"الله عزّ وجل هو موضوع الجمال"؛ عبارة قرأتها للشيخ أبو حامد الغزالي في كتابه "كيمياء السعادة"، وحاولت إسقاطها على كل شيء جميل يصادفني… وأتساءل هل الله في هذا الموقف الجميل هو حقا موضوعه؟، و كلمة موضوعه هنا تعني أن يكون لبَّه وما يدور حوله، قادني بعد ذلك هذا التحليل الى الغوص أكثر في ماهية الجمال وما كل ما يجتمع معه.
ما هو الجمال؟!
و ما أثر رفع قيمة الجمال على حياة الفرد والمجتمع؟
و هل للفن والجمال علاقة بالتطور الحضاري للأمم؟
يطلق مصطلح الجمال أو كلمة "جميل.. مبهر" على كل شيء يحرّك مشاعر الإعجاب والذهول، سواءً لغرابته، أو تميزه في شكله ....أو حتى في معانيه.
لذلك لن تجد تعريفا واضحا دقيقا له، كونه يرتبط بأذواق الناس واختلاف أعرافهم وثقافاتهم، وقد حاول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله أن يضع تعريفا فقال : "الجمال حسن كل شيء في كماله الذي يليق به"، و كثيرا ما يُعتمد على جمال الظاهر فقط، أي ما يلفت الإنتباه و يخطف الأبصار لذلك تفننت الشركات ومؤسسات الدّعاية من خلال وسائل الإعلام للترويج لمنتجاتها مستعملين قوالب خاصة توحي للمستهلك ضرورة اقتناءها سواءً من خلال الأشخاص الممثلين للدعاية ( أجسامهم المنحوتة، ابتسامتهم الناصعة البياض، الملابس والمنازل الفخمة ..)، أو من خلال التركيز على ماركات ومستحضرات تجميل معينة .
طبعا المختصّون في التسويق يستطيعون تحليل ذلك بشكل أفضل و أدق، ربما هو من الناحية الاقتصادية يزيد من نسبة الشراء ويساهم في زيادة الاستهلاك، ولكن على حساب الاقتصاد الوطني خاصة إذا كانت المنتجات المسوّق لها أجنبية، على العموم سياسة التقليل من استيراد المنتجات الأجنبية التي انتهجتها الحكومة العام الفارط ربما ستقلل من حجم الطلب عليها وبالتالي سيلتفت المواطن الى المنتجات المحلية، ولكن هل فعلا هاته الاَلية تزيد من روح الجمال في الشخص و المجتمع؟ الإجابة هي 'لا' طبعا.
خلال مسيرتي في مجال التطوير الذاتي وبحثي عن مدى أهمية الوعي ببعض القيم والمصطلحات التي تداولت مؤخرا بشكل أكثر شمولية وقرب من الإنسانية : كالحب، السلام، الجمال، الشغف، الفن...و غيرها، ولما كان الأثر الفعلي الدائم يبدأ من داخل الإنسان وكينونته متجها نحو الخارج (بيئته وعائلته...)، أطلقتُ مشروع "صنّاع الجمال"، والذي يهدف إلى إحياء قيمة الجمال الداخلي ورفع مستوى الوعي به مما ينعكس على الخارج ويظهر على ملامح الجسد، البيئة المحيطة والمجتمع، وركزت فيه رفقة فريق من الزملاء من تخصصات مختلفة على تفعيل القدرة على رؤية البعد الجمالي في الأشياء لدى الآخر.
وعلى منصات التواصل الاجتماعي كانت البداية من خلال صفحة على الفيسبوك والانستغرام، وكذلك قناة على التلغرام ...ثم إلى ورشات ميدانية من تأطير مدرب مختص في علم النفس الايجابي للتوعية بأهمية معرفة القيم الشخصية والتي قسمت إلى 12 صنفا ترتيبها يوجهه إلى اختيار التخصص الأنسب له، ومن بينها القدرة على رؤية الجمال أو "الحسّ الجمالي" أولئك عادة يكونون ناجحين في المجالات الفنية بشتى أنواعها.
ومن بين ثمار المشروع كان "كتاب أربعينية الجمال" الذي أشرفت عليه شخصيا والذي هو عبارة عن 40 يوم من التوكيدات الإيجابية المعززة لفكرة إحياء الجمال الداخلي من ناحية الوعي بمفاهيم فكرية، نفسية و كذلك جسدية من الفطرة التي جبلنا عليها قال تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" أجبرتنا البرمجات الموروثة من المجتمع على التخلي عنها أو بالأحرى نسيانها واستبدالها بأخرى سطحية ضارة أكثر منها نافعة، ارفقتها بنصوص شارحة، تمارين تطبيقية لتعديل الروتين اليومي وكذا قصص لتجارب نجحت في عيش حياة الصحة والشباب الدائم.
لماذا اخترت التوكيدات ؟ لأنّ كل البرمجات تثبت في العقل اللاواعي من الجمل المتكررة سواءً مقروءة أو مسموعة إحدى الوسائل الفعالة لصناعة الواقع الذي يريده الشخص بكل يسر وسهولة ...
فعندما تتحمل مسؤولية حياتك وتؤمن أنك الوحيد القادر على تغيير واقعك متى ما اتخذت الخطوات التي توصلك الى هدفك، فالكون مبني على سنن وقوانين وضعت من قبل خالقه منذ الأزل، وكل من يسير وفقها يحصل على نتائجها … وعلى الواحد منا أن يختار الإحتمال الأفضل والأنسب له.
ستتعرف أكثر على معنى الجمال الحقيقي الذي منبعه مصدر الخلق كله "الله"؛ الخالق البديع المصور، ويجعلك تشعر بشتى أنواع الاستمتاع، البهجة، اللطف، المحبة ...الإمتنان، الشكر، التعظيم لخالق الجمال وخالقك. والجمال في الأشياء من نعم الله تعالى علينا، كجمال مخلوقاته الكونية التي سخرها لنا، قال تعالى: «انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» سورة الأنعام:99، وفي خلق السماء بما فيها من نجوم وكواكب، قال سبحانه: «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ» سورة الحجر:16، يقول : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ جميلٌ يُحِبُّ الْجَمَال».
فى دراسة حول فنون العمارة الأندلسية وأثرها فى الحضارة الأوروبية والتى جاءت تحت عنوان: «التواصل الفنيّ بين مملكة غرناطة وقشتالة» أكد الدكتور حسام أحمد مختار العبادى -كلية الآداب، قسم التاريخ والآثار بجامعة الإسكندرية- أنّ مفهوم جمالية الفن القشتالى خضع لتأثيرات ثقافية ناتجة من التعايش المجتمعى مع مملكة غرناطة المتزامنة مع الإرهاصات الأولى للنهضة الحضارية القشتالية، وأن التأثير الناتج عن وجود مصدر فنيّ قويّ متمثلًا فى مدينة غرناطة وريثة الحضارة الأندلسية التى كانت مصدر إهتمام ألفونسو العاشر، ليس فقط فى مجال العلوم المختلفة، بل أيضًا بمجالات الفنون والعمارة، وحتى أكون واقعية أكثر فمدينتي سيدي بلعباس هي إحدى الولايات الجزائرية التي مازالت الهندسة المعمارية الفرنسية قائمة فيها حتى لقبت بـ 'باريس الصغيرة'، كون المستعمر حينها أنشأ فيها شوارعَ مشابهة تماما لشوارع العاصمة باريس.
من الواضح أنه كلما رأينا أنماط العيش ونماذج الحياة في العالم كلما زادت قدرتنا على التخطيط للمستقبل، فتناغمنا مع الطبيعة الكونية يزيد من خلال حساسيتنا الخيالية والذي يعزز من قدرتنا على فهم العالم من حولنا وزيادة قدرتنا على البقاء.
والتي تظهر جليّة في مراسيم الإحتفالات ومظاهر البهجة التي تكون فيها العناصر التناسقية عبارة عن أشكال متناهية الدقة، حيث تعمل على التخفيف من وطأة القلق و تقوية الروابط الاجتماعية خاصة تلك التجمعات الهادئة والتي من المؤكد أنها تعمل على نقل القيم الثقافية بين الشعوب والمجتمعات والأجيال.
أجل إنه 'الحبّ' رسول السلام بين الشعوب والأمم، فحب الاكتشاف والتطلع على ثقافات الغير يعمل على توسيع الآفاق والاستزادة من رفاهية الحياة وعيش جنة الله على الأرض استعدادًا لجنة السماء، فالحكمة ضالّة المؤمن، وكلّما ارتقى الإنسان في درجات وعيه أصبح يتصرف بحكمة أكثر وإنسانية أكثر محترما جميع الأعراق والثقافات والديانات والفنون، كجزء من هوية كل مجتمع يتعامل معه،والمتتبع لأخبار الدول والمجتمعات يلاحظ أن الدول الأكثر تقدما هي الأكثر اهتماما بجمال بيئاتها والأكثر احتراما لمعالمها الأثرية أو الدينية وتنوع ثقافتها الذي ينعكس جليا على سعادة شعوبها، فمتى يُحترم الفن ويعكس حقيقة الكيان الحضاريّ للشعوب؟.