نشكو أحيانا قسوة القلوب وعوج السلوك، فنقول: إن الله يَزعُ بالسلطان ما لا يَزعُ بالقرآن. وصوت العصا الغليظ قد يكون أوقع من صوت الواعظ البليغ، والفيلسوف الحكيم. إلا أن هذا تفسير جزئي للحقيقة. والوقوع في فخّه يفضي إلى أخطاء فادحة. فهو ليس تفسيرا كاملا للحقيقة كلها. فتصحيح البواطن هو السبيل الأهم لتصحيح الظواهر.
وأدقّ الأنظمة ينهار مع خراب النفوس، والضمان الأوثق لاستقامة الشعوب ونجاح الاقتصاد واستقامة المجتمع واستقرار الحضارة يعود إلى الصحة النفسية والبراءة من الأهواء والدنيا والتجرد لله وإيثار ما عنده.
وقد يقول قائل أن هذا حديث منابر جرّباناه كثيرا فما أجدى شيئا. والأمر على خلاف ذلك. فالنفس الفوضوية تخترق أحكم الأنظمة، والنفس السوية لا تعجز أبدا عن ترك طابعها الطيب فيما تتولى من مناصب وما تباشر من أعمال.
ولم يعرف تاريخ الإنسان الفصل بين الأخلاق والقانون لا نظريا ولا عمليا، فالأخلاق لا تغني عن القوانين، والقوانين لا تغني عن الأخلاق.
وزبدة القول أن زكاة النفس هي أساس استقامة الأمة. والقرون الأخيرة من حياة أمتنا كانت قرون هزائم وانهيار في فقه العمران، صرنا تلامذة نأخذ من غيرنا، بل نتسوّل فتات ما عنده. وبعد أن كنا أساتذة نعطي، ويجري الآخرون خلفنا، إذا بنا نلهث وراء غيرنا دون جدوى. فالحصيلة التي نعود بها في نهاية الأمر بالغة التفاهة.
فأصحاب النظر السطحي يجنحون إلى التقليد فلا يرون غير المظاهر ينقلونها. وهم قد نقلوا الديمقراطية الرأسمالية والاشتراكية إلى بلادنا. فوجدنا أن الفرد المتسلّط استطاع أن يجعل الشورى ستارا يخفي شخصه وجبروته، في حين أن ذلك النظام في أرجاء العالم كله يكفل حريات فضفاضة إلا في العالم الإسلامي، ووجدناه في بعض بلادنا لايعني إلا التزوير على نطاق واسع وإيقاع مجزرة للصدق والأمانة.
وكل ما حدث في ظلّ الاشتراكية هو أن الفلاح الذي كان ذليلا أمام المالك صار ذليلا أمام كاتب الجمعية الزراعية. وكان نصف حصيلة كدحه في الأرض يسرق أيام الإقطاع القديم، فصار معظمه يسرق في ظل الإقطاع الحديث الذي اتخذ عنوانا خادعا هو الاشتراكية.
وخلاصة القول إن الملح لا يتحول إلى سكر إذا كتبنا على إنائه أنه سكر. وحتى النمل لا ينخدع به ولا ينجذب إليه. فحقيقته تدل عليه. والأجرب لا يشفى من علته إذا لبس ثوبا من حرير. والأعمى لا يبصر الطريق إذا وضعت على عينيه منظارا من ذهب.