قال لي ‍صاحبي : أيّدك الله، كيف ‍تصبر على أذيّة من يؤذيك؟

قلتُ: بأيسر طريق ... 

رأيتُ في سير القوم عيانا بعد أن عقلته عن الشّرع وصدّقتُ به أنّ النّاس لو اجتمعت على خفضك وشاء الله رفعك ما كان إلّا ذاك، ووحده جلّ شأنه من مدحه زَيْن وذمّه شَيْن، وسأخبرك بخبر ، قل لي بعد أن تتعقّله ، أيكون من بلغه هذا وفهمه آبها لقالة أحد من النّاس أم تكون هجّيراه وعزيمته متوجّهة لأن يلحق بركاب القوم؟

لمّا دخل الإمام الشّافعيّ رحمة الله عليه مصر وبدأ في نشر العلم، نفر منه النّاس وانفضّوا من حوله أوّل أمره لسببين:
أوّلهما أنّه لم يكن معروفا لهم، والنّاس تقوّم الرّجال بالشّهرة، وثانيهما أنّه كان مجتهدا يقول بما أدّاه إليه النّظر ويخالف مذهب الإمام مالك في مسائل.
ومع إجلال الشّافعيّ لمالك الإجلال العظيم المعلوم من سيرته وكلامه حتّى قال: " إذا ذكر الحديث فمالك النّجم وقال: " لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز"، ومع تعظيمه له تعظيم التّلميذ لشيخه، فإنّه لمّا رأى غلوّهم فيه أراد أن ينكر عليهم ذلك ويبيّن لهم أنّ العصمة طويت ومضت مع المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، فكان أن ألّف كتابا يبيّن فيه أغلاط مالك رحمة الله عليهما، واشتدّ أحيانا بالعبارة وقسا في مواضع .. والكتاب موجود مطبوع قد وصل إلينا بحمد الله .
وثارت عليه ثائرة الغلاة، حتّى اعتدوا عليه وضربوه، وازدادوا غلوّا إلى غلوّهم، وزاد الأمر فحشا كونهم عجزوا عن مغالبته ومناظرته أو الرّدّ عليه بالحجج العلميّة إذ لم يكن ثمّ مثله ولا نظيره .. فلم يجدوا إلّا الفحش والاعتداء بل والدّعاء بالهلكة!
حتّى صحّ عن أحد أعلام الفقهاء المالكية أشهب بن عبدالعزيز أنّ كان يدعو على الشّافعي في سجوده ، ويقول : " اللّهمّ أمت الشّافعيّ ، فإنّك إن أبقيته اندرس مذهب مالك!
وأشعلوا عليه حربا شعواء رموه فيها بكلّ نقيصة وادّعوا عليه كلّ فرية ممكنة حتّى قالوا عنه إنّه رافضيّ لمّا وافق الشّيعة في بعض فروعهم المخالفة للمالكيّة كجهره بالبسملة في الصّلاة والقنوت وغيرها ..
بل وصل الأمر إلى أن ادّعوا عليه أنّه منجّم ولعلّها كنت وسيلة ليكفّروه إذ معلوم شدّة المذهب المالكيّ في حكم التّنجيم والمنجّم، وإنّما ادّعوا عليه هذا لأنّه كان صاحب فراسة وهي ما يسمّونه (الفيزيونومي) ، وكان قد درسها وبرّز فيها، فكانت تهمتهم من جنس قول القائل:
إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها *** كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وقد أجاب ابن القيّم في مفتاح دار السّعادة عن تهمة التّنجيم وأطاب الكلام في ردّها.
ثمّ لمّا انتقل إلى العراق تبعته كلّ هذه الافتراءات والشّناعات وتشويه السّمعة، وازداد الأمر وطأة بأن دخل فيه بعض العلماء عصبيّة أو حسدا .. فتكلّم فيه يحيى بن معين وهو إمام الجرح والتّعديل عصبيّة لكونه كان حنفيّا، وتكلّم فيه القاسم بن سلام حسدا، وتكلّم فيه العجلي لما سمعه عنه بلا تثبّت من أهل مصر، وهؤلاء أئمّة أجلّة كبار!
وزادت الغيرة والحسد حين عظّمه أحمد بن حنبل وأجلّه وصار يجلس بين يديه ليتعلّم منه .. فكان يحيى بن معين ينكر عليه ويقول لابنه: إلى كم يذلّ أبوك نفسه، يأخذ بركاب بغلة الشّافعيّ ؟!
فكان أحمد يقول، قل له إن شاء أن ينبل فليأخذ بالرّكاب الثّاني.
وكان يقول حين يقولون له إنّ يحيى يتكلّم في الشّافعي، يقول إنّ يحيى لا يدري ما يقول الشّافعيّ!
أي إنّ علمه لم يبلغ أن يفهم ما يقول الشّافعي.
قال علي بن أحمد الدخمسيني: سمعت عليّ بن أحمد بن النضر الأزدي، سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن الشّافعيّ، فقال:
" لقد منّ الله علينا به، لقد كنّا تعلّمنا كلام القوم، وكتبنا كتبهم، حتّى قدم علينا، فلمّا سمعنا كلامه، علمنا أنّه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيّام واللّيالي، فما رأينا منه إلاّ كلّ خير، فقيل له: يا أبا عبد الله، كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه - يشير إلى التشيّع وأنّهما نسباه إلى ذلك - فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان، والله ما رأينا منه إلا خيرا...، ثم قال أحمد لمن حوله: اعلموا رحمكم الله تعالى أنّ الرّجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئا من العلم، وحرمه قرناؤه وأشكاله، حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة من أهل العلم " اهـ
وروى البيهقي: " عن أبي داود السّجستاني أنه قيل لأحمد بن حنبل: إنّ يحيى بن معين ينسب الشّافعي ابن إدريس إلى التّشيّع.
فقال أحمد ليحيى بن معين: كيف عرفت ذلك؟
فقال يحيى: إني نظرت في تصنيفه في قتال أهل البغي، فرأيته قد احتجّ من أوله إلي آخره بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقال أحمد: يا عجبا لك، فبمن كان يحتجّ الشافعي في قتال أهل البغي؟! فإنّ أوّل من ابتلى من هذه الأمّة بقتال أهل البغي هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: فخلّى يحيى من كلامه." اهـ
ولم يمت الشّافعيّ رحمة الله عليه حتّى اجتمع عليه النّاس وأقرّوا راغمين له بالعلم والفضل .. وأذهب الله تعالى عنه أذى النّاس فلا يذكر إلّا بالتّعظيم .. وبقي الشّافعيّ الشّافعيّ! فأيّنا الآن أولى بالصّبر والاعتبار، آنحن أم السّبّابة والحسّاد؟