المتأمل في قوله تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [1]، يجد أن الله تعالى عزّ شأنه طلب منا وكلفنا بعمارة الأرض وإصلاحها والنهوض بها، والعمارة تشمل كل ما فيه نفع للبشرية وإصلاح لواقع الحياة على كل المستويات.
الملفت للنظر في زماننا أن الآخرين قد سبقونا في إعمار الأرض ووصلوا إلى مراحل متقدمة ونحن تأخرنا، بل هم يسعون سعيا حثيثا للتقدم، ونحن نسعى سعيا حثيثا للتأخر، وللأسف فبلاد العرب والمسلمين لا زالت تنتظر قوتها ومركوبها ولباسها وسلاحها وعلاجها ووسائل اتصالها وتقنيتها من الآخرين، إذ لا يوجد هناك تخطيط جاد لعمران الأرض وبناء الحياة من جديد.
إنّ أمة الإسلام هي أمة الإبداع وصانعة الحضارة، وكتب تراثنا بنى عليها غيرنا اكتشافاتهم واختراعاتهم، فمن يسعى في الأرض بكل جد، إن الله لا يخيب سعيه، هو قانون إلهي نافذ قال الله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾[2].
إنّ عمران الأرض ضرورة واجبة على هذا الإنسان لئلا يعيش عالة على غيره، ولو أنه أعمل فكره لاستطاع أن يستخرج ما في الأرض من كنوز ومعادن وذهب وفضة ونفط وثروات.
ولو أعمل المسلم- المكلف بالإعمار قبل غيره- عقله لغاص في أعماق البحار والمحيطات، لاستخرج اللؤلؤ والمرجان والدر واليواقيت، وعاش على خيرات البحار وما أودع الله فيها من أسرار هائلة وأرزاق وفيرة.
ولو تعمق في دراسته وبحوثه لاخترق أجواز الفضاء ووصل بسلطان العلم إلى فوق السحاب واختصر الزمان وقرب البعيد وتحكّم في العالم ووجّه البشرية إلى الرشد، لكن مرت على أمتنا فترات نامت فيها نوما عميقا، فلم تستيقظ حتى سبقها الركب بمراحل، ولازال الكثير من أبناء أمتنا يغط في هذا السبات أو يعيش في بروج الأحلام والأماني، حصل الضعف بسبب هذا النوم الذي ذهب بها كل مذهب بل ونجد من يدمر أمته بيده ولا يريد لها النهوض أبدا.
ليس للمسلم أي عذر في التخلف عن عمارة الأرض حتى وإن رأى زوال الكون ودمار الحياة أمام عينيه، وهذا ينبئك بضرورة إعمارها وقتل اليأس والكسل واللامسؤلية، ففي الحديث الصحيح عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع ألا يقومَ حتى يغرِسَها فليفعل)).
فهل ترى فلسفةً في قضية إعمار الأرض أعظم من هذه الفلسفة النبوية الراشدة؟!
كثير من الناس ينظر إلى أنّ قضية الزهد في الحياة والخشوع والتقلل من الدنيا وتطليقها أقرب إلى الله، وكل ما سواه يودي إلى البعد والهلاك ولم يقرؤوا حديث الدارقطني عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((التاجر الصَّدُوق الأمين المسلِم مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء يوم القيامة))، إنه ينفع نفسه وأمته ويقيم أودَ الحياة، لربما سيشبع بطونا جائعة ويقيم مشاريع متعثرة ويحيي موات الأرض.
لو تأملنا فيما أنعم الله به علينا لوجدنا تسخير هذا الكون كي تسهل العمارة ويكون بناء الحياة سلسا قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [3]، فالكون سهل مذلل لنا بأمر الله تعالى الذي خلقنا وخلقه، بل إن اللهَ تعالى أمَرنا -على سبيل الوجوب- بالعمل الدؤوب وعمارة الأرض والاجتهاد في ذلك، قال سبحانه: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.[4] إنّه أمرٌ صادر من قبل المولى عز وجل، ليس لنا أن نتخلف عنه بأي حال من الأحوال، ينبغي على الأمة اليوم أن تتفاعل مع قضايا الإعمار لتكون مُنتجة بدل أن تكون مُستوردة، وقائدة بدل أن تكون مَقُودة.
[1] [هود: 61]
[2] [هود: 15]
[3] [لقمان: 20]
[4] [التوبة: 105]