كانت قيساريّة مقر القيادة العسكرية في ناحية فلسطين لدى البيزنطيين، وتولّى قيادتها كبار نخبتهم السياسية والعسكرية، وكانت من الأهمية بحيث كان قسطنطين ابن القيصر هرقل قائداً عليها ومعه ثمانون ألفاً من الروم والعرب المتنصرة والروسية.
كانت قيسارية آنذاك ميناء عظيماً به عشرات الأسواق المركزية، وكانت واحدة من أمنع المدن وأشدّها تحصيناً، وهي مركز تجميع عسكريّ ضخم، يحرسه عشرات آلاف المرتزقة، وتتحدث المصادر أن أكثر حراسها كانوا من الـ.ــ.ـيهـ.ـود، بل إن بعضهم بالغ فأوصل عددهم إلى مائتي ألف.
كانت قيسارية ضمن مناطق عمليات يزيد بن أبي سفيان في أجناد فـ.ـلـ..ـسـ.ـطين، وكان يوجّه لها أخاه معاوية لقطع طريق الإمداد القادم منها، ومحاولة عزلها عن محيطها، لاسيما أن سفن الإمداد البشريّ واللوجستي كانت تصلها كل يوم من مدن الأناضول الخاضعة للحكم البيزنطي آنذاك.

عانى جيش الفتح كثيراً في الحفاظ عليها إذ حاصروها كثيراً على مدار خمس سنوات دون نتيجة، وفقدوا فيها جنداً كثيراً وأسرى كثيرين، وقاد الزحوف إليها عمرو بن العاص وعِياض بن غَنْم وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية وسعيد بن عامر وحبيب بن مسلمة، ولم يثبتوا فيها إلا في سنة 20 هـ من خلافة الفاروق عمر بن الخطاب.

وكان مما كتب الفاروق عمر إلى يزيد من أوامره بالزحف إليها، مشيراً إلى قيمتها الاستراتيجية: (لا ينبغي افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع مقام أهل قيسارية فيها، وهم عدوكّم إلى جانبكم، وإنه لا يزال قيصر طامعاً في الشام ما بقي فيها أحد من أهل طاعته متّبعاً، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام).
كانت قيسارية آخر الحصون الكبيرة التي افتتحها جيش المسلمين، وسخروا لها آلة عسكرية كبيرة تقذف مقذوفاتها من ستين منجنيقاً، وشارك في معاركها كل أجناد الشام، وكانت اقتحام ثغراتها خطراً جداً حتى أمر الفاروقُ القائدَ الميدانيّ معاويةَ أن ينهض بنفسه لاقتحام الثغرات في عمليات خاصة فكان معاوية يقتحم ويقول مفتخراً على العدو لا يرفّ له جفن: "أنا ابن عنبسة" أي الأسد.

لم تكن المعركة سهلة على المسلمين وظهر من قصة أسر الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي في قيسارية حجم أسرى المسلمين في المعركة والتعذيب الشديد والقتل الذي لاقوه من البيزنطيين الذين خسروا كنيستهم الأمّ، وفي القصة يطلق حاكم قيسارية سراح 300 أسير مسلم نظير أن يقوم عبد الله بتقبيل يده في محاولة منه لكسر صلابته وإظهار ضعفه، فقبّل الفاروق عمر يدَه وأمر الناس أن تقبل يده إجلالاً لصنيعه الذي استنكره بعضهم حينها.

وبادر القائد معاوية إلى اتباع سياسة ضغط على الرومان من خلال وجود عدد كبير من أسرى قيسارية عنده، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يحبس الأسرى عنده ويعاملهم بالمثل، ويقول: (ما صنع ميخائيل -أحد قادة الروم- بأسرانا صنعنا بأسراهم مثلَه، ففطمه عن العبث بأسرى المسلمين حتى افتتحها).
ولمّا افتتحها الجيش أرسل معاويةُ بن أبي سفيان قائدُ العمليات رسولَه إلى الفاروق في المدينة، فلما دخل البشير بخبره كبّر عمر، ونادى: ألا إن قيسارية فتحت قَسْراً! وكبّر، وكبّر المسلمون. وإنّا لنرجو أن نشهد يوم فتحها مكبّرين، وما ذلك على الله بعزيز!