أهمية الموقف النصي-الميثاقي في تحقيق القفزة من التبعية إلى السيادة
بالعودة إلى لحظة التحول من الحرب الباردة إلى القطبية الأحادية، حصلت عودة العالم الإسلامي -وفي قلبه العالم العربي- إلى صلب الحدث التاريخي العالمي وصناعته؛ وذلك بناء على أن حقيقة ما حصل في أفغانستان بوصفها نقطة التحول الجغرافي-التاريخي من صراع الرأسمالية العالمية ضد الخطر الأحمر، كصراع قطبي، إلى صراعها ضد الخطر الأخضر، كصراع وجودي، وذلك بناء على حدثين مركزيين، الأول فعلي والثاني رمزي:


1- فعليا

 وفود الشباب العربي إلى أفغانستان بدفع من مصدرين مرجعيين يتقاسمان إلى غاية اللحظة العالم العربي كأيديولوجيا دينية-سياسية السلفية والأشعرية الجهاديتين.. وهي ذات منظور تنفيذي مباشر للجهاد لا يستحضر التوسطات الاجتهادية النظرية التأسيسية التي قدّمتها المدرسة النقدية العربية، فقد ساهمت الجماعات الشبابية العربية تلك، والتي تشكلت ضمن ما سمي بظاهرة "الأفغان العرب" في دحر السوفيات من أفغانستان، ومن بعدها التحول إلى الممارسة العنفية الداخلية استنادا إلى أطروحة "جاهلية المجتمع" خلال التسعينات خاصة..


2- رمزيا

انتقال صراع الرأسمالية الغربية من صراع مع الخطر الأحمر-الاشتراكي إلى الصراع مع الخطر الأخضر-الإسلامي، وذلك استنادا إلى معطى مرجعي مؤسس للعقل الغربي هو ضرورة التضحية بـ "كبش فداء" يُحمّل كل أوزار خطايا غيره، بغاية حفظ النظام العام، وهو هنا النظام الدولي الأحادي القطب، إذ تم سحب صفة "الإرهاب" على مجمل مجتمعات العالم الإسلامي، ومنه نشأت ظاهرة "الإسلاموفوبيا" في الغرب، كراهية كل ما ينتمي أو له صلة بالإسلام.

ومع ما وسم الحركات الشبابية القتالية من "نظرة اختزالية" للإسلام لقيامها على فهم تنفيذي مباشر كما تقدم، فضلا عن الاختراق الاستعلامي الدولي الذي حصل للكثير منها، حتى صارت تعمل بطريقة تخدم بها أجندات القوى الدولية، أو ما سماه حاج حمد بالمواطأة العفوية بين التخطيط الاستراتيجي (الغربي) والفعل المبدئي (للحركات الشبابية القتالية المسلمة)، كما توضح أحداث 11 سبتمبر المفتعلة، إلا أنها ومن جهة أخرى كانت تتصف باثنتين:
الأولى: استقلاليتها عن توجيه مؤسسي مباشر واع ومعلن عنه دينيا كان أو سياسيا كما في العالم السني، رغم كون بدايتها كانت بإيعاز غربي مباشر بدفع بعض الشباب العربي لشن حرب بالوكالة بطريقة غير مباشرة، واستناد إلى مبدأ الجهاد.
الثانية: استنادها إلى نهج نصوصي يقوم على الاستلهام المباشر من الموروث المروي عن الله والنبي، فرغم المنظور الاختزالي الذي وسم الحركات القتالية إلا أنها لم تقم على توجيه فردي مطلق مستند إلى نهج لاهوتي سياسيا ودينيا، مستندا مثلا إلى مبدأ المهدوية كما في العالم الشيعي.
كل ذلك جعل العالم السني متشاكلا من حيث المنظور الديني السياسي إلى مناظير:

  1. المنظور الفردي العملي المباشر سلفيه (بن لادن) وأشعريه (الظواهري)
  2. المنظور المؤسسي التابع لسلطة الحاكم سلفيه (الحرمين) وأشعريه (الأزهر)
  3. المنظور الأصلاني (قاعديا) المنظور العلماني (نخبويا) 
  4. بقية الأطياف المختلفة مذهبيا (العرب من غير السنة) وعرقيا (الكرد والبربر)
  5. الواقع الموضوعي المتشكل من كل الأطياف المتقدمة وتحوله إلى منظور مستقل

وبالعودة إلى شعار "الخطر الأخضر" البديل عن نظيره الأحمر، فإن طبيعة الصراع مع الخطرين مختلفة نوعيا، فالصراع مع السوفيات كان صراعا حول تسيد العالم الغربي، رغم كونه هو الآخر صراع ذو جذور عقائدية، فلو نزعنا الغطاء الأيديولوجي، لوجدنا الصراع أرثوذوكسي-كاثوليكي، فهو إحياء مبطن للصراع البيزنطي-الروماني، وهو ما ظهر بشكل أجلى في الحرب الأكرانية الجارية.
أما الصراع مع الخطر الأخضر فهو صراع وجودي، والغريب أن من كان وراء نشوء ظاهرة "الأفغان العرب" هو الغرب نفسه، وأن عقيدة "كبش الفداء" هي التي أدت إلى اختلاق العدو وتسريع ظهوره وتطوره، فالصراع وجودي بحكم أن الثقافة الإسلامية ذات طبيعة ميثاقية تحوم حول نص موضوعي، وواسع بسعة تأويل النص ذاته، تماما كما هي الثقافة الغربية التي هي ميثاقية الطابع، وبالتالي فهي تحمل مضامين مختلفة تماما يجعل منها تحمل بذور ثورية ضد السياق الحضاري الرأسمالي الغربي، رغم كونهما الثقافتان الأقرب إلى بعضها من غيرهما.
لذلك فإن الفرضية هنا هي أن إدراك المنظومة الغربية على ما تنطوي عليه الثقافة الإسلامية انطلاقا من ميثاقيتها وقدرتها على التجدد العقلاني الذاتي، هو الذي جعل من العالم الإسلامي، والعربي في القلب منه، -كما أثبتناه في المقال السابق عن لماذا تعامل الجغرافيا العربية كقوة كبرى رغم ضعفها الراهن؟- هو العالم الوحيد القادر على تقديم بديل فعلي وثوري للمنظومة الثقافية والسياسية العالمية الراهنة، فكيف ذلك؟
لما كان الغرب يدرك جيدا خطورة الثقافة الميثاقية البديلة على هيمنة منظومته، كان لابد أن تكون الخطة مضاعفة تقوم على الجمع بين توجهين:
أولا: إيجاد بديل منافس للثقافة الميثاقية، التي تقوم عليها المذاهب السنية بوصفها الأغلبية المشكلة لديمغرافية العالم العربي، أعني إيجاد ثقافة غير ميثاقية نافية لتوسط النص بين الحاكم والمحكوم، وقبل ذلك وهو الأهم نفي توسط النص بين الإله والإنسان.
 وهو ما وجد بحذافيره في أطروحة "الولي الفقيه" المستندة إلى "نظرية الحق الإلهي" في الحكم، الأقرب إلى منظومة الإمبراطورية الرومانية المقدسة القروسطية، ذلك ما يجعل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الدولة الوحيدة التي حققت أعجب منظومة حكم هجينة ضمن منظومة وستفاليا، بين إطار الدولة الحديثة القائمة على نظرية العقد الاجتماعي في التعاملات الدولية (المواثيق والمعاهدات) والداخلية (النظام الانتخابي وهامش حرية التعبير)، ومضمون النظام السياسي القائم على نظرية الحق الإلهي اللاهوتي مع الامتداد الشيعي خارج إيران (بإنشاء أذرع مذهبية شيعية في عربيا وإسلاميا أو حتى أذرع سنية متشيعة).

الواقع الذي دفع الغرب للتضحية بالعائلة الملكية التي كانت الأقرب إلى الميثاقية سواء في نظام الحكم الملكي العائلي، الأقرب إلى النظام العصبي المستند إلى الشوكة كما نظر له ابن خلدون للعالم العربي، وكذا في تحالف العائلة مع المنظومة الغربية الميثاقية، لذلك ترجحت كفة الخميني على الشاه في قيادة العالم الشيعي، والذي أول ما نادى به بعد "الولي الفقيه" هو "شيطنة الغرب" كخطوة أخيرة ونهائية للقطيعة مع كل ثقافة ميثاقية.


ذلك ما أحدث المواطأة التاريخية بين الثقافتين السنية الميثاقية والشيعية غير الميثاقية ضمن إطار "جغرافية الإسلام"، وهو ما ساعد على تلاشي الفوارق الجوهرية بين الثقافتين عن مرأى العقول، حتى تسمت الدولة الإيرانية باسم "الجمهورية الإسلامية" التي تسلمت تسيير الحركات الشبابية الرافضة للهيمنة الأمريكية والإشراف عليها في العالم العربي. فرغم الحرب العراقية الإيرانية التي كانت عنوانا لقطيعة الأنظمة العربية مع الثورة الإيرانية، مقابل فوران شعبي عربي عام أثنى عليها وتأثر بها، إلا أن الاختلاف المذهبي كان حاجزا للنسج على منوالها بالإضافة إلى الحاجز السياسي للأنظمة التي خشيت من امتداد الثورة إليها، الاختلاف المذهبي كعامل طبيعي حاجب عن الانسياق وراء الثورة لاختلاف السياقات التاريخية والعقائدية، فكان التمايز بين العالمين الشيعي والسني في السبق للثورة في العالم الإسلامي شبيها بسبق الثورة البريطانية البروتستانتية التي بقيت وحيدة حوالي قرن من الزمان قبيل أن تلتحق بقية أوروبا الكاثوليكية انطلاق من فرنسا، وهو ما تحقق في سياق العالم العربي السني انطلاقا من تونس.
ثانيا: إيجاد بديل يصارع الغرب يكون أشبه بالعدو السوفياتي القديم، لا يصارع الغرب وجوديا، إنما صراعا شكليا على الزعامة، وبالتالي فلا بد أن يكون بديلا أيديولوجيا يحاصر البديل الميثاقي، فإبقاء الصراع أيديولوجيا ومهما كانت تكلفته هو أيسر من مواجهة مباشرة مع بديل جذري يمكنه تحقيق تغيير ثوري انطلاقا من مبادئه.
لذلك فقد اشتقت طبيعة المنظومة الحاكمة في إيران، وإضافة إلى طابعها اللاهوتي القروسطي، من منظومة الاتحاد السوفياتي الاشتراكي المنهار، وذلك من حيث استناده إلى أدلوجة "المقاومة" (وسند ذلك هو رضى الاشتراكيين الإيرانيين المشاركين في الثورة على نظام الشاه بالخميني كبديل، ثم الحاصل اليوم من انقلاب القوميين والاشتراكيين في العالم العربي إلى الولاء المطلق للسياسات الإيرانية في العالم العربي، حتى وإن كان ارتزاقا إلا أنه يكشف من جهة أخرى بعض أوجه الشبه واللقاء بين التفكير اشتراكيا والتفكير باطنيا).
 أعني أن روح المقاومة التي تصدّرها إيران ضمن النطاق العربي يمتح من روح المنافسة على زعامة العالم العربي، ليست منافسة للولايات المتحدة فهي أصغر بكثير من ذلك، لكن منافسة الكيان الإسرائيلي، وذلك ما يجعل من المقاومة لا تحمل أبعاد تغيير جذرية في المنطقة العربية، من قبيل تحرير فلسطين، ولا حتى منافسة الأنظمة العربية على الحكم، فهي مستعدة للتعامل معهما ماداما يحققان غايتها في إحياء النزعة الإمبراطورية التي أسسها صاحب الطريقة الباطنية صفي الدين الأردبيلي، لذلك فهي تمرر كل ذلك بخطاب تمويهي تقوي صادر عن النزوع الباطني الصفوي، ومتماه مع السياسات الإعلامية الدولية في التلاعب بالحقائق الفعلية بالطرق المعلومة؛ فإذا سلمنا بأن مواجهة الجمهورية الإيرانية وأصدقائها لـ "الشيطان الأكبر"، كتسمية دينية بديلة عن التسمية الماركسية "الرأسمالية"، كانت النتيجة هي ما حصل للاشتراكيين من انسياق مع المنظومة الرأسمالية وتخليهم عن المبادئ اتباعا للمصالح الشخصية بطريقة انتهازية، وهو ما تسبب في كفران باريتو بالاشتراكية، وهو ما جعل فالرشتين يحكم بأن طبيعة النظرية الطوباوية -التي صنفت المرحلة المشاعية كمرحلة أخيرة في تطور التاريخ- هي التي جعلت كل أو أغلب الاشتراكيين في العالم يقبلون بالوضع الرأسمالي وينصهرون داخله بشكل تام، بسند منطقي هو أسبقية الرأسمالية تاريخيا المرحلة المشاعية، كما في النبوءة الماركسية.
وليست النظرية الإمامية إلا الوجه الآخر من الطوباوية الماركسية التي تجعل من رواد وأتباع أطروحة "الولي الفقيه" يقبلون بشكل تام بالوضع الراهن، بسند منطقي هو انتظار المهدي، فما دام لم يظهر فالضرورة تقتضي الرضى بالواقع الرأسمالي، أعني العمل والتعاون مع "الشيطان الأكبر"، وغير خافية هي اللقاءات التنسيقية الحاصلة في بعض دول الخليج بين الأمريكيين والإيرانيين بخصوص الأوضاع في الشرق الأوسط، لقاءات خفية بمضامين أخفى تتناسب مع الباطنية السياسية التي تعتمدها إيران في المنطقة، فضلا التحريف والتزييف الإعلامي الذي تتبناه أمريكا أيضا حول المنطقة، وهذا ما يجعل من المعركة الفكرية، ذات الطابع الإعلامي، سواء البث الإذاعي للأخبار، أو خطابات السياسيين الموجهة للاستهلاك الإعلامي والشعبي، أكبر الرهانات في تحقيق التفاهم السري بين الطرفين الأمريكي والإيراني، وهذا ما يجعل الوعي الشعبي العام في العالم العربي مضللا بإعلامه ذاته، فضلا عن أنها تفاهمات تجعل الحاكم العربي بين فكي كماشة الصداقة غير المتينة مع الغرب، والشعوب غير الراضية بأوضاعها.

وأخيرا أصل إلى السؤال عن المقاومة الفلسطينية التي تعرف هي الأخرى أصعب معادلة سياسية واستراتيجية يمكن تصورها، فهي المقاومة السنية التي تواجه الاستعمار الاستيطاني الأخير على وجه الأرض، والتي لم تجد داعما لها غير الفاعل الإيراني في المنطقة.
 

حيث الامتصاص الإيراني التام والنهائي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، لا يمكن أن يتم إلا بتشيع أفقي لجميع قياداتها وأعضائها، وعمودي منتهاه التشيع العقدي وأقله التشيع السياسي، وهو ما تدرك إيران استحالته، ورغم ذلك فهي تبقي على دعمها المادي لحماس اضطرارا، لأنها الشعرة الأخيرة المتبقية في يدها لاستمالة المقاومة وإبقائها على خطاب الثناء الإعلامي المستمر لإيران، إذ هنا تحديدا نتبين سر التفاهم المتواصل بين قيادات حماس وإيران، رغم أن الأخيرة لم تقدم دعما جديا لها في مواجهة العدوان، فهو دعم مسقوف أمريكيا، وهو ما تدركه حماس التي تدرك أيضا أن قطع الحبل مع إيران يعني نهاية ثقب التنفس الوحيد الذي بقي لها(حتى قطر التي تأوي قيادات حماس وتقدم الدعم السياسي فضلا عن تركيا وباكستان، لن تقدم دعما ماديا ذا بال لحماس، ما دام الفاعل الغربي يمنعها من ذلك حفاظا على إيران كداعم مادي رئيسي وحيد.).
تبقى هجمات السابع من أكتوبر التي اتفقت الأغلبية من المراقبين على عدم علم إيران المسبق بها، هو حدث فاصل، فرغم المبادرة الانفرادية لحماس إلا أن ذلك لم يجعل إيران تنقطع عنها نهائيا رغم الانزعاج غير البادي عليها، والذي تجلي طبعا في إعلان حزب الله عدم الدخول في المواجهة لصالح غزة (أما تحريك الذراع الإيرانية في اليمن لمواجهة إسرائيل فهو أسخف من أن يصدقه عاقل متابع لمجرى الأحداث الفعلية، أما المستفاد الاستراتيجي لإيران من الحركة على البحر الأحمر وباب المندب، بعد الاستفادة الإعلامية، هو حسب أستاذنا أبي يعرب تحضير للإطباق على الحجاز كآخر الأهداف الجغرافية التي تخطط إيران السيطرة عليها بعد سيطرتها على بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، فلم يبق إلا بلاد الحرمين لاستتباعه إلى نظام ولاية الفقيه، وهي المناطق التي اتضح أنها لم تجن إلا اليباب والخراب بعد سيطرة نظام الملالي عليها..).

 لكن سياسيا تمسك إيران من الجهة الأخرى بشعرة حماس لئلا تنكشف إعلاميا وسياسيا، لذلك الوضع حاليا هو على ما هو عليه، وهو وضع غير من موازين التبعية وجعل من حماس السنية الحليفة لإيران الشيعية تفرض وضعا على إيران لم تكن تتمناه أو تتصوره، تماما مثلما فرضت أحداث السابع من أكتوبر وضعا على إسرائيل غير مسبوق.

وهنا قطب الرحى الذي جعل من إنسان العالم العربي يبادر لأول مرة في تاريخه الحديث على الإقدام على فعل استراتيجي يجعله في موقع السيد الفاعل، لا التابع المنفعل، وهو ما سينعكس بالضرورة على نظرة الآخرين إليه، بأن وضع حجر الأساس في تاريخ التحول من الانفعال السلبي في التاريخ، إلى الفعل الإيجابي، الذي سيفتح صفحات جديدة في تاريخ العالم العربي ومنه الإسلامي، فلا يمكن تصور قيام العالم الإسلامي من دون قيام العالم العربي من منطلق ذاتي، بل من أن يكون أول من يقوم بتأسيس فعلي للإرادة السيادية في التاريخ انطلاقا من قلبه فلسطين.. فإذا أضفنا إليها النهضة التركية والاستفاقة الباكستانية ومحاولات الربيع العربي الكارة والفارة كان التنبؤ بميلاد تاريخ جديد خبرا عن ميلاد إنسان جديد للمنطقة حقيقة بازغة لا يكاد المنكر ينكرها حتى يحرقه وجهها، والله الموافق والقادر على كل شيء.