لباس التقوى هو الذي يجفف منابع عري الجسد، والعكس غير صحيح، فما فعله آدم وحواء من محاولة ستر السوأة بورق الجنة لم يستر عورتهما. والسوأة لم تظهر أساسا إلا بالأكل من الشجرة التي أمرهما الله بعدم الاقتراب منها، مع تنبيههما إلى أن الشيطان عدو لهما، ولن يدخر جهدا في إغوائهما بما يخرجهما من الجنة، فيشقى آدم.
والذي ستر السوأة التي ظهرت بالمعصية هو التوبة النصوح، ومع التوبة النصوح كان الاجتباء، وكانت الهداية بكلمات من الله مبينة لكلمة التقوى، ومعها هدية منصوص عليها في قول الله تعالى ({يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].
ولابد أن نتدبر مليا في هذه الآية الكريمة. فاللباس المنزل بمواده التي خلقها الله من القطن والحرير وأمثالهما وعلم الإنسان صنعته، له وظيفة هي (يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً) فوظيفته قاصرة على ستر السوآت والتجمل به. ولا يجب الهوس به ولا وضعه في مقام ما هو أهم منه لأنه يحققه حتى لو كان مجرد جلباب به مجموعة رقع كذلك الذي دخل به عمر فاتحا للقدس، بل يجب التنبه لاعتباره تابعا ل (لِبَاسُ التَّقْوَىَ). وكلا اللباسين لازم ومتضمن في التكليف الرباني للإنسان، ولكن مع مراعاة وزن أولهما بثانيهما.
وبالتالي فإن التركيز يجب أن لا ينصب على النقاب أو السفور، فكم من سافرة ذات فطرة سوية هي ضحية لقصور في تربيتها وفي تعريفها بصحيح دينها ولا تحتاج إلا لمن ينبهها إلى استكشاف معدنها الأصيل وحفظه، وكم من محجبة ومنقبة تدعو إلى قطيعة الرحم وتقدم حجة ضد الشرع وتثير فتنة في الدين ذاته.
ومفهوم اللباس في القرآن ليس قاصرا على ما يستر البدن، ودعونا بهذه المناسبة ندعو للتخلي عن استخدام مفهوم (ستر العورة) لكونه مفهوما بالغ التقزيم بدلالته الشائعة ونستخدم المفهوم القرآني (ستر السوءات) ولعلنا نتدبر هنا في حقيقة أن مفهوم العورة ذاته لم يرد بالقرآن إلا بالنسبة للبيوت غير الآمنة، وأما ما ورد به خاص بالإنسان فهو مفهوم (السوأة) وهي تشمل كل ما يسوء الإنسان أن يطلع عليه غيره، لكونه يحط من قدره في نظره.
ولستر السوءات مستويان، أدناهما هو: مستواه الآدمي (ما يستحي الإنسان من أن يعرفه الناس عنه)ويتسع هذا المستوى عند أهل المروءة من كل ما هو معروف بالفطرة السوية أنه ينقص من قدر صاحبه من الكذب والطغيان والغرور وقول الزور والشح، ويتسع في ذات الوقت لستر المنافق لنفاقه، والمرائي بعمله لحقيقة قصده وجه الناس لا وجه الله، وفيه بالتالي ما هو محمود، وما هو شبيه بسراب بقيعة.
أما مستواه الثاني فهو : مستواه الإيماني الذي يشمل كل ما يستحيي الإنسان أن يراه الله الذي يعلم السر وأخفى منه، وكل ما يستحيي المرء من أن يراه عليه النبي وصالح المؤمنين ، وإليه يشير قول الله تعالى : {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]. ويتسع هذا المستوى لكل ما يمس كرامة الإنسان الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه واستخلفه في أرضه، وحمل الأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها.
- والمستوى الأول هو التمثيل للمعنى الدارج لمعنى: إذا لم تستح فافعل ما شئت. وهو يتسع للمروءة، كما يتسع للفجور .
- أما المستوى الثاني فيعني استحضار معية من يعلم السر وأخفى، وفعل كل ما لا يستحيي المرتقي إليه، المؤمن بأن الله معه حيثما كان.
والمستوى الأخير وحده هو الذي يكفل الستر للقلب وللجسد معا دون إفراط ولا تفريط، وهو لا يدعو للزهد في الأول، بل يحدد له مجاله الصحيح ويرعاه، ويحوله إلى واحد من مقومات الاجتماع الإنساني على مستوى الأسرة والشارع ومكان العمل، ويربطه بالعبادة ليس في الصلاة وحدها بل بالنسك والمحيا والممات.
فمجرد التركيز على ما يستر جسد المرأة بمثابة مسعى لمعالجة خُراج مزمن بوضع بعض المسكنات عليه، ثم إن المتدبر يرى أن الدعوة القرآنية بستر الجسد بالتزام كلمة التقوى تكليف رباني موجه للرجل وللمرأة معا وليس للمرأة وحدها. والله أعلى وأعلم وهو المستعان.