا وتأثرا.

من هذا المُنطلق إذَنْ، فإنّ الوعي بالذات؛ حالة عقلية - نفسية يكون من خلالها الإنسان في حالةِ إدراكٍ تامٍّ مُكتمِل الأركان لذاته ولمحيطه الخارجي، ليكون الوعي بالذات من هذا المنظور مدخلا للتَّرقي بالوعي الفرديّ من جهة، والوعي الحضاري للأمة والمساهمة في نهضتها من جهة ثانية؛ فينطلق الإنسان من إدراك ذاته وجوانب قُصُورِهَا ومَكامِن قُوّتها، إلى الإحاطة بالعوامل المؤثِّرَة في قوة المجتمعات، وإدراك أحوالها المعاصرة ونَسَقِهَا المتغيِّر ، ومدى القدرة على التفاعل معها والبحث عن حلولٍ وطرقٍ للنهوض والإنجاز وسُبُل التقدّم، ومَدَى القُدرة على التغيير والإصلاح، وُصُولا إلىى الفاعلية الحضارية والبناء المنشود.

ولقد شكا "محمد الغزالي" قديما ودَقَّ ناقوسَ الخطر من غياب الوعي بالذات عند الأمة وأفرادها، إيمانًا منه بأنّ الذي يُشكّل نهضة الأمة بداية هو حضور الوعي المُبكِّر عند أفرادها، وشعورهم بالمسؤولية الكُبرى في الإنجاز والفاعلية الحضارية فقال: " الضّمير المُعتَلّ، والفكر المُختَلّ، ليسا من الإسلام في شيء، وقد انتمَتْ إلى الإسلام اليوم أمَمٌ فَاقِدَة الوعي، عَوجَاء الخُطَى، قد يحسبها البعض أمَمًا حَيّة ولكنها مُغمى عليها، والحياة الإسلامية تقوم على فكرٍ نَاضِر؛ إذ الغباء في ديننا معصية ". 

هي إذن صرخة ونداء؛ لعل أن تَعِيهَا - كمَا عبّرَ القرآن - أذُنٌ واعية، فتُفتش في وَعي نَفسِها وتَرْقَى به المَرَاقي السَّامِقَات؛ فَمَقَامُ الوعي الأول أن تَتَعرَّف النفس إلى ذاتها وتَشعُر بعيُوبها وإمكاناتها، لأن الوعي بالذات السبيل الأوْحَد إلى الإصلاح النّهضوي والعمل الدّؤُوب، ولعل هذا ما أشار إليه الإمام "ابن تيمية" حين قال: "من عَرَفَ نفسَه اشتغَل بإصلاحِها ".

وجَديرٌ بالذكر؛ أنه كُلّما كان الوعي بالذات وما يُحيط بها مُبكِّرًا، كُلّما كان الإنجاز كبيرا وكانت النتائج حينئذ مِعطاءَة، ويَحضُرني في هذا المقام ما حَكاه الصحابيّ محمود بن الربيع - الذي وَعَى صغيرا بذاته وبما يُحيط به من أحداثٍ مُهمّة تتعلق بالنبوة، قال: "عَقلتُ (بمعنى وعيتُ) من النّبي صلى الله عليه وسلم مَجّةً مَجَّهَا في وجهي وأنا ابن خَمس سِنين مِن دَلو".

وَعِنْدِي، أنّ مِن أرْقَى ما قِيلَ في الوعي بالذات مُبكّرًا والشعور بالمسؤولية والفاعلية الحضارية، تلك القصيدة الشهيرة لـــِــــ "علال الفاسي"، المفكِّر المغربي والزعيم السياسي، التي جَسَّد فيها مفهوم الوعي بالذات وُصُولاً إلى الوعي الحضاري للأمة؛ وَتَأمَّل في وعيه بالذات هنا إذ يقول: 

أبَعدَ مرور الخمس عشرة ألعبُ 

                              وألهُو بلذات الحياة وأطربُ ؟!

 ولي نَظرٌ عَالٍ ونفسٌ أبِيّةٌ 

                                مقامًا على هَامِ المجَرّة تَطلُبُ

وعندي آمالٌ أريدُ بُلُوغَهَا

                            تَضِيعُ إذا لاعَبْتُ دَهْري وتَذهَبُ

وانظر لِوَعْيِهِ بالذات هذا كيف نَقَلَهُ إلى الوعي الحضاري بمشاكل أمَّتِه وهمُومِها؛ وفي هذا السياق يقول وَاعيًا: 

وَلِي أمَّةٌ مَنكُودَة الحظ لم تَجد

                              سبيلا إلى العيش الذي تَتَطلّبُ

قَضيتُ عليها عمري تحسُّرًا 

                         فما سَاغَ لي طعم ولا لذَّ لي مشرَبُ

ولا رَاقَ لي نوم، وإنْ نمتُ لحظة

                                 فإنّي على جَمْر الغَضا أتَقلبُ

إنّ وَعْيَهُ بالذات مُبَكِّرًا (في سنّ الخامس عشرة كما صَرّحَ بذلك) جَعله يُحقّق إنجازا أفضل لذاته وللأمّة؛ فالرجل غَنيّ عن التعريف، مُفكر وشاعر وسياسي ومُقاوم ومُصْلِح، وجُهودُه الفكرية والسياسية - خدمة لذاته وللوطن والفكر والأمة - لا زالت شاهدةً على ذلك. وتَصلُح هذه القصيدة للناشئة الجديدة لتَفتَحَ لهُم مَغَالقَ الفِكر والشُّعُور بِذوَاتهِم، وَتُنَوِّرَ لهُم مَعَالم الطريق والاجتهاد، بالعمَل المستمر والجُهدِ الجَهِيد. 

وقد أشار الرسول الكريم إلى هذا المعنى، وهذا التفاضُل في تَمايُز الناس وإنجازاتهم بين صاحبٍ للوعي وفاقدٍ له

فقال عليه السّلام: " نَضَّرَ الله امرأ سَمِع مَقَالتي فَوَعَاهَا "، وقال: " فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامع "، فالرسول الكريم أرادَ جِيلاً واعيًا لهذه الأمة قَوَامُه الوعي بالذات؛ لاَ جِيلاً غُثائيّا بَليدًا كغُثاء السَّيل.

تأسيسا على كل ما سبق؛ فإن مسألة اسْتردَاد الوعي في وقتنا المعاصر أصبحت أكثر إلحَاحًا، فإنجاز الأمة وفاعليتها الحضارية مُرتهنَةٌ بمَنسُوب الوعي ودَرَجَته، بدءًا بالوعي الذاتي للأفراد وصولا إلى الوعي الحضاري للأُمّة؛ ذلك الوعي بالذات الذي يُشكِّلُ طفرةً انتقالية في حياة الإنسان والأمّة، تَنقُلهُم من حياة الرتابة والرّوتين وحياة الخمول والتكرار، إلى حياة الشعور بالمسؤولية والتغيير ، والعمل المُتواصل والإنجاز الحضاري الذي ينفع الفرد والمجتمع.