في خضم أهوال الأحداث السياسية، والكوارث الطبيعية، والحروب، وبينما يتوقع من الإنسانية أن تتوقف كل أنشطتها، وتُكرس كل جهودها للهفة المُستغيث، ولرفع الظلم عن المُستضعفين، نفيق على الحقيقة المؤلمة وهي أن العمل يستمر، والحياة تسير عجلتها وإن كانت بوتيرة أثقل. فالكل يُتوقع منه أن يواصل دراسته، وعمله حتى ولو بنفسٍ مهزومة، وقلبٍ محطم! ولا مفر من استمرار الشركات في العمل، واستمرار القوى العاملة في استكمال مهامها، وتحقيق النتائج المرجوة. فكيف تُدار الموارد البشرية وقت الأزمات؟ في هذه المدونة، نتناول بعض الأفكار المهمة.

المنعطفات الفاصلة

بدايةً، ما يميز إدارة الموارد البشرية في أي شركة، هو ليس فقط براعة سياستها، ودقة التنفيذ. بل الأهم هو كيف تدير الشركة مواردها البشرية في وقت الأزمات. فالموظف قد يغفر الكثير لشركته، أو قد ينبهر بالكثير من سياساتها، لكن ما يؤثر فيه حقًا هو كيفية تعامل الشركة معه، ومع الواقع في الأوقات العصيبة. إن تلك الأوقات الصعبة هي منعطفات مفصلية في علاقة الموظف بشركته، ونظرته لها مما يُسهم على المدى القريب، والبعيد في ولائه لها من عدمه.

لذلك فإن الشركات التي تُصر على فصل العمل عما يحدث خارج الشركة، وتتوقع من قوتها العاملة أن تتصرف بطبيعة، وكأن شيئًا لم يكن، لن تحصل على نتائجها المهنية المرجوة، ولن تحصل على احترام، ولا ولاء قوتها العاملة. فلا جدوى أبدًا من تجاهل مشاعر العاملين، وذلك ليس فقط من ناحية أخلاقية، بل من ناحية مهنية أيضًا.

ثقافة الشركة، والمُناخ العام

إن تعامل الشركات فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية وقت الأزمات، هو أمر متعلق في المقام الأول بثقافة الشركة. ونحتاج أن نفصل هنا بين دور "قيم" الشركة، ودور "ثقافة" الشركة في التأثير على إدارة الموارد البشرية، لأن من البديهي أن نعتقد أن الأمر راجع لقيم الشركة، وهذا الافتراض غير دقيق. فقد يكون من قيم الشركة مثلا: الإنتاجية، والتميّز، والاتقان. لكن كيف يتم تنفيذ ذلك؟ هناك شركة ستسود فيها ثقافة الشدة، والحزم، والمراقبة، والجدية لتحقيق تلك القيم بصرامة. وهناك شركة ستسود فيها روح الأسرة، وثقافة التعاون، والدعم لتحقيق تلك الأهداف القيمية، والمهنية. فثقافة الشركة إذًا هي المحرك الرئيسي داخليًا، عند وقوع الأحداث الجسيمة التي لا يمكن تجاهلها.

لكن الشركة لا توجد في فراغ، ولا يمكن تنفيذ ثقافتها بمعزل عن المناخ السياسي العام، في ظل ما هو مسموح به قانونيًا، واجتماعيًا. لذلك فثقافة الشركة (كمحرّك داخلي)، تأخذ في الاعتبار المناخ السياسي، والاجتماعي العام، وتتأثر به.

الإدارة الاستباقية

إن إدارة الموارد البشرية وقت الأزمات، لا تبدأ عند وقوع الأزمات، بل ينبغي أن تكون لدى الشركة خطة مًسبقة لها، وتكون مبنية على أكثر من مستوى.

  • على مستوى ميثاق أخلاقيات العمل Code of Ethics – إن الميثاق الذي يوقعه الموظف عند استلامه للعمل، يجب أن يشتمل على توجيهات عامة لحماية موارد، وسمعة، وأمن الشركة في كل الأوقات، بما يشتمل عليه وقت الأزمات. مثلاً متوقع أن ينص الميثاق على عدم جواز استخدام الموظف لموارد الشركة للتعبير عن رأيه السياسي. فلا ينبغي أن يقوم بتصوير محتوى مقاطع مرئية في مكاتب الشركة للتعبير عن أراء شخصية. ولا ينبغي أن يرتدي ملابس عليها لوجو الشركة، أو أن يرتدي الزي الرسمي للعمل، أو أن يستخدم السارة الخاصة بالشركة للمشاركة في تظاهرات أو أثناء التعبير عن آرائه الشخصية. تضمين بنود كتلك في الميثاق، وتدريب العاملين على فهمها يحمي موارد، وسمعة، وأمن الشركة بدون أن يتعدى على حرية الموظف في التعبير عن رأيه في مساحته الشخصية.
  • على مستوى سياسات الشركة- يجب أن تكون سياسات الشركة واضحة فيما يتعلق بالسلوكيات المقبولة، وغير المقبولة من العاملين، وخصوصًا فيما يتعلق بالإجراءات العقابية، وسياسة دعم الموظف. فمثلاً ماذا يحدث إذا تسبب الموظف في ضرر للشركة وسمعتها؟ وماذا سيحدث إذا تعدى عميل على موظف بسبب انتمائه العرقي، أو السياسي، أو الديني (كأن يسب عميل موظفة لأنها محجبة مثلاً، أو أن يتهكم على موظف لأنه من جنسية معينة)؟ وطبعًا تحتاج السياسات لأن تكون متوازنة تقدم الدعم للموظف في وجه الاعتداءات العنصرية، أو غير المُبررة، بينما تحفظ سمعة، وموارد، وأمن الشركة. وينبغي أن تقوم الشركة بشرح تلك السياسات للموظفين بشكل استباقي عند التوظيف، ولا تدع الأمر متروكًا لهم ليطلعوا عليها لاحقًا. كما ينبغي التأكيد عليها دوريًا. وضوح السياسات، يختصر الكثير من المسافات عند لإدارة الأزمات، ويجنب الشركة وقوع الكثير من المشكلات.
  • على مستوى العلاقات - نجد أن استثمار الشركة في دعم بناء علاقات صحية بين الموظفين، وبعضهم، وبينهم، وبين المدراء لهو أمر في غاية الأهمية في إدارة الأزمات بشكل استباقي. فالعلاقات الطيبة في الأوقات الطبيعية، وسياسة الباب المفتوح تسمح للموظف بأن يعبر عما لديه من مشاعر، وتخوفات، وأن يسأل أية أسئلة لديه بأريحية وقت الأزمات.
  • على مستوى التواصل – إن وجود سياسة واضحة للتواصل في الأوقات العادية، يهيئ القنوات لدعم الموظفين وقت الأزمات. مثلاً وجود نشرات أو مجلات الكترونية دورية، واجتماعات عامة، وعلى مستوى الأقسام بشكل أسبوعي، أو نصف شهري، وغير ذلك من آليات التواصل، سيضع الموظف في أريحية عندما يكون واثقًا من أنه سيتلقى نشرة أو سيكون هناك اجتماع لمناقشة الأمور الطارئة في حينها، بدلاً من التكهنات، والحيرة، وعدم التأكد من موقف الشركة أثناء الأزمات.
  • على مستوى برامج الدعم – إن تعاقد الشركة مع مؤسسات في مجالات الدعم المتعددة وتضمينها كخدمات للموظفين، يساعد كثيرًا في وقت الأزمات. من أمثلة ذلك:
    • وجود آلية وصول لمختصين نفسيين، أو قانونيين على سبيل المثال كجزء من "امتيازات" الموظف،
    • مرونة برنامج الإجازات بحيث يسمح باستخدام الموظف لأيام التغيب المرضي مثلا للأسباب النفسية، والضغط النفسي.
    • وجود برنامج للتنبيه والإنذار Whistle Blower، يسمح للموظفين للإبلاغ عن أية انتهاكات، أو اعتداءات يتعرضون لها داخل الشركة من موظفين آخرين أو مدراء بسبب آرائهم السياسية، أو طبيعة انتماءاتهم، أو للتبليغ عن أية انتهاكات يرونها تحدث للآخرين مع ضمان سرية اسم المبلغ. يساعد هذا البرنامج على كشف أي وقائع بشكل عام أو وقت الأزمات بشكل خاص، والتعامل معها وفق سياسات الشركة.
    • على مستوى ثقافة الشركة – كل ما سبق، يتداخل بالطبع مع ثقافة الشركة. لكن يبقى التوجه العام للثقافة والذي ينبغي أن يدعم الاحترام، والحوار، والود، وعدم قبول الشائعات، والنميمة، وما إلى ذلك من سلوكيات تسبب تفاقم الأزمات.

كل هذه الإجراءات الاستباقية، توفر على الشركة الكثير من الوقت أثناء الأزمات وتجنبها المواقف المحرجة لأن موظفيها يعرفون تمامًا ما هو متوقع منهم. وإذا نجحت الشركة في تنفيذ هذه الخطوات بكفاءة، ربحت نصف المعركة فيما يتعلق بإدارة الموارد البشرية وقت الأزمات، والأحداث الجسيمة. كما تقدم مناخًا عادلاً لا يعاقب موظف على شيء لا يعلم عنه شيئًا، ولا يدري أنه يضر بالشركة.

الاتساق

من القيم المهمة في التعامل مع الأزمات ذات الطبيعة السياسية تحديدًا، هي قيمة "الاتساق" أو أن تكون مواقف الشركة منسجمة مع بعضها بشكلٍ قيمي. فمثلاً إذا كان من سياسة الشركة "عدم الحديث في الأمور السياسية"، أو "عدم السماح للموظف أن يحشد الموظفين للتظاهر من أجل قضية سياسية"، فيجب أن يتسق هذا السلوك في كل الأحوال، فلا تطلب الشركة من الموظفين في سياق آخر تنظيم مسيرات لأي سبب سياسي أو الحشد مثلاً للمشاركة في انتخابات، أو أحداث سياسية معينة. إن هذا الاتساق القيمي يجعل توقعات الموظفين عما هو مقبول أو غير مقبول، سليمة كما أنه يُكسب الشركة الاحترام في أعين العاملين بها.

عدم التجاهل

لكن ينبغي التنويه أيضًا أنه إذا كانت من سياسة الشركة عدم الخوض في الأمور السياسية، ثم حدثت حرب، أو حدث سياسي جلل تعرف الإدارة تمامًا انشغال كل العاملين به، فلا يليق أبدًا أن تتجاهل نبض العاملين، ولا أن تتوقع منهم الاستمرار في العمل بنفس الروتين، والكفاءة. فمن المتوقع من سياسات إدارة الموارد البشرية الناجحة، أن تستجيب للواقع الذي يفرض نفسه، وذلك بطرق متنوعة منها:

  • عقد اجتماع طارئ عام لجميع الموظفين مع الإدارة العليا للشركة، تعبّر فيه الإدارة عن دعمها للموظفين، وتشرح لهم التحديات والموقف العام للشركة، والإجراءات التي تدعم بها الشركة الموظفين. كما يتم توصيل المعلومات حول أي جهود ستساهم بها الشركة كجمع تبرعات للمتضررين من حرب أو زلزال، أو ما شابه. وذلك بما لا يتعارض مع نقطة "الاتساق". فمن البديهي أن تحاول الشركة تجنب السؤال المشروع "لماذا نظمنا حملة تبرع أثناء هذا الحدث، وليس أثناء حدث آخر".
  • يتبع ذلك اجتماعات للأقسام، يسود فيها الاستماع بحرص لمشاعر الموظفين والتأكيد على الموقف العام للشركة، وإبلاغ الموظفين بطرق الوصول لأنواع الدعم المتنوعة كالدعم النفسي. كما يتم ابلاغ الموظفين بما يمكنهم عمله (كالتبرع للمتضررين، والتعبير عن آرائهم السياسية بشكل شخصي خارج نطاق الشركة، ونصيحتهم بالاعتدال في التعبير بما لا يتضمن السب، أو التهديد وذلك حرصًا على سلامتهم الشخصية أولاً، وسمعة الشركة ثانيًا. كما يتم تشجيعهم على عد خرق قوانين الشركة، وسياستها.
  • ارسال نشرات دورية بأي مستجدات للأمور، ولتقديم التفهم لمشاعر العاملين.
  • مراقبة الأحداث اليومية عن قرب، والسماح للموظفين بالانصراف مبكرًا في الأيام العصيبة التي تكون أحداثها ثقيلة.
  • تقديم المرونة والتفهم لاحتياج العاملين لمراقبة الأحداث عن قرب. فمن المتوقع أن يستخدم الموظفون جوالاتهم لمتابعة الأحداث بشكلٍ أكبر من المعتاد. كما يمكن أن يتم تخصيص جهاز تليفزيون في غرفة الاستراحة، والغذاء لمشاهدة الأخبار. وهذا سيشجعهم على المتابعة في وقت الغذاء، والراحة.

التوازن في الخطاب، والتعامل

المناصب القيادية دومًا يتوقع منها قدرًا أكبر من الثبات الانفعالي، وعدم الانسياق للعواطف السائدة، مع احترامها طبعًا، والتعامل معها بتعاطف. وينبغي أن يكون الخطاب العام للشركة متوازنًا، ويحاول نشر الإيجابية، وطرق التعامل مع الأزمة بقدر المستطاع. كما أن اتخاذ الشركة لقرارات أخلاقية، ودعمها للموظفين في مثل تلك المنعطفات الفارقة، يُكسب الشركة مكانة كبيرة في نفوس موظفيها، ويؤدي إلى زيادة الإنتاجية بعد انتهاء الأزمة، ويجعل الشركة مرغوبة لطالبي الوظائف بسبب تزكية الموظفين لها.

ومما لا شك فيه، أن التعامل الأخلاقي وقت الأزمات، والوقوف إلى جانب الموظف، ودعمه خلالها، سيجعله يقف إلى جوار الشركة، ويتمسك بها أثناء الأزمات الاقتصادية، وفي خلال أية تحديات.