الغيب خارج عن نطاق المعرفة الحسية فلا يدركه العقل. وبالتالي لا مجال لمعرفته إلا عن طريق الوحي المنزل من عند الله. الفلاسفة دخلوا في قضية خاطئة وهي التعريف بالغيب بالعقل؛ ومن هنا فإن الفلاسفة ضلّوا وأضلّوا، وأكاد أقول أن الفلسفة كلّها مجال للضلال والإضلال، وكلّ العلوم مبنية على بعضها وتقوم على المراكمة التي تعتمد على العقل فيما أنتج السابقون، ويبدأ اللاحق مما انتهى إليه السابق. أما الفلسفة فإنّ كلّ فيلسوف يبدأ من حيث بدأ الآخر وينتهي حيث انتهى الآخر، ومن هنا فإنها تعرف التنوع ولكنها لا تعرف أبدا التراكم المعرفي.

    ومن هنا ظهر اللاأدريون الذين لا يعترفون بغير المعرفة الحسية، الذين نفوا كل ما لا يدركه العقل واعتبروه خرافة. واللاأدرية أنتجت الوجودية والبرجماتية. فلا وجود لما وراء الحس في تقديرهم.

   وما دام الأمر كذلك فهم يرون أنهم في صراع وجودي. وما عليهم إلا البحث - حسبما ترى عقولهم التي لا تدرك غير المحسوس - عمّا يعتبرونه نافعا وتجنّب ما يعتبرونه ضارّا هنا في هذه الحياة دون تخطّي ذلك إلى ساحة التفكير في أيّة حياة بعدها.

فخّ الفلسفة الدهرية:

    الفلسفة بكل صنوفها رؤية للواقع بصورة إدراكية تختلف عنه بالضرورة بحكم نسبية الإدراك العقلي الإنساني الفردي والجمعي معا في كل زمان ومكان.

   ومن هنا فإن الفلسفة أشبه ما تكون بالبصمة الشخصية . فهي تتعدّد عند التدقيق بتعدد من يمنحهم البشر لقب (الفيلسوف)، فالفلسفة على أحسن الفروض شبيهة بفصيلة الدمّ، فقد تتشكل من البصمات المتقاربة مدارس فلسفية أو تيارات فلسفية، لكن يظلّ لكل فيلسوف داخل كل مدرسة وفي نطاق كل تيار فلسفي بصمته المتفردة التي تتطلب نوعا من التوفيق حتى حين يراد نقل دمّ منه إلى رفاقه في ذات تياره، أو نقل دمّ منهم إليه. والفلسفة بذلك معطى سائل لا يقبل التأطير المنهجي.

إلا أن مأساة الفلسفة الدهرية النابعة من رؤية كلية أفقية متأرجحة سقفها هو العقل الإنساني القاصر بالضرورة، تفوق بما لاحدّ له الفلسفة التوحيدية النابعة من مسقط رأسي ربّاني ضابط لساحتها. 

    فالفلسفة الدهرية تدّعي أنها هي الميزان والموزون معا لنفسها ولغيرها، فتتأرجح بين غرور نفي غير المحسوس تارة، وبين مذلّة القول فيما تسميه ما بعد الحداثة: عالم ما بعد الحقيقية، والنسبية المطلقة والقول بإمكانية القول بوجود الشيء أو بعدم وجوده في آن واحد على ذات شاكلة أراجيف السوفسطائيين الأُول. إلا أن المأساة الأعتى والأشدّ نكراً تظلّ ملازمة للفلسفة المداهنة التي تختلط فيها الرؤيتان التوحيدية والدهرية، أو بتعبير أوضح: يلتبس فيها الحق بالباطل. ودائرة الغيب النسبي مفتوحة أمام العلم - لا الفلسفة - إمّا بالتذكّر وإمّا بالمشاهدة والتدبّر المنهجي. 

    وأمّا الغيب المطلق المتعلق بالأسئلة الكلية الوجودية الكبرى فمصدره الوحيد الحقيقي هو: الوحي المنزل من عند الله تعالى، أو قل: القرآن الكريم المصدّق المهيمن القيّم على كل ما سواه. والواقعون في فخ الفلسفة المداهنة الملتبسة منذ القرن الثالث الهجري هم كافّة الأمم، وفي الصدارة منهم: الأمة الإسلامية، بل إنّ الفلاسفة المسلمين كانوا هم قاطرة إحياء متاهة الفلسفة اليونانية وتشويه نقاء الفكرة التوحيدية، وصناعة التّيه المعرفيّ الذي أبدع العقل الغربي في القرون الخمسة الأخيرة في تعميقه، وفي التفنّن في أشكاله الخفية والجلية. ومن هنا نبعت مفارقة التفوق في كشف الغيب النسبي في عالم الطبيعة بالاستفادة من وحدة نظام الكون ووحدة السنة الإلهية ، والفشل الرهيب في التعامل مع دائرة الغيب المطلق في كلّ ربوع الكوكب الأرضي . 

    والغيب المطلق خارج عن نطاق المعرفة الحسية فلا يدركه العقل الإنساني المكتفي بنفسه المفارق للوحي الرباني المنزل أبدا؛ وبالتالي لامجال لمعرفته غير الوحي المنزل من عند الله. الفلاسفة دخلوا في قضية خطأ وهي التعريف بالغيب بالعقل. ومن هنا فإن الفلاسفة ضلّوا وأضلوّا. وأكاد أقول أن الفلسفة كلها مجال للضلال والإضلال. وكل العلوم مبنية على بعضها وتقوم على المراكمة التي تعتمد على العقل فيما أنتج السابقون، ويبدأ اللاحق مما انتهى إليه السابق.

    أمّا الفلسفة فإنّ كل فيلسوف يبدأ من حيث بدأ الآخر وينتهي حيث انتهى الآخر، ومن هنا فإنّها تعرف التنوع ولكنها لا تعرف أبدا التراكم المعرفي. ومن هنا ظهر اللاأدريون الذين لا يعترفون بغير المعرفة الحسية، الذين نفوا كل ما لا يدركه العقل واعتبروه خرافة. واللاأدرية أنتجت الوجودية والبراجماتية. فلا وجود لما وراء الحسّ في تقديرهم. وما دام الأمر كذلك فهم يرون أنّهم في صراع وجودي. وما عليهم إلا البحث - حسبما ترى عقولهم التي لا تدرك غير المحسوس - عمّا يعتبرونه نافعا وتجنّب ما يعتبرونه ضارّا هنا في هذه الحياة دون تخطي ذلك إلى ساحة التفكير في أيّة حياة بعدها، وربما يكون هذا هو المفتاح الأساسيّ لإعادة قراءة ماضي أمتنا وحاضر الإنسانية ومستقبلها.