أولُ ما يُقرأ من العنوان ما يتعلق بغرض الأحزاب، وما يتعلق بالشمولية، بمعنى أن اختيار لفظ أحزاب للعنوان بدل حزب هي إشارة ضمنية إلى التّعدد والتّنوع الذي يطرحه تنوع الأحزاب، وبالتالي فالحديث عن غرض الأحزاب، والتّنوع سيُمكّننا من إجابة سؤال: لماذا الأحزاب؟ وهذا ما سنتطرق إليه من خلال السطور التالية.

لماذا الأحزاب؟

   عندما نخوض في شأن الحزب فلا بد من أن نعرّج على مفهوم الحزب، وهذا الأخير بعيدا عن التعريفات الأكاديمية ببساطة هو: اندماج مجموعة من الأفراد ذوي قدرات مختلفة، وأحوال متباينة للوصول السياسي بهدف تسيير شؤون مؤسسات الوطن بما يخدم المواطن والوطن. كما أن الحزب تاريخيا كفكرة وكخطوة متعدّدة المآرب مرتبط بشكل وثيق بالديمقراطية، فالحزب هو ابن الديمقراطية، وأحد تجليات النظام الديمقراطي على الإنسان المواطن. نشأ بِدفع ظروف متنوعة وفي ظل متغيرات كبرى شهدتها أوروبا، والبلدان الغربية بصفة عامة، انعكست آثارها على عموم البلدان في تلك اللحظة من الزمن وإلى اللحظة العصرية مازالت تعيش الإنسانية جمعاء ذلك الأثر ببحر تناقضاته.

    كما توجد مسألة في غاية الأهمية بمكان تُأرّخ ضمن الأرشيف الحزبي ألا وهي أن الحزب يرتبط بتغيُّر جذريٍّ: زوال الأنظمة الملكية، أو تقليصها وحصر نفوذها بشكل بارزٍ، ثم إن الكيمياء الحيوية التي انبثق عنها هي من أوصدت الأبواب في وجه الأسرة الحاكمة المتحكمة التي كانت تُسيِّر دول لم يكن لشعوبها في سياساتها، ولا سياسة اقتصادها كلمة ولا رأي ولا منفعة، وشرّعتها على مصراعيها في وجه الشعب ليقول كلمته وليسيّر نفسنه بنفسه، وهذه من النعم التي أهدتها أجواء الحزب والحياة الحزبية للإنسان المعاصر.

غرض الحزب

     في التعريف الآنف الذكر لمفهوم الحزب ذكرنا مسـألة الهدف فجماعة الأفراد يجتمعون ويؤسّسون حزب لأغراض شتّى حسب اختلافهم، مشاربهم، حاجياتهم، ومعاناة بيئاتهم، وهو ما يجعلنا نقول:

     إن فكرة تأسيس الحزب فكرة خيرية أساسا من حيث أنها تجمع الناس لجلب مصالح الناس، لتحسين واقع الناس، لإيصال صوت المستضعفين من كل حدب وصوب، وهذا ما يُسطّر بالبند العريض ضمن: غرض الحزب.

    الإنسان بطبعه نفعي أي إنه فطريا مجبول على حب المنفعة لنفسه وحتى لغيره وهنا لفظ لغيره "تعني إنسان الفطرة الإنسان المتحرّر من كل قيود الدنيا المكبّلة" لذلك كثيرا ما يسعى هذا الإنسان إلى جلب المنفعة والبحث عن طرق لوصلها، وتطوير آليات وصلها لذا وأكثر، وبعد عدة تجارب ومحاولات كانت الزّبدة أن ابتكر فكرة الحزب كغرض نفعي، أو كآلية ينخرط فيها مجموعة أفراد من أجل جلب منفعة عامة تمسّ المواطن وإياه الوطن.

    الحزب لون عصري بروح وثقافة عصرية، فروح وثقافة العصر مرنة فضفاضة بإمكانها أن تسع الجميع على غير بعض الثقافات التليدة وهذا ما جعل الجميع بأطيافه ينظر إلى الحزب كهدف غرضي فيُهرول إلى تأسيس حزب أو الانخراط بحزب مؤسَّسٍ وهذه المرونة حقيقة هي من صنعت شعبية الحزب والأحزاب من بعد ذلك، فانتشرت الفكرة في أرجاء المعمورة وبدأت الحياة السياسة المؤثرة تتشكل بهذا النمط الجديد.

    إذن المرونة هي مما خلف شيوع سيطرة فكرة الأحزاب واستمرار زخمها من لحظتها الأولى إلى اللحظة وتمتينا لذلك انخراط أصحاب الأيديولوجيات ضمن الأحزاب، حتى بما في ذلك الأيديولوجيات الميّالة للسيد الواحد، أو بصريح العبارة إن الأشطر منهم لمواكبة سير الإنسانية ولج ضمن فكرة الحزب فأسس حزبًا عقلا منه، ومن رحابة صدر فلسفة الحزب بالإمكان أن يضم الحزب الواحد أطياف المواطنين، وأطياف الطبقات، أو مجموعة أحزاب تحت راية واحدة، وبالتالي تأسيس الأحزاب كان لعدة أغراض منها تحصيل المرونة وفلسفتها، وروح العصر، فالذي يتّسع ويقبل الجميع يجعل منه ذلك هدفا للجميع.

   المؤسسة لغة من لغات العصر فالدول اليوم قائمة على قرن مؤسسة، والحزب بالنسبة إلى عدة قراءات ما هو إلا مؤسسة له هيكل تنظيمي، كوادر، طاقات متنوعة، وإمكانات مادية ومعنوية، يحمل ثقافات متنوعة، يتحرك أعضاؤه وفق خطط علمية مرسومة واضحة له برامج وأهداف وبالتالي يعتبر لغة من لغات العصر الخلاقة، حيث أضحى تأسيسه هدف لبلوغ أهداف، ومن خلاله حسب التجارب يمكن تحقيق التغيير المنشود للأمم. 

إن الحزب حسب هذا المعطى مؤسسة عصرية بامتياز بل قد يتجاوز المؤسسات من حيث التأثير لما يحمل من إمكانات المؤسسة، ومن طاقات متنوعة مهندسين، أطباء، أساتذة، عباقرة من مختلف طبقات المجتمع، مفكرين، مصلحين، بسطاء، كادحين، برجوازيين... بالإضافة إلى كونه سياسة وما أدراك ما دور وتأثير السياسة على بقية الأصعدة: الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الصحة... إذن الحزب ليس مجرد وسيلة بقدر ما هو غاية في حد ذاته غاية ترمي إلى تحقيق غايات.  

    وراء ظهور الحزب وانتشار الأحزاب في العالم أسباب ووقائع جمّة منها ما يتعلق بالتمرد على أشكال الأنظمة السياسية الوراثية كما حدث في فرنسا أواخر القرن ال 18، ومنها ما يتعلق بمحاربة الفردانية وإعلاء قيم الجماعة، والوحدة والتكامل، والمأسسة، ومنها ما يتعلق بجلاء المستعمر...إلخ كل هذا وغيره قدّمه الحزب لإنسان ما بعد الديمقراطية وأضاف له عنصر التطوير ففي الحزب يتحصل المنتسب على فرص عدة كالتدريب والتكوين في مختلف الملفات سياسيا، إداريا، اقتصاديا، تربويا، تثقيفيا، وهذا حقيقة ما جعل ويجعل من الحزب محط أنظار واهتمام، وما يدفع للقول بأن الحزب دوحة وافرة الخيرات. 

مسألة التعدد والتنوع

    فيما تقدم يظهر جليا ما يعني التعدد والتنوع بيد أن ذلك لا يمنعنا من أن نستطرد أكثر في مسألة التعدد والتنوع المعنية في سؤال لماذا الأحزاب؟

لماذا الأحزاب؟ 

    لأنّ بداية ظهور الأحزاب ما هو في حقيقة الأمر إلا صرخة مزعجة في وجه الفرعون الأوحد، في وجه الاستبداد، الأحادية، الفردانية، اللون الواحد، وفي بند ما تعيشون إلا بما منحتُكم أنا "الأنانية" غير أن نشأة الأحزاب لم تكن مجرّد صرخة بل فعل زاح صوت الفرد الواحد وأقام صوت الجماعة، وأعطى الحق للتنوّع "الإدارة بالتنوع" فبفضل أجواء الأحزاب أصبح الكل مشارك الكل بإمكانه أن يشارك. إدارة شؤون البلاد أضحت بالتناوب بين مكونات الأمة لا فرق بين أبيض وأسود، ولا بين عربي وعجمي، الكل سواسيّة أمام الحق العام.

    في مرعى الديمقراطية نبتت الأحزاب هذه الأخيرة طرحت منذ ظهورها الأول عديد الأفكار الجوهرية التي تُعنى بالإنسان وما يطوّر حياته، ومن ذلك فكرة إمكانية التقاء عديد الطاقات المختلفة التخصصات تحت راية الحوار وتبادل وجهات النظر والأفكار في سبيل ما يخدم الأمة والمواطن بغض النظر عن خلفيات هذه الطاقات ومشاربها العديدة، كما حرّرت الأحزاب طاقة ظلت لقرون مكبوتة: المرأة فأدّمجتها ضمن طاقات المجتمع الفاعلة، وقدمتها كرئيسة لحزب، ومسؤولة، وقيادية، ومكنتها من زعامة مؤسسات ومنظمات عالمية ومحلية، بل وأعطت لها حق الرئاسة في بعض البلدان وغير ذلك، وكل هذا يُطرح في خانة التنوع الذي أفرزته الأحزاب.

    الأحزاب كما قلنا آنفا لون من ألوان العصر الحديث من حيث واقعها فهي ترسم طيف ألوان ولا تستسيغ اللون الواحد، ندّ الطبقية من حيث أنها جعلت كل طبقات المجتمع تشارك في رسم لوحة الأمة، كما أنها حاربت بشكل من الأشكال فكرة الطائفة اللاغية من خلال إحداث مساحات تضم الجميع بغض النظر عن دينه، عرقه، فكره، حالته الاجتماعية على عكس ما تفعل الطائفة، فأنت اليوم تلاحظ أن الحزب يسع الجميع في حين أن الطائفة ونظام الطوائف معتكف بمريديه.

    ظلت الأحزاب تتطور عبر رحلتها التطورية وأثناء ذلك ظهرت فكرة الشمولية بمعنى تكتل واتحاد عديد الأحزاب تحت راية المصلحة العامة، وهذا الاتحاد ينتج عنه من المصالح ما لا يمكن حصره ومن باب المثال لا الحصر اتحاد الطاقات وتبادل الخبرات، وخلق برزخ تواصلي تتواصل فيه كل اتجاهات الوطن.

 عبر خاصية التكتل التي عدتها فكرة الأحزاب، أصبح بالإمكان تظافر عديد الجهود لجلب عديد الحقوق، بالإضافة إلى أن الأحزاب استطاعت أن تجمع، في حين أن من يقارعها طال به الأمد وهو يفرّق ولا يستطيع أن يجمع في حين أننا رأينا الهالة الحزبية تجذب أصحاب الأيديولوجيات الإسلاموية وغيرها ثم بعد ذلك تجعل الكل على مائدة واحدة من أجل خدمة السيد المواطن الكادح، وكل هذا يصب ضمن دائرة التنوع الناتج عن ظاهرة الأحزاب.

    وفي الأخير طوال كتابة هذا المقال وحديث: " لا تجتمع أمتى على ضلالة" يطالعني بين الفقرة والفقرة والسطر والسطر فكان ولا بد أن يذكر لأن فلسفته تبصر بين طيات الأفكار فاخترت أن أختم به وصلى الله على نبيه.