لا يقومُ العُمران في البشرية إلا بقيامه في الذات الإنسانية، ولا يقوم العمرانُ في الذات بصورة أحادية تفصلُ بين الروح والجسد، إذ لابد للناس من روح تستعلي بهم على المادة ليس انفكاكاً عن عالمِ الدنيا ولكن توفيقاً ومزاوجةً بين السماءِ الأرض، وهل يتمُ ذلك التزاوج الذي يدشن النهوض والعُمران دون تلك العبادات الفريدة التي تعكسُ توازن النفس روحاً ومادة وحضارة وثقافة؟!

وقد عبّر الله في القرآن عن تلك المزاوجة أو الموافقة بين الدنيوي والأخروي فقال:" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ".[1]  فكأن الإخلال بمعادلة الدمج بين مقصد الآخرة واستحضار النصيب الدنيوي هو إبتغاءٌ للفساد في الأرض بصورةٍ أو بأخرى، فالجمع بين هاذين العالمين هو أصلُ العُمران.

العيد هو فرحةٌ للمسلم بعد تأديته فريضةً جليلة إجتمع فيها حجبُ الذات عن الملذةِ المفرطة وطغيان الطين فيها مع الفرح بنعمةِ اللهِ عند الإفطار، فهو تتويجُ لعملٍ جليل ذو رسالة عمرانية فسيحة في نفوس المسلمين تنميةً لقدرتهم واستكشافاً لقوتهم المكنونة فيهم شحذاً للإرادة واستنباتاً للحرية وسيطرة على الذات. وقد أشار الشاعر والفيلسوف المسلم محمد إقبال لتلك الناحية العميقة التي يعالجها الصوم فقال:
يا أسير الطينِ فكّر** أنت عن قلبكَ غافلْ

أولا: هناك عدة معالم لعمرانية العيد

  1. لا يتم العمران في الأمم إلا بعمران النفوس وعيدُ الفِطر احتفاء بإنجاز مشروع الصيام الذي هو عمود الإعمار للنفوس طاعة لله ومزيجاً بين المادةِ والروح.
  2. لا يتم العمرانُ إلا بالإرادة الحرة في نفوس الجميع وعيدُ الفطر احتفال بغلبة الإرادة الحرة على الشهواتِ والترف والبزخ والرقود.
  3. لا يتم العمران في مجتمع ممزق النسيج وعيدُ الفِطر أهمُ مظاهره التكافل، بل أعظم مقاصده زكاةُ الفطر التي يتطهر بها الفرد في إطار الجماعة فيدور الإنفاق على الفقراء فيُرتق النسيج وتتوحد الأفئدة.
  4. لا يقوم العمرانُ دون أنسٍ مع الله يتلقى منه الناسُ طاقتهم الروحية للبناء فيتبصروا معالم الطريق ويؤصلوا قيمهم على هدي الوحي الراسخ، وهناك لفتة عظيمة في سورة المزمل أشار بها الله تعالى لهذه الناحية العظيمة في تكوين الفرد والجماعة فقال الله:" إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا *إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا". [2]

فكأنّ ذلك القول القرآني الذي يحملُ قيم الرشد والنهضة لا يقومُ به إلا من سقى روحه من نفحات الليل أنساً بالله واتصالاً بقوته وملكوته، وهل العيدُ غير فرحةٍ بذلك الحصاد العظيم من روح الإتصالِ بالله الذي ينبغي أن تمتد آثاره إستئنافاً للمسير الحضاري وتصحيحاً دؤوباً لخطى المسلمين في شئون عمرانهم!

ثانيا: عيد الفطر جسرٌ بين شعيرتين

يعتبر عيد الفطر جسرًا بين شعيرتين عظيمتين تعكسان روح الجماعة هما شعيرتي (الصيام والحج)، والحجُ مؤتمر إسلامي تتجرد فيه النفوسُ عن أنانية القومية أو الشعوبية، فعيدُ الفطر جسر بين شعيرة الصوم التي تعالج ما في النفس من عِلل وبين شعيرة الحج التي تعالج عِلل المجتمعات والأفراد أفواجاً، وهل فوق ذلك عُمرانْ؟!

إن ثنائية الفرد والجماعة هي ثنائية ظلت تتحكم في فلسفات الحضارة وطرق العمران البشري والمادي، بيد أن الإسلام قام ليعالج هذه الإزدواجية عبر الإيمان والعبادات التي تصوغ الفرد المسلم والجماعة، فلم يأت الإسلام ليجعل الأفراد منعزلين عن واقع الحياة فمع ذلك يستحيل العمران، ولم يأت لجعل الحياة رهينة للمادة التي تستنزف الذات في الشهوات وتخور فيها قوى الإنسان الروحية الباعثة لنهضته، بل جاء الإسلام بنوع من التوازن يحقق العمران بصورتيه المادية والروحية، وقد اكتشف المفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش هذه الناحية في تركيبة الإسلام فذكر قائلا:
"في الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته، يُبدي واقعيةً شديدة؛ تكاد تلغي البطولة عندما يتعامل مع الإنسان كفرد.

فالإسلام لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان؛ إنه لا يحاول أن يجعل منا ملائكة؛ لأن هذا مستحيل، بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانًا.

في الإسلام قدرٌ من الزهد؛ ولكنه لم يحاول به أن يدمر الحياة، أو الصحة، أو الفكر، أو حب الاجتماع بالآخرين، أو الرغبة في السعادة والمتعة.

هذا القدر من الزهد أُريد به توازنًا في غرائزنا، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروح.. بين الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية.

وهكذا- من خلال الوضوء والصلاة والصيام وصلاة الجماعة والنشاط والملاحظة والنضال والتوسّط يواصل الإسلام عمل الفطرة في تشكيل الإنسان. لا مكان هنا لمقاومة الطبيعة" [3]

الخلاصةُ

أن عيد الفطر بتأملٍ بسيط يمكن أن نراه معبراً عمرانياً وحضارياً يعكس عمق الشعائر وترابطها ويجمع بين مقاصدها العليا في حياة الفرد والجماعة، فعيدُ الفطر ختامُ لشعيرة بناء الذات متمثلةً في الصوم، وتدشين لشعيرة بناء الجماعة متمثلة في الحج، وكِلا الشعيرتين تطهيرٌ لأمراض المجتمعات وعِلل الشعوب وأدواء الحضارات. وبهذا نرجوا الله أن نكون من المتقين الذين ذكرهم الله بتعظيمهم شعائره فقال: " ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ".


[1] سورة القصص، الآية 77.
[2] سورة المزمل، الآيتان 5 و6.
[3] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب.
[4] سورة الحج، الآية 32.