المختصّون مقدّرون ومعتبرون في كل علم ديني أو دنيوي؛ ذلك أن العلم بطبيعته يحتاج إلى التحصيل والمثابرة لكي يوصف صاحبه بأنه عالم أو مختصّ يرجع إليه في هذا المجال أو ذاك، وكما قال سبحانه: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وأهل الذكر هم المختصون.

  والعلوم الدينية والإسلامية من هذه العلوم التي تحتاج إلى اختصاص، لكن لكون هذه العلوم متعلقة بتدين الناس ولأن أمر الدين يتعلق بهم جميعا، فإن كل فرد منهم لا بد أن يحصل على الحد الأدنى لسلامة تدينه وصحة أداء التكاليف الشرعية، وما فوق ذلك من الممكن أن نسميه ثقافة عامة عالية لكنها لا تبلغ مبلغ المتخصص الذي يعرف دقائق هذه العلوم.

    وبسبب هذا فإنه قد تغيب عنهم الحدود الفاصلة بين القضايا الدينية العامة التي يسوّغ للجميع التحدث فيها، وبين القضايا التخصصية البحتة التي لا ينبغي أن يتكلم عنها أو يفتي فيها إلا المتخصص الخبير العارف بها. وللأسف من هؤلاء الناس قد يكونون مختصين بالطب أو الهندسة أو القانون أو الاقتصاد وقد بلغوا الدرجات العلمية في تخصصاتهم لكنهم ظنّوا أن ذلك يبيح لهم الحديث في كل شيء.

  ومن الغريب أن الطبيب حين يتعالم أمامه مريض ويدّعي المعرفة في مرض خطير، فإنه يذكره بأنه طبيب قد قضى سنوات طويلة حتى وصل إلى ما وصل إليه.  

وكذلك المهندس حين يعترض عليه من لا يعلم إلا جدول الضرب ولا يفرق بين المربع والمستطيل.

  وكذلك الاقتصادي حين يغضب لما يرى الناس في المجالس وهم يحللون أصعب المسائل الاقتصادية والمالية دون أن يعرفوا حتى ما معنى العملة.

    وهو ذات الشعور الذي يكون عند المتخصّص في الشريعة حين يرى متعالماً يردّ الأحاديث الصحيحة وهو لا يعرف حتى معنى الحديث الصحيح، وشروط القبول، والردّ للروايات.

  أو يرجّح تفسيراً بناء على ترجيح لغوي وهو لا يستطيع إعراب جملة إعرابا صحيحا كاملاً، أو يفتي في عظائم المسائل التي تتريّث فيها المجامع الفقهية.

فإذا نُبّه على ذلك كله صاح معترضا: الدين ليس لكم فقط وليس ملكا لأحد، وأنتم كهنة لا علماء مسلمين!

  والكهنوت باختصار: هو السلطة التي للكاهن ورجل الدين، وهي سلطة أقوى من المجتمع والدولة كما كانت سلطة القساوسة في العصور الوسطى.

  وهنا علينا أن نعلم أنّ ديننا ليس فيه كهنوت ورجال دين، يحتكرون الفهم للنصوص الدينية ومعرفة الأسرار، ولا يناقشهم أحد فيها كما عند الأديان الأخرى، بل فيه اختصاص وعلماء دين بعضهم أعلى من بعض في المعرفة والدراية والفهم، وليس لهم عصمة مطلقة، ويناقشون فيها وتُردّ أقوالهم إن خالفت الحقّ، وقوة أقوالهم تأتي من قوة استدلالاتهم التخصصية التي يعرفونها هم لا غيرهم لأنهم ببساطة متخصصون، لا لأنهم معصومون أو محتكرون للعلم وأسراره.

  إنّ الذين يكرّرون وصف العلم الديني الإسلامي بالكهنوت وعلمائه بالكهنة قوم يريدون الحديث في كل شيء وعن أيّ شيء بلا قيد أو ضابط، ويتذرّعون بالتنوير والتجديد بلا أساس متين ولا أثرة من علم صحيح، سواء كان ذلك عن حسن نية أو سوء نية.

وهنا سؤال وتنبيه: فأما السؤال: هل الاعتراض على بقية التخصصات هو لكونهم أصحاب تخصصات غير شرعية؟ الجواب: لا. وإنّما الاعتراض على كونهم يتكلمون بكلام غير صحيح في قضايا تخصصية بسبب فقدانهم اصول التخصص الشرعي وقواعده وأدواته، فإن تكلموا بالصواب ووفق أصول التخصص الشرعي وقواعده وأدواته - كحال اي تخصص آخر - قبلناه وأيدناه.

 

  وهذا الكلام سارٍ على علماء الشريعة أيضاً فلا يحقّ لعالم شرعيّ أن يتكلم في تخصص لم يتمكن فيه ولم يحصل أدواته ظانّاً أنه يحقّ له التكلّم بكلّ شيء لأنه يرشد الناس وينتسب للدين.

 

    وأمّا التنبيه فهو أننا نتحدث عن العالم الشرعيّ الذي استكمل أدواته وتمكّن من تخصصه وليس عن كل منتسب للعلم الشرعيّ ومتصدّر لوعظ الناس وقد لبس ملبس العلماء فهؤلاء على خير كثير لكنهم ليسوا بالضرورة أن يكونوا من المتخصصين.