في تاريخها الحديث لم تنجب الأمة الإسلامية جمعاء مثل داوود أوغلو أو "كيسينجر السياسة التركية" كما سماه الدكتور إبراهيم بيومي غانم خلال إحدى محاضراته بجامعة القاهرة في أغسطس/ آب 2008. بعد ما يقارب السنة، عاد د. بيومي ليعتذر عن تلك التسمية -في احدى مقالاته- ويسحبها تقريبا، لكن ليقول هذه المرة بأن أوغلو أكبر من كيسنجر. وليس الرجل من المطبّلين أو ممن يستهويهم رمي الورود في الأفراح والمسرات، ولكنه أسس لقراءته تلك بمرتكزات أكاديمية صلبة، بناء على مقاربة المستويين المضموني والسلوكي لكل من هنري كيسنجر الأمريكي والبروفيسور أحمد داوود أوغلو التركي. (1)
ولم يكن د. بيومي الوحيد الذي صرح في هذا الإتجاه، فقد قال الأستاذ الفخري للقانون الدولي بجامعة برينستون والمقرر السابق لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة ريتشارد فولك: "يعد الصعود السياسي لشخص آتٍ من خلفية أكاديمية أمرا غير مألوف بحد ذاته، إلا أن وصوله لهذه الدرجة من الأهمية في الدولة يعد أمرا غير مسبوق ليس في تركيا فحسب بل في العالم. وإذا حاولنا البحث عن حالات مشابهة فإني لا أجد نظيرا سوى كيسنجر، ورغم أن هذا الأخير قد لعب دورا محوريا كمهندس للسياسة الخارجية الأميركية فإنه لم يتبوأ منصبا أعلى من وزير للخارجية". كما أدرجت مجلة "الفورين بوليسي" أوغلو لمرتين على التوالي - سنتي 2010 و2011- على قائمة المائة مفكر الأكثر تأثيرا حول العالم. (2)
إذا ما الذي يصنع استثنائية أوغلو ويجعله حائزا على كل ذلك الإحترام والتقدير؟
ما يحسب لـ داوود أوغلو
-
الإسهام النظري في تجربة العدالة والتنمية
داوود أوغلو شخصية مركزية في وضع الأسس النظرية لتجربة العدالة والتنمية فترة التأسيس في 2001. ورغم أنه لم يلتحق بالحزب إلا في 2007 من ناحية، ولم يكتب أبدا فيما يمكن تصنيفه ضمن الأدبيات التنظيمية للعمل السياسي من ناحية أخرى، إلا أن كتاباته الاستراتيجية تحتوي بين طياتها الكثير من ملامح تلك التجربة. وقد استفاد الخط الإصلاحي المنشق عن حزب الفضيلة حينها، كثيرا من أطروحاته النظرية، ليستند إليها في هندسة ارتحاله من مربع "الإسلام السياسي" نحو فضاء "الديمقراطية المحافظة". (3)
-
إعادة بناء هوية الجمهورية
كما أن لداوود أوغلو دورا رئيسيا في اعادة بناء هوية الجمهورية التركية وعقيدتها الأمنية/الدفاعية. إذ أن أشهر كتبه "العمق الاستراتيجي" ليس مجرد اضافة نظرية رائدة لأدبيات العلاقات الدولية والجيوبوليتيك، أو أنه يحظى فقط باحترام كبير/ واسع في الأوساط الأكاديمية. إنما هي نظرية شقت طريقها نحو الواقعين الإقليمي والدولي، وتركت بصماتها بوضوح في السياسات الخارجية التركية كما نعرفها اليوم. ويمكن في هذا السياق مقارنة داوود أوغلو بقلة قليلة من المنظرين الكبار من قبيل؛ راتزل الألماني، ماكيندر البريطاني، سبيكمان الأمريكي، هنري كيسنجر، وألكسندر دوغين الروسي.
كتاب "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" يدرّس منذ سنوات طويلة في الأكاديميات العسكرية للجمهورية التركية. (1) بما جعله بمثابة المتن النظري لسياساتها الخارجية/ الدفاعية. وكل ما جاء بعده من نظريات أو شعارات تحركت تحتها السياسات الخارجية التركية، من قبيل "العالم أكبر من خمس" (Dünya 5'ten büyüktür)، "تركيا الكبرى" (Büyük Türkiye) أو "الوطن الأزرق" (Mavi Vatan)، فهي مجرّد شروح لذلك المتن، وكل من نظر لها من أمثال الأدميرال جيم غوردنيز، هم من الذين تتلمذوا أو اقتربوا على الأقل من كتاب "العمق الاستراتيجي".
-
بناء الجبهة الداخلية الصلبة
ولطالما عبر أوغلو عن قناعته، بأن الأمم التي تتجاوز خلافاتها الداخلية وحدها قادرة على الظهور في مسرح التاريخ. ولذلك فقد كان له إسهام واضح في بناء جبهة داخلية صلبة في تركيا العدالة والتنمية، على قاعدة التسويات التاريخية الكبرى. (4) إذ وضع بداية الأطر النظرية اللازمة لتجاوز صراع الهوية نحو إعادة بناء الهوية في إطار التراكم التاريخي والانسجام مع الحقائق الراهنة.
وأما من الناحية العملية، فقد لعب أدوارا رئيسية في حلحلة الملف الكردي في إطار ما عرف ب"الحزم القانونية العشرة". كما شارك في إعادة ترتيب العلاقات المدنية العسكرية بناء على "معايير كوبنهاجن" من جهة. ومن خلال تأثير كتاباته في الوعي الجمعي للمؤسسة العسكرية من جهة أخرى. ولعل من أبرز شواهد ذلك، الخطاب الذي ألقاه رئيس الأركان التركي إلكر باشبوغ في 14 أبريل 2009، والذي ظهر فيه بشكل جلي تأثر هذا الأخير بنظرية "العثمانيين الجدد". (1)
وصحيح أن نظرية "العثمانيين الجدد" لم تكن من الإنتاج الخالص لداوود أوغلو وحده، إذ أنها ارتكزت في ظهورها الأول على التوجهات الكبرى للمرحوم تورغوت أوزال، وخرجت من رحم حركة مراجعات نخبوية واسعة قادها هذا الأخير كرئيس جمهورية. إلا أن أوغلو كان من أبرز وأوائل العقول الاستراتيجية التي انخرطت في تيار المراجعات المذكور، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. وقد تحولت اضافاته المضمونية مع الوقت، إلى ما يكاد يكون بمثابة المحددات والأرضية الاستراتيجية التي تتحرك فوقها بقية الإجتهادات. (1)
في الحصيلة فقد مثلت "العثمانية الجديدة" العنوان الأكبر للتسوية التاريخية في تركيا الحديثة بين المعتدلين في كل من المعارضة والنظام (Softliners). وقد تفرعت منها عدة صفقات كبرى، وأهمها:
- اعتماد العلمانية المحايدة عوضا عن العلمانية اليعقوبية.
- استعادة الجمهورية للثقة في ذاتها الحضارية (الإسلام، التاريخ العثماني)، للتحرر من انفصام الوعي التاريخي أو الهوية المزيفة. (5)
- استدعاء تعدد الأعراق في الهوية العثمانية لمراجعة ملف الأقليات وأولهم الأكراد.
- تقوية الأمن الخارجي للدولة، ضرورة مصاحبة لتوسيع بنيان الحريات داخلها.
- الإصلاح الديموقراطي نحو مثلّث متوازن الأضلاع؛ الحرية، الأمن والتنمية.
- مقاربة القوة الناعمة والصفر مشاكل، تشق طريقها وسطا؛ بين الرؤية الإمبراطورية للجوار والقطيعة معه.
- توازن العلاقات بين الشرق والغرب على قاعدة حتميات الجغرافيا وضرورة تشاكل أبعادها المختلفة.
-
إضافته كمفكر مسلم
وكمفكر مسلم لم يكن داوود أوغلو أول من غاص في مبحث الإسلام والحداثة. وقد سبقه في ذلك الكثيرون من مفكري الحركة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي. (6) ولكن ما يميز أوغلو أنه لم يشغل نفسه بمحاولات الملاءمة بين الحداثة والإسلام على غرار الشيخ الغنوشي ومن تبعه، ولا شيد جدران القطيعة بينهما مثلما فعلت أفكار سيد قطب ومن نهج نهجها، بل شق طريقه بينهما بثقة عالية في "الذات الحضارية" دون أن ينزلق في انكسار أو استكبار. وهذا ما جعله يتقدم كثيرا ليدرك ما لم تدركه كلا المدرستين؛
فحينما نطالع كتاب "النموذج البديل"، "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية" أو "الفلسفة السياسية"، سنجد أن أغلو قد سار في ركب عبد الوهاب المسيري نقدا وتفكيكا للفلسفة المادية، ليقف بداية على مواطن الضعف والتأزم البنيوي فيها، وليفصل بأطروحات متماسكة ثانيا، فيما يمكن للنموذج المعرفي الإسلامي أن يقدمه للانسانية أو للعالمين بمعنى أدق.
ويكشف ذلك عما يكتنزه الرجل من تماسك معرفي وثبات نفسي، فرغم غوصه العميق في حقل العلوم السياسية واحتكاكه المكثف بالأطروحات المادية الغربية/ الأوراسية ، إلا أنه لم ينبهر بها ولا ذهب بريقها بفؤاده. لم تكن العلوم السياسية قادرة على ابتلاع الأستاذ (hoca)، ولا هو بطبيعة الحال ابتلعها، إلا أنه شق طريقه فيها ببصمات مشرقة.
-
الجمع بين التنظير والتسيير
داوود أوغلو من طينة نادرة من الرجال المعدودين المعروفين في التاريخ السياسي للانسانية جمعاء، ممن اجتمعت فيهم قدرات التفكير والتسيير أو التنظير والتنظيم. اذ أنه لم يكتف بالتنظير لتركيا كما نعرفها اليوم، بل قاد من مواقع متقدمة في الدولة والحزب عملية تنزيل كل ما نظر له؛ كمستشار في السياسة الخارجية لرئيس الجمهورية، كبير مستشاري رئيس الوزراء، نائب بالبرلمان، وزير خارجية، رئيس وزراء، ورئيس حزب العدالة والتنمية. وفي هذا المضمار لا يمكن مقارنة أوغلو الا بقلة قليلة من رجال السياسة المفكرين مثل هنري كيسنجر أو الوزير خير الدين باشا التونسي. الا أن أوغلو قد تفوق عليهم جميعا من حيث؛ عمق الأثر، نجاح المنجز، أو تنوع المواقع التنفيذية والمسؤوليات.
-
إسهاماته كوزير خارجية
أما كوزير خارجية، فقد قاد أغلو بلاده بامتياز نحو اعادة التموقع الإستراتيجي في المنطقة والعالم. إذ تقدم من ناحية بملف إنضمامها للاتحاد الأوروبي، كما لم يحدث أبدا قبله أو بعده. ومن ناحية أخرى فقد نجح في العودة بتركيا إلى ما يسميه ب"عمقها الاستراتيجي" أو "الحدائق الخلفية: حوض تجميع القوة الإستراتيجية" المتمثل في: العالم الإسلامي، العالم التركي، القوقاز، ومنطقة البلقان. معتمدا في ذلك على سياسة "صفر مشاكل مع الجيران".
وانطلاقا من قراءة معمقة للتحولات الدولية -في مرحلة ما بعد الحرب الباردة- نجح أوغلو بقدر كبير في تحرير القرار الاستراتيجي لبلاده من وصاية الولايات المتحدة والناتو. وقد اعتمد في ذلك على اعادة ترتيب علاقاتها الخارجية على قاعدة تعدد؛ الأطراف، الأبعاد والمستويات. وإذا ما نظرنا الى عمق البصمة التي تركها أوغلو في هذا المضمار، فلن يمكننا مقارنته إلا بنخبة النخبة لوزراء الخارجية في العصر الحديث، من أمثال: كليمنصو فون ميترنيخ النمساوي، بسمارك الألماني أو فؤاد باشا العثماني.
-
مكانة استثنائية في المخيال التركي
هذا الحضور المركزي لشخصية داوود أوغلو في التجربة التركية من أكثر من موقع، جعله يتبوأ مكانة اعتبارية استثنائية في المخيال الشعبي للأتراك وبين رجالات الدولة على وجه الخصوص. حتى أن واحدا من أول/ أبرز المسلسلات التسويقية للتجربة التركية (مسلسل وادي الذئاب) جعله من أبرز أبطاله، تحت شخصية "الأستاذ" (Hoca) الذي انتهى به الأمر لترأس "هيئة الاختيارية" عوضا للبطل الرئيسي للمسلسل (مراد علمدار). ويجدر هنا القول أن مسلسل "وادي الذئاب" قد تم تحت إشراف مباشر من وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" التي كان يقودها حينها رئيس المخابرات السابق ووزير الخارجية الحالي هاكان فيدان، المعروف بتأثّره/ قربه الشديد من داوود أوغلو.(7)
-
تأثير معنوي يتجاوز الحدود
ولم يقف إشعاع أوغلو عند الحدود التركية بل اتسع ليخترق فضاءات لا تستسيغ العنصر التركي في العادة؛ فرغم العداء الفارسي-التركي منذ صدام البويهيين والسلاجقة، والحروب الطاحنة التي رافقت الدولتين الصفوية والعثمانية لعقود طويلة، ومن ثمة التنافس الشديد بين الجمهوريتين الإيرانية والتركية، إلا أن كل ذلك لم يمنع الرجل الثاني في إيران من الإعجاب الشديد بشخصية أوغلو. وقد ورد في تقرير استخباراتي مسرب لموقع "ذا إنترسبت" في 2020، أن قاسم سليماني كان كثيرا ما يشبه نفسه بداوود أوغلو ويحب كثيرا عقد المقارنات بينهما. (8)
-
تفوق عالمي في التحليل السياسي (9)
وأما كمحلل سياسي، فإن للبروفيسور أحمد قدرة عجيبة على تفكيك المقولات السائدة والاقتحام الاستشرافي لأسرار المستقبل؛ فبينما كان العالم الغربي سكرانا بانتصاره على الشيوعية بعد سقوط حائط برلين في 1989، وفي وقت طغت فيه نظرية "نهاية التاريخ" وسرديات النصر الأبدي للحضارة الغربية والديمقراطية الليبرالية، كان أوغلو يدحض مقولة فوكوياما معتبرا أنها مجرد تكهن مبني على تفاؤل زائد.(10)
بل إن أوغلو بدأ منذ ذلك الحين في الحديث عن الأزمة الحضارية الشاملة التي يعيشها العالم، وأن النظام العالمي مختل التوازن ومقدم بالضرورة على تحولات كبرى سيتمخض عنها ظهور محاور حضارية جديدة منافسة للغرب. إن مصطلح "التحولات" الذي غزا النقاشات الإعلامية، السياسية والأكاديمية خلال فترة كورونا ومع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، لم يكن جديدا على البروفيسور أحمد. لقد بدأ البروفيسور في التنظير لذلك، منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي. ويمكن الوقوف على هذه المعاني بشكل معمق في كتاب "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية" (Civilization Transformation And the Muslim World).
ماذا بعد ذلك؟
ثم بعد كل ذلك يأتيك البعض ممَن لم يتعلّم من عوالم السياسة وعلومها المتداخلة، الا استنباط "تنبيرة" رشيقة بعد كل مستجد، لينهال على داوود أوغلو سبّا وشتما وتخوينا، على خلفيّة التحاقه بالتحالف المعارض في تركيا ودخلوه السباق الانتخابي ضمنه.
بصراحة كلما وقفت على واحد من هذه المنشورات أو التصريحات التي تفشّت -أيام الانتخابات التركية الأخيرة- خاصة في أوساط المنتسبين للتيارات الإسلامية التقليدية في عالمنا العربي أو المتعاطفين معها، ما وسعني إلا أن أقول: " لله في خلقه شؤون" أو بالأحرى "ربي اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
لكن السؤال الحقيقي أو الأهم بعد كل ذلك، يجب أن يكون مصوبا نحو ماهية الخلاف بين أحمد داوود أوغلو ورجب طيب أردوغان؟ كيف بدأ؟ وفي أي سياقات نشب؟ وما هي أبرز نقاطه ومحاوره؟ ولماذا تطور على هذا النحو؟ وكيف بلغ هذا الحد؟
كل تلك الأسئلة وغيرها، سيتناولها الجزء الثاني من هذه الدراسة. لعلنا نوفق بعون الله في إدراك قراءة أكثر موضوعية ونضجا أو الاقتراب أكثر من صورة الحقيقة كما هي، بعيدا عن قوالب التخوين الجاهزة والتفاسير المتهافتة، وكل تلك الإسقاطات الخاطئة والمتناسلة من مقولة "التساقط على طريق الدعوة" أو "التولي يوم الزحف"، والتي مازالت متفشية بين أولئك المستغرقين في بوطقة الأيديولوجيا المغلقة.