يتعلق هذا المفهوم بأهم فريضة غابت عن مؤسسات أمتنا وترتبت عليها كافة المآسي التي داهمتها في الماضي وفي الحاضر، ومن الوارد تماما أن تلازمها في المستقبل ما لم يتم استعادة الوعي بها وتجسيدها في واقع الأمة. وتلك الفريضة هي إقامة: الأمّة المنّيّة. ومن الأهمية بمكان إعادة اكتشاف ذلك البعد الغائب المركزي الأول، الذي هو بمثابة الباب الذي دخلت منه كل أسباب تمدّد المرض في جسد الأمة واستعصائه على المعالجة. ذلك البعد هو: تغييب (الأمّة المنّية).

فالنّظام السياسي الإسلامي كما بيّن القرآن الكريم مقاصده ومرتكزاته وكلياته، نظام أمة، تفرز أمة منها، تمثل ضابط الإيقاع لكل من الأمة الجامعة، والدولة. وفي غيبة تلك الأمة المنية، وتمكينها معرفيًا وماديًا من القيام بدورها، يستحيل استواء أمر أمتنا وتعجز عن إصلاح ذات بينها، وبالتبعية عن القيام بالدور الذي كلّفها الله بالقيام به، وهو: أن تكون خير أمة أخرجت للناس، أي: لنفسها ولغيرها من البشر كافة.

 ولمحورية هذا المفتاح الذي ساعدني منذ أكثر من ثلاثة عقود، في أطروحتي للدكتوراه، على تعرية كثير من الأساطير الاستشراقية والاستغرابية المعششة في العقل المسلم، إلا ما رحم ربي، عن ما يسمى زورًا وبهتانًا: الفتنة الكبرى في صدر الإسلام، والبرهنة على أن الأمة كانت بسليقتها، وإن بشكل مؤسسي بسيط يوازي احتياجات لحظته الزمانية والمكانية، تعرف وجود تلك الأمة المنية. وكان لتلك الأمة الفضل في حسن إدارة حروب الردة، ومراعاة متطلبات حق الدفاع عن الثغور وحق الأجيال القادمة في ترتيب وضعية الأرض المفتوحة بالإسلام بإبداع حضاري في إنزال القرآن على الواقع، وفي إدارة حكيمة وعبقرية، لتداعيات عدوان المتمردين على إرادة الأمة بقتل ذي النورين (عثمان بن عفان) تمخضت عن ردّ أمر الشورى إلى أهل الحل والعقد في الأمة، وحفظ الفتوح الإسلامية.

     ولا يتسع المقام هنا لمزيد من التفصيل لما بيناه في مئات الصفحات من قبل في أطروحتنا للدكتوراه. لكن إلقاء نظرة خاطفة على المنظومة القرآنية لهذا المفتاح، أمر يستحيل التغاضي عنه. فلنمسك بهذا الخيط القرآني. يقول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110). هذه هي قاعدة مثلث النظام السياسي العمراني الإسلامي. وخيرية الأمة ليست تشريفًا ولا تكريمًا، ولا خاصية وجودية ملازمة لها. إن منطوق الآية الكريمة هو: قضى الله أزلاً تكليفكم بأن تكونوا خير أمة أخرجت للناس. والدليل القرآني الدامغ على ذلك هو قول الله تعالى: {هاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ{38} (محمد : 38)، وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة: 39).

    فالأمة مأمورة بالوفاء بعهد الله وبأداء الأمانة، وبالإنفاق في سبيل الله، وبالجهاد في سبيله. فإن هي لم تفعل، فإن الله تعالى يبين لها أن سنته في خلقه هي: استبدال الأقوام والأمم. ومن بديع نص آية آل عمران جمعها بين ذلك التكليف الرباني لأمة النبي الخاتم، وبين لفت نظرها إلى عبرة من كانوا قبلها. فلو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم. وهم ليسوا سواء. ومنهم من سيستجيب للحق ويدخل في دين الله الحق، وأكثرهم فاسقون، لن يألو تلك الأمة خبالاً، ولن يتوقفوا أبدًا سرًا وعلنًا عن الكيد لها، وعن السعي إلى ردّها عن جادة صراط ربها. وقاعدة مثلث النظام السياسي العمراني الإسلامي إذن هي أمة مكلفة برسالة إنسانية عالمية، بحاجة دائمة إلى إعداد العدة للخروج بالدعوة إلى السلام والعدل والإحسان والحق للإنسانية في كل زمان ومكان. وهي بالتالي بحاجة إلى من يفقهها في دينها وفي واقعها، وإلى من يساعدها على إزالة خبث ونفايات القابلية لمحاكاة أهل الكتاب في قبول بعض الحق، ونبذ البعض الآخر، وإلى من يصلح ما قد يثور من خلافات بين طوائفها.

    ومن هنا يأتي الضلع الثاني من هذا المثلث، والمعبّر عنه في قول الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104).وتشير هذه الآية الكريمة بوضوح بالغ إلى أمة مخصوصة من الأمة العامة. فهي ليست (على الأمة) بل (من الأمن) هي إذن أمة منّيّة، لا أمة فوقية. وبقراءة الآية 110 من آل عمران وهذه الآية معًا، نلاحظ وحدة رسالة الأمتين: الأمة الوعاء، والأمة النابعة المنبثقة منها. تلك المهمة هي: الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والدعوة إلى الخير تتطلب البيان وإقامة الحجة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتطلبان السلطة والمُكنة. وكلا الحجة والسلطة منظوم بناظم إيمان أمة - وليس فردًا أو أفرادًا - بالله.

    ومن الملاحظات التي يجب أن لا تفوتنا أبدًا في قراءة هاتين الآيتين الكريمتين، أن الآية المتعلقة بعموم الأمة الإسلامية، استبطنت فلاحها ضمنًا، في حين تضمنت آية الأمة المنية، النص على فلاحها بالتصريح لا بالتلميح.

    وتعدّ تلك الأمة المنية بمثابة رمانة الميزان في النظام السياسي الحضاري الإسلامي. أو هي بتعبير آخر، ضلع الزاوية القائمة لذلك النظام، المحدد لضلعه الثالث المتمثل في الدولة التي هي شخص معنوي تعبر عنه السلطة السياسية، التي تحتاج لضوابط لتنشئة عناصرها، ولاختيارهم، وللرقابة عليهم، ولمحاسبتهم، ولمنع تغولهم على مفهوم الدولة ذاته الذي هو أوسع في مقوماته من السلطة السياسية، ومنع تغوّل مؤسسات الدولة، لكونها تخضع - مهما التزمت بالمبادئ - لمقتضيات الاختيار السياسي الذي يفرضه الواقع، على مؤسسات الأمة العامة التي تقوم على المبادئ وليس على الاختيارات الموقفية، بوصفها خير أمة أخرجت للناس.

    وعبرة التاريخ الإسلامي تبرهن على محورية دور تلك الأمة المنية بالنسبة لكل من قاعدة مثلث النظام الإسلامي، وضلعه الثاني على حد سواء. فلقد خرج من الأمة رعاع قتلوا ذي النورين، في الشهر الحرام في البلد الحرام ومصحفه بين يديه، وقراره أن لا تراق نقطة دم واحدة من دم أمته بسبب الدفاع عنه. فالأمة العامة بحاجة إلى من يفقهها في أمر دينها ودنياها، ويأخذ على يد من يعتدي عليها. والسلطة السياسية بحاجة إلى من يرشدها في إنشائها، وفي تسييرها، في الداخل والخارج، ويأخذ على يدها حين تنحرف باتجاه الطغيان والتأسيس للاستعباد.

    فلنسأل القرآن عن ماهية تلك الأمة المنية، وحدود دورها العمراني. يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122).

وتوجهنا هذه الآية الكريمة إلى كليات: إقامة الأمة المنية. فاعتبار الأمة العامة كلها مغنية عنها هراء. فما كان المؤمنون لينفروا كافة. فالعمران نظام. إذن المطلوب القرآني هو: تنشئة الأمة الفرعية النابعة. وتلك الأمة تتشكل من نفر أفراد نافرين في سبيل الله، يمثلون كل طوائف الأمة العامة. وهم لا يؤهلون في مقاعد تعليم منغلقة، بل في معامل تنشئة كونية بالسير في الأرض، للتفقه في الدين. والدين منهج حياة شامل لتحقيق الفلاح الإنساني الفردي والجمعي على كافة أنساق العمران الإنسانية بدءًا بالفرد مرورًا بالأسرة والعشيرة والبطون والأفخاذ والقبائل والعمائر والشعوب ووصلاً إلى مستوى الأمم. ووظيفتهم بعد ذلك التأهيل، هي (أن ينذروا قومهم).

متى؟ حال احتياجهم إلى الرجوع إليهم. لأية غاية؟ لعلهم يحذرون. تلك هي المنظومة القرآنية لكيفية إنشاء تلك الأمة وإعدادها، وتحديد رسالتها. فهي أمة مؤهلة لأن ترد إليها أمتها ودولتها، ما يغم عليها من أمر الأمن أو الخوف، لتستنبطه عن علم. وهي ليست كيانًا متسلطًا لا على الأمة العامة ولا على الدولة، بل هي: منذر بالحق، لعل من ينذر يحذر الوقوع في حدود الله ومحارمه.

    ولنسأل القرآن مرة أخرى عن دور تلك الأمة المنية التي غيبت من نظام أمتنا جزئيًا بعد القرن الهجري الأول، وعلى نحو متصاعد، في القرون الخمسة الأخيرة. يقول الله تعالى: }وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ (الحجرات: 9). وتوجه هذه الآية الكريمة بكل جلاء إلى هيئة جماعية، مكلفة بالسعي إلى إصلاح ذات البين، فيما لو حدث أن اقتتلت طائفتان من المؤمنين. ومكلفة ثانيًا في حال إخفاق مساعيها للصلح، بسبب بغي طائفة بعدم الامتثال للحق، بأن تقاتلها على نحو مشروط بحد هو الفيئة إلى أمر الله. ومكلفة ثالثًا، بعد تلك الفيئة، بالصلح بينهما بالعدل والقسطاس. فالله يحب المقسطين.

    وخلاصة هذا الطرح، الذي آثرت الاكتفاء بالوقوف عند كلياته الكبرى، أن أمتنا فرطت في إقامة بنيان نظامها العمراني على هدي كتاب ربها، حينما استدرجت إلى إفك حصر مفهوم الواجب العيني في قيام الفرد المسلم بشعائر العبادات، وبتلمس سد متطلبات نفسه وأسرته المادية، وحصر مفهوم الواجب الكفائي في مقولة سقوط الإثم عن الأمة إن قام بشأنها العام بعض أفرادها، مع التمثيل لذلك بغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وحصر مفهوم الشورى في إسداء النصيحة، وتمييع ذلك المفهوم المركزي في سفاسف لغط هل هو ملزم أم معلم. وكم كنا أغرارًا مغفلين حين ابتلعنا مقولات أن النبي الخاتم بنى بالمدينة المنورة دولة، وأن القرآن الذي تنزل بمكة كان يركز على بناء العقيدة، بينما ركز القرآن المنزل بالمدينة، على بناء الدولة. فحقيقة الأمر أن النبي، أنشأ في مكة أمة، وترك بالمدينة أمة أفرخت أمة شورها، ودولتها. والغفلة عن هذا المفتاح المعرفي والتعتيم عليه، هما البوابة التي تغولت بها الدولة ممثلة بالسلطة السياسية، على الأمة، بكل ما ترتب على ذلك من ويلات على مدى التاريخ.